شرعت الحكومة التركية في الأعمال التمهيدية لعمليات إعادة إعمار 11 ولاية جنوب البلاد، تعرّضت لسلسلة زلازل وهزات ارتدادية عنيفة منذ 6 فبراير/ شباط الجاري، إذ ستركّز المرحلة الأولى من الجهود الرسمية على بناء مساكن للمشرّدين بالمناطق المنكوبة، وأكّد وزير البيئة والتوسع الحضري التركي، مراد قوروم، أن “أعمال الحفر تجرى في بلدتَي نورداغ، وإصلاحية بولاية غازي عنتاب، وأن الحكومة تخطط، مبدئيًّا، لبناء 855 منزلًا”.
ونشر الوزير فيديو يُظهر تمهيد الحفّارات لمناطق البناء المحددة رسميًّا، كما طرح نماذج مصوّرة للمباني المستهدف تشييدها وفق الهندسة المعمارية لكل منطقة، مع مخططات ومعايير خاصة لمقاومة الزلازل بالولايات المنكوبة، فضلًا عن نماذج للبناء بالقرى والأرياف، قائلًا: “كل جهودنا موجّهة لإعادة بناء المنازل لمواطنينا في أسرع وقت ممكن.. بدأنا العمل، فورًا، في المناطق التي وقّعنا فيها العقود، وأكملنا أعمال المسح الأرضي”.
وأصدر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مرسومًا جديدًا يتضمّن عدة قواعد، من بينها السماح للأفراد والشركات والمنظمات الخيرية بـ”بناء منازل ومكاتب والتبرع بها لوزارة التوسع العمراني، كي تمنحها للمتضررين” الذين يحتاجون وحدات بديلة عقب فقدان منازلهم أو أعمالهم، بعدما تعهّد، في وقت سابق، بـ”إعادة بناء المنازل المتضررة في غضون عام”، بالتزامن مع تشدُّد الحكومة، حاليًّا، في مواجهة مخالفات البناء ومحاسبة المسؤولين عنها.
وتشير تقديرات أولية إلى تضرر أكثر من 380 ألف وحدة بنطاق 118 ألف مبنى تعرّض للانهيار أو يتطلّب الهدم، من أصل 2.5 مليون مبنى بالمناطق المتضررة، فيما تتّجه الحكومة (بمعاونة القطاع الخاص) إلى بناء 200 ألف شقة و70 ألف منزل قروي في المرحلة الأولى، بقيمة إجمالية تصل إلى 15 مليار دولار، وأوضح وزير التوسع الحضري أن مساحة الوحدات السكنية الجديدة ستصل إلى 105 أمتار.
ويتراوح سعر المتر المربع (بحسب الأرقام الرسمية هذا العام) بين 6 و8 آلاف ليرة، لكن التكلفة لا تشمل التشطيبات، وبإضافتها سيصبح السعر حوالي 10 آلاف ليرة، وفي المرافق العامة (المساجد، المدارس والوحدات الصحية) والمرافق الاجتماعية وتكلفة البنية التحتية الأساسية (الطرق، المياه، الكهرباء والصرف الصحي)، سيصل سعر المتر المربع إلى 15 ألف ليرة دون شموله “حصة” في الأرض أو تكلفة التأمين.
وقال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إن كارثة الزلزال شرّدت حوالي 1.5 مليون شخص، بعدما تعرض أكثر من 160 ألف مبنى للانهيار أو الضرر الشديد، بينها حوالي 520 ألف وحدة سكنية، ووفق التقديرات نفسها فإن عملية إعادة الإعمار تتطلب إزالة ورفع كميات تتراوح بين 116 و210 ملايين طن من المخلفات (الأنقاض)، علمًا أنه خلال الزلزال السابق الذي ضرب شمال غرب تركيا، عام 1999، لم تتجاوز الأنقاض الـ 13 مليون طن.
اعتراضات هندسية وجيولوجية
يعدّ إحلال المباني المهدمة ورفع الأنقاض خطوة تمهيدية لإعادة إعمار المدن والقرى، بناء على بيانات علمية تفرض نفسها على الجهات المنفّذة، حتى لا يتم البناء على خطوط الصدع الزلزالي، بهدف الحد من أي مخاطر مستقبلية على المقيمين بولايات الجنوب، فيما حذّر خبراء ومهندسون من سرعة إعادة الإعمار في تركيا، وضرورة التخطيط الجيد وسلامة المباني وتطبيق معايير الأمن والسلامة ضد الزلازل، حتى يتم تشييد مبانٍ أكثر أمانًا للسكان.
وشددت الرئيسة السابقة لغرفة المهندسين المعماريين في إسطنبول، إيسين كويمين، على “إعادة تخطيط المدن بناءً على البيانات العلمية، ومنع البناء على خطوط الصدع، وضرورة تعلُّم الدروس من أخطاء الماضي”.
وكالة الإسكان الحكومية (توكي) شيّدت حوالي مليون منزل مقاوم للزلازل على مدى العقدَين الماضيَين، ما يعادل 5% من المباني في تركيا
كما طالب نائب رئيس غرفة المهندسين المدنيين، نصرت سونا، بـ”عدم سرعة البناء خلال عام واحد، خاصة أن وضع مخططات جديدة للمدن المتضررة يحتاج عدة أشهر”، وقال عالم الزلازل التركي، ناجي جورور: “سرعة بناء منشآت خرسانية بالمناطق المتضررة، بالتزامن مع توابع الزلازل الحالية، قد يتسبّب في تشقق الخرسانات”.
لكن وزير التوسع الحضري التركي أكّد أن “الحكومة تدرس المسوحات الجيولوجية التفصيلية في خطط إعادة الإعمار المرتقبة، وأنه سيتم طرح عطاءات”، مذكّرًا أن وكالة الإسكان الحكومية (توكي) شيّدت حوالي مليون منزل مقاوم للزلازل على مدى العقدَين الماضيَين (تعادل 5% من المباني في تركيا)، فيما بنى القطاع الخاص أكثر من مليونَي منزل مقاوم للزلازل خلال الفترة نفسها.
وخلال الـ 20 عامًا الماضية من حكم أردوغان، ازدهر قطاع العقارات والتطوير العمراني، حتى أصبح عنوانًا للنمو الاقتصادي، باعتباره أحد مظاهر خطة التحديث الشاملة في البلاد عبر الكثير من المرافق (التجمعات السكنية، الطرق، المطارات، المدارس والمستشفيات)، ووفّرت حركة الإنشاءات ملايين الوظائف، وزادت المعروض من الوحدات السكنية، كما عززت مكانة أردوغان وحزب العدالة والتنمية (الحاكم) سياسيًّا، خلال الفترة المذكورة.
الرئيس يحدّد الرؤية
أعلن وزير التوسع الحضري عن “أكبر عملية بناء سكني في تاريخ تركيا خلال عام واحد”، فيما تعهّد أردوغان بـ”إعادة إعمار المناطق المنكوبة في غضون عام“، مبشّرًا بـ”وضع حجر الأساس لـ 200 ألف مسكن في ولاية هاتاي في شهر مارس/ آذار المقبل”.
حيث قال: “بدأنا العمل عبر تشييد 9 آلاف و550 مسكنًا بعثمانية، وتم تفقُّد خطوط الكهرباء والمياه والغاز الطبيعي بالولايات المنكوبة.. وصلنا إلى مرحلة اتخاذ خطوات ملموسة بشأن الوحدات السكنية الدائمة، وسنبدأ في بناء 45 ألفًا و67 وحدة سكنية بقهرمان مرعش في مارس/ آذار”.
ومن داخل مقرّ هيئة إدارة الكوارث والطوارئ في ولاية هاتاي، قال أردوغان: “سنعيد بناء جميع مدننا بمنازلها ومحلّاتها التجارية ومراكزها الصناعية والزراعية، مع مراعاة قيمها التاريخية والثقافية، ودون السماح بأدنى تراجع أو إهمال.. لن نترك أبدًا أيًّا من مواطنينا وحيدًا في ألمه ولا في مرحلة إعادة ترتيب حياته أو بناء مستقبله.. بدأ تقديم خدمات البنية التحتية بحذر. الحمد لله، كافة طرقنا مفتوحة أمام حركة المرور”.
وقال أردوغان خلال زيارته مدينة إصلاحية بغازي عنتاب: “مصممون على تحويل مدننا إلى مستوطنات آمنة وسليمة من خلال اتّباع نهج جديد.. سنبني منازل تتماشى مع النسيج المحلي.. سننشئ مدينة غازي عنتاب مجددًا، ونحافظ على هويتها التاريخية وبنيتها الديموغرافية.. هدفنا إحياء قرانا في غضون عام، تمامًا كمراكز المدن، بما يتماشى مع هندستها المعمارية الأصلية، وتسليمها إلى أصحابها”.
الهوية والتوزيع الديموغرافي
إصرار أردوغان على المعالم التاريخية والمعمارية والثقافية يأتي كونها جزءًا من أولويات عمليات إعادة الإعمار للمناطق المتضررة بعد الكوارث الطبيعية (أو الحروب المدمرة)، ولإعادة الإعمار العمراني عدة مراحل: الحفظ، الترميم وإعادة بناء المناطق المتضررة (الإصلاح والاستبدال الفني وإدخال بنى جديدة)، أما إعادة إعمار الآثار التاريخية فيركّز على الإنتاج الدقيق للمباني المدمرة بالكامل، أو إعادة تأهيلها (الاستعادة) ورفع كفاءتها ودعمها بمرافق حديثة، دون تغيير جوهري فيها.
وتركز عمليات “الحفظ” (الصون) في إعادة الإعمار على شكل وبنية وخصائص المعالم التاريخية الهامة، أما “الترميم” فيهتمّ باسترجاع هيكل الآثار، حتى إن تطلّب ذلك تعويض المكونات المفقودة، بينما “التثبيت” يشمل الصيانة الطارئة للمباني التاريخية الهامة، بهدف التعزيز والتدعيم ومقاومة العوامل الجوية، أما “الإصلاح” فيهتمّ بالبنية العمرانية التاريخية عمومًا (المنازل والهياكل تجارية) التي تتطلب رفع الكفاءة وإدخال التحسينات المطلوبة.
من بين مراحل إعادة الإعمار، أيضًا، ما يسمّى بـ”إعادة الملء” الذي يشمل إدخال هياكل جديدة ومتجانسة لرفع كفاءة المباني، وهناك عملية “الاستبدال” أي إنشاء بدائل متوافقة مع الطابع التاريخي للمباني المحيطة، ويشير مصطلح “إعادة التطوير” إلى المخطط العمراني المتكامل وتجديد المساحات المدمرة وإعادة تأهيلها، مع الحفاظ على نمطها التاريخي، واستبدال المباني المدمرة بشكل محدَّد ومخطَّط بدقّة.
وعند التخطيط لإعادة الإعمار، يقترح الخبراء تحديد الأولويات (التوثيق، تقييم الأضرار، الخطوات القانونية والتخطيط لحماية واسترداد عناصر التراث الثقافي والعمراني المدمر)، من خلال الاستعانة بالخرائط المساحية (تبيّن حدود وملكية الأراضي وقطع الأرض) في الإصلاح السريع للبنية التحتية، وإزالة الحطام، وإعادة فتح شبكة الطرق، وتهيئة المنازل القابلة للسكن، والأسواق الرئيسية، وتثبيت الهياكل التاريخية وإنقاذ المنشآت القيّمة.
يتم ذلك بالتزامن مع تحديد الأولويات الاجتماعية (خطط دعم المتضررين، تنظيم المجتمعات المحلية والمصالح للتصرف بشكل جماعي، وتحمُّل مسؤولية إعادة الإعمار، وتدريب المتطوعين، وتوفير فرص العمل في إعادة الإعمار، مع توفير سكن مؤقت للسكان والمهاجرين السابقين)، بينما تتضمّن أولويات التخطيط تحديد المناطق ذات الأولوية في إعادة الإعمار، تحديد الجهة المشرفة وصلاحياتها، وكل ما يتعلق بعملية إعادة الإعمار.
دور خرائط الأساس
تتطلب عمليات إعادة الإعمار، خاصة في مراكز المدن الحضارية والتاريخية المتضررة (كما بعض ولايات جنوب تركيا) التنفيذ المرن، الذي يسمح بإجراء تعديلات تفرضها الاحتياجات والمستجدّات، مع توفير استثمارات كبيرة وتخصيص فترات أطول لمواجهة الدمار الحاصل، إلى جانب إعادة النظر في التشريعات واللوائح لمواجهة الإعمار الضارّ، لكن يظل السؤال: كيف تكون بداية التحرك في إعادة إعمار اﻟﻤﺒﺎﻧﻲ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ والسكنية والبنية التحتية المتضررة؟ وكيف يتم الحد من خسائرها مستقبلًا؟
إجراء المسح الدقيق لأوضاع ما بعد الكوارث الطبيعية (أو الحروب) ليس مهمة سهلة، بل يستهلك الكثير من الموارد والخطط والوقت، ويستلزم تقييمًا شاملًا للأضرار عبر إجراء دراسات استقصائية وافية على أرض الواقع، تنتهي جميعها عند خرائط الأساس (Base Map) التي تسهّل تحديد مراكز المدن التاريخية، كمناطق ذات أولوية في إعادة الإعمار، وتوثيق النسيج العمراني، والملكيات العامة والخاصة، وطبيعة المنشآت والنمط العمراني.
تحتوي خرائط الأساس على مواقع التجمعات السكانية الحضرية، المباني المنعزلة والريفية، وشبكات ومرافق النقل، خاصة مسافاتها وجهاتها، وشبكات ومرافق الاتصالات والكهرباء
ويركّز خبراء إعادة الإعمار، عند التحضير التخطيطي أو الهندسي، على إعداد خرائط الأساس للمنطقة المستهدَف العمل فيها، أو تحديث الخريطة (إن كانت موجودة قبل الكارثة)، وفي كل الأحوال يتمّ الاعتماد على إحداثيات دقيقة جدًّا والمسح العمراني الميداني وصور الأقمار الصناعية، لتحديد الخصائص الجغرافية والتضاريس والحدود الطبيعية وسمات التراث العمراني والمعالم التاريخية والمنشآت الأخرى.
وتحتوي خرائط الأساس على مواقع التجمعات السكانية الحضرية، المباني المنعزلة والريفية، وشبكات ومرافق النقل، خاصة مسافاتها وجهاتها، وشبكات ومرافق الاتصالات والكهرباء، والمنشآت الصناعية والزراعية والمساحات المزروعة، وموارد المياه والصرف، والغطاء النباتي والمظاهر الطبيعية لسطح وتضاريس منطقة التغطية والارتفاعات عن مستوى سطح البحر، فضلًا عن أسماء الأماكن والمعالم والمظاهر الطبيعية والصناعية.
بعدها يتمّ تحديد الأولويات الحكومية (تتصدرها الموارد المتاحة من الحكومة والمانحين، تحديد الأنشطة المهمة، ووضع وتنفيذ الآليات القانونية الخاصة اللازمة للتعامل مع حالات الطوارئ الاستثنائية)، مع عدم فرض أولويات إعادة الإعمار من المستوى الأعلى، ووضع رؤية مشترَكة من الحكومة والمتضررين حول التراث المعماري واحتياجات الأهالي، من خلال ممثلين للطرفَين في مرحلة التخطيط.
من التخطيط إلى التكلفة
تعددت، خلال الـ 23 يومًا الماضية، التقديرات الأولية لخسائر المناطق المنكوبة من الزلازل جنوب تركيا، إذ أكّدت وكالة “بلومبرغ” أن “كلفة إعادة إعمار المناطق المتضررة قد تصل إلى 5.5% من حجم الناتج المحلي الإجمالي التركي”، وذكرت صحيفة “فاينانشل تايمز” البريطانية أن “إعادة بناء المنطقة الشاسعة التي دمّرها الزلزال في تركيا ستتطلب ترميم مليون مبنى إضافة إلى عشرات المليارات من الدولارات، علمًا أنه لا يزال يتمّ احتساب الخسائر الكاملة للزلزال”.
ويرى رئيس غرفة المهندسين المعماريين الأتراك، أيوب موهجو، أن “نصف المباني البالغ عددها 3.4 ملايين مبنى بالمنطقة المتضررة جنوبي تركيا قد تحتاج إلى الهدم، وأنه من أجل إعادة بناء المنازل سيتم إنفاق الكثير من الأموال على البنية التحتية والمرافق العامة، لا سيما شبكة الطرق، ما يعني أن التكلفة التقديرية الأولية لإعادة الإعمار قد تصل إلى 100 مليار دولار”، وهي عملية “تحتاج لأكثر من عام”، وفقًا للأستاذة بجامعة كولومبيا البريطانية سارة شنايدرمان.
توقّع الكاتب الاقتصادي التركي، ناغي بكير، قيمة كلفة إعادة إعمار الولايات العشر المتضررة في جنوب تركيا، في ضوء الخسائر المبدئية “من 95 إلى 100 مليار دولار”، ومن ثم إن “قيمة تشييد المباني قد تصل إلى 16 مليار دولار (تعادل 300 مليار ليرة تركية)”، و”في حالة إعادة بناء المباني التي شهدت أضرارًا طفيفة سيضاف حوالي 17 مليار دولار أخرى”، أي أن “المبلغ الإجمالي المطلوب قد يتراوح بين 30 و32 مليار دولار”.
وأشار بكير إلى أنه “بجانب تلك التكلفة ستخصَّص مبالغ أخرى لإعادة بناء أو ترميم الطرق والجسور والأنفاق التي تتطلب أموالًا طائلة، وفقًا لحجم الدمار الذي لحق بها، إلى جانب إصلاح وتجديد معظم خطوط الكهرباء والمياه وشبكات الصرف الصحي والبنية التحتية للاتصالات”، فيما قال اتحاد الشركات والأعمال التركي إن “حجم الأضرار الناجمة عن الزلزال الكبير قد يزيد عن 84 مليار دولار”، ما يعادل 10% من الناتج الإجمالي للبلاد.
بدورها، قالت وكالة التصنيف الائتماني “موديز” إن “الأضرار المالية للزلزال تبلغ 25 مليار دولار”، وتشير الحسابات التقديرية إلى أن تكلفة إعادة الإعمار في الولايات التي دمّرها الزلزال في تركيا تبلغ 45 مليار دولار (تعادل أكثر من 843 مليار، وحوالي 30% من الموازنة العامة لعام 2023)، فيما قدّر بنك جيه بي مورغان الأمريكي كلفة إعادة بناء المنازل والبنية التحتية (الطرق والمياه والكهرباء والصرف) بنحو 25 مليار دولار.
“لا أعتقد أن إعادة إعمار تركيا ستتمّ في عام.. أردوغان يحاول تعزيز معنويات الشعب، إعادة الإعمار ليست بناء ما تهدم فحسب، لكن إعادة بناء اقتصاد، وإعادة الثقة لهذا الاقتصاد”.. الخبير الاقتصادي سامي نادر
وتوقّع البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية أن “تسفر التداعيات الاقتصادية المحتملة للزلزال القوي الذي ضرب تركيا، عن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 1% فقط هذا العام”، وقال خبراء إن “الزلازل الكبيرة التي شهدتها تركيا ستضيف مليارات الدولارات من الإنفاق إلى ميزانية أنقرة، وستخفض النمو الاقتصادي بنقطتَين مئويتَين هذا العام، إذ إن الحكومة ستضطر القيام بجهود إعادة إعمار ضخمة قبل انتخابات حاسمة”.
لكن خبير الاقتصاد ومحلل شؤون الشرق الأوسط، سامي نادر، يرى أنه “من الصعب تحديد الخسائر المادية للزلزال بشكل واضح الآن.. تحديد تكلفة الأضرار يتطلب إجراء مسح شامل، كون الكارثة طالت البنى التحتية التي سيتطلب إعادة إعمارها مبالغ أكثر من السابق، بسبب موجة التضخم العالمية، وارتفاع أسعار المواد الأولية”.
مكملًا: “الجزء الثاني المتعلق بإعادة الإعمار، الذي يصعب تقديره، هو انخفاض النشاط الاقتصادي نتيجة هذه الكارثة، حيث هناك شركات ومعامل ستغلق أو يتلقّى نشاطها ضربة موجعة، ما سيرتد على اقتصاد تركيا، وهناك بلدان شريكة تجارية لتركيا ستتضرر”.
وأكّد نادر أن “التكلفة الاقتصادية قد تتسع خارج نطاق تركيا، ما يعني أن تحديد الكلفة الاقتصادية سيحتاج لمزيد من الوقت.. أما تكاليف إعادة الإعمار فهي مرتبطة بآثار الزلزال الذي امتدَّ على مساحة 300 كيلومتر في تركيا وحدها.. هذا يتوقف أيضًا على الاستثمارات الخارجية، لأن الاقتصاد التركي سيحتاج لدعم خارجي لتمويل إعادة الإعمار، كون الكارثة تتزامن مع أزمة اقتصادية”.
مردفًا: “لا أعتقد أن إعادة إعمار تركيا ستتمّ في عام.. أردوغان يحاول تعزيز معنويات الشعب، إعادة الإعمار ليست بناء ما تهدم فحسب، لكن إعادة بناء اقتصاد، وإعادة الثقة لهذا الاقتصاد”.
تبرعات تضامنية.. وتحذير!
فاجأ الرئيس التركي منظمي حملة التبرعات المحلية “تركيا قلب واحد“، التي حظيت بمشاركة واسعة من الأتراك (مؤسسات وأفراد، على المستويَين الرسمي والشعبي)، عندما بادر بإجراء مداخلة هاتفية مع المنظمين على الهواء مباشرة، قال خلالها: “شعبنا سيظهر كرمه مجددًا بتحطيم رقم قياسي في التبرع للمتضررين من الزلزال.. جميع المبالغ التي ستُجمع خلال الحملة سيتم إنفاقها من أجل المتضررين.. مؤسسات الدولة وطواقمها وجميع أبناء الشعب التركي سيقفون صفًّا واحدًا لدعم المتضررين من الزلزال”.
وقد نجحت أول حملة تبرعات وطنية في أقل من 7 ساعات فقط، في جمع حوالي 5 مليارات دولار أمريكي، تعبيرًا عن الشعور بالتكلفة الضخمة لإعادة الإعمار التي تتطلب تخصيص موارد مالية كبيرة لن تقتصر على خزينة الدولة، وضرورة مشاركة مؤسسات القطاعَين العام والخاص في جهود التعافي، من واقع الاتصالات والمداخلات الشعبية عبر القنوات والإذاعات التركية والأذربيجانية والقبرصية التركية، للتضامن العملي مع المتضررين.
المأساة المترتبة عن كارثة الزلزال صنعت حالة اصطفاف (محلي وإقليمي ودولي)، فسارعت العديد من الحكومات والشعوب إلى التضامن السريع، وتنوّعت المساعدات (المواد الغذائية، الخيام، البطانيات، الأدوية والمستلزمات الطبية) وحملات التبرع (الرسمية والشعبية) التي لم تعلن حصيلتها النهائية حتى الآن، كونها لا تزال مستمرة، لكنها حققت في مرحلتها الأولى أكثر من نصف مليار دولار، من السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين وسلطنة عمان، فيما أرسلت مصر سفن إمداد وطائرات نقل عسكرية محمّلة بمئات الأطنان من المساعدات الإغاثية.
المساعدات الموجهة لتركيا لم تقتصر على الجانب العربي، لكنها شملت العديد من الدول، من بينها ألمانيا، روسيا، الصين، كازاخستان، أرمينيا، اليونان، بريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، المكسيك، كينيا، الأردن، بلجيكا، الاتحاد الأوروبي، إيطاليا، المجر، بولندا، إسبانيا، السويد، سويسرا، الهند، المغرب، تونس، اليابان وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
صدرت تحذيرات من عمليات احتيال تستغل كارثة زلزال تركيا وسوريا في جمع الأموال، ونبّه خبراء أمنيون من محاولات خداع يقوم بها البعض عبر مواقع التواصل.
وأعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أن بلاده تلقّت مساعدات من 101 دولة عقب الزلزال، وأفادت هيئة مكافحة الكوارث التركية أن عدد أفراد فرق البحث والإنقاذ القادمين من دول أخرى بلغ 11 ألفًا و488 فردًا، وأن إجمالي عدد العناصر العاملة في منطقة الزلزال من مختلف المؤسسات والجهات الرسمية وغير الرسمية بلغ 253 ألفًا و16 شخصًا.
وأطلقت الأمم المتحدة نداء دوليًّا لجمع مليار دولار لمساعدة أكثر من 5 ملايين شخص من متضرري زلزال جنوب تركيا، وقالت المنظمة إن هذا المبلغ سيغطي تكاليف إغاثة هؤلاء المتضررين خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، ويتيح لمنظمات الإغاثة تعزيز دعمها الحيوي للجهود التي تبذلها الحكومة التركية لمواجهة تداعيات الزلزال الأكثر تدميرًا في البلاد خلال قرن.
في المقابل، صدرت تحذيرات من عمليات احتيال تستغل كارثة زلزال تركيا وسوريا في جمع الأموال، ونبّه خبراء أمنيون من محاولات خداع يقوم بها البعض عبر مواقع التواصل، خاصة تيك توك، من خلال توظيف فيديوهات وصور مؤثرة وحسابات مزيفة للإغاثة في حالات الكوارث، بزعم “توجيه التبرعات للمتضررين الذين تُركوا من دون مأوى أو تدفئة أو ماء”، قبل تحويل التبرعات التي يحصلون عليها إلى حساباتهم على تطبيق PayPal ومحافظ عملات مشفّرة مملوكة لهم.
ويجدّد هذا التحذير الاعتبار للإشراف الحكومي على التبرعات لضمان وصول الأموال إلى مستحقيها، وضمان توظيفها في القطاعات الحيوية التي تحددها الدولة المتضررة، عبر التنسيق المشترَك بين الحكومات والمؤسسات التركية المعنية (رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ التركية، الهلال الأحمر التركي..) وفق توجيهات الرئيس التركي منذ اليوم الأول للكارثة، حرصًا على تقنين التبرعات ومنع وصولها إلى جهات مشبوهة أو إرهابية.
مشكلة أرصدة الكوارث
الآن، أصبحت دول العالم أمام استحقاق إنساني بعد كارثة الزلزال المدمّر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، في ضوء المبالغ المالية الضخمة التي تتطلبها عمليات إعادة الإعمار، كون مبالغ التأمين لن تكون كافية، خاصة بعدما قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في وقت سابق إن “النظام المالي الدولي لا يقدّم دعمًا كافيًا للبلدان المتوسطة الدخل، التي تحتاج إلى الاستثمار في المرونة لمواجهة الكوارث الطبيعية، من خلال خفض ديونها أو منحها تمويلًا جديدًا”.
أكّدت شركة “ميونيخ راي” الألمانية لإعادة التأمين أن الخسائر المالية الناجمة عن الكوارث الطبيعية في ازدياد في أنحاء العالم، وأوضحت الشركة (عبر دراسة ميدانية) أن الفيضانات والعواصف وحرائق الغابات والكوارث الطبيعية الأخرى تسبّبت في خسائر بقيمة 270 مليار دولار عالميًّا.
ويعد هذا الرقم أقل من الخسائر التي تمَّ تسجيلها خلال عام 2021، إذ بلغ حجم الخسائر 320 مليار دولار، وشكّلت كارثة “إعصار إيان” الذي ضرب الساحل الشرقي للولايات المتحدة نهاية شهر سبتمبر/ أيلول 2022، الكارثة الأكثر تكلفة خلال العام نفسه (100 مليار دولار من بين إجمالي خسائر يبلغ 270 مليار دولار)، ما يعني أن الكوارث الطبيعية تمثل عبئًا ماليًّا كبيرًا على شركات التأمين.
بالمحصلة، فإن الحكومة التركية تواجه تحديًا قاسيًا للإيفاء بوعودها لشعبها بإعادة إعمار ما دمره الزلزال بغضون 12 شهرًا، وفق ما ألزمت به نفسها، وهو تحدٍ تكرسه عقبات جسام، جيولوجية وتمويلية وتخطيطية، وانتخابات تاريخية قد تقلب كل الحسابات.. فهل نشهد بالفعل “أكبر عملية بناء سكني في تاريخ تركيا خلال عام واحد” كما بشّر وزير التوسع الحضري؟