تحوُّل نوعي في موقف السعودية من الحرب الروسية الأوكرانية بعد عام كامل على انطلاقها.. هكذا تذهب معظم التفسيرات والقراءات للزيارة المفاجئة لوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، إلى العاصمة الأوكرانية كييف، الأحد 26 فبراير/ شباط 2023، ولقائه والرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، ورئيس أركانه، أندريه يرماك، ونظيره الأوكراني، دميترو كوليبا، فضلًا عن مسؤولين آخرين.
الزيارة هي الأولى من نوعها لمسؤول سعودي وعربي إلى أوكرانيا منذ انطلاق الحرب يوم 24 فبراير/ شباط 2022، بجانب أن ابن فرحان هو أعلى مسؤول سعودي يزور أوكرانيا منذ 30 عامًا، ما فتح باب التكهنات حول تلك المستجدات، وما تعكسه من دلالات ومؤشرات حول توجه المملكة إزاء هذا الملف الذي كانت تواجه فيه سابقًا انتقادات لاذعة بالتحيُّز لموسكو ومعسكرها.
النتائج الأولية لتلك الجولة المكوكية السريعة كانت توقيع اتفاقيات بين البلدَين بقيمة 400 مليون دولار تقدمها المملكة في شكل منح وإعانات إنسانية لأوكرانيا، وهي حزمة المساعدات التي أجازتها حكومة المملكة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، في ظلّ ترحيب شديد من قبل المسؤولين الأوكرانيين على ما تحمله تلك الزيارة من دلالات بشأن دعم الرياض لكييف في أزمتها الحالية، كما جاء على لسان رئيس أركان حرب الجيش الأوكراني.
دعم سعودي
تنقسم المساعدات السعودية المقدمة لأوكرانيا، والبالغ قيمتها 400 مليون دولار، إلى قسمَين: الأول تمويل مشتقات نفطية بقيمة 300 مليون دولار، كمنحة مقدَّمة من الصندوق السعودي للتنمية لصالح أوكرانيا؛ والثاني 100 مليون دولار ضمن برنامج تعاون مشترك لتقديم مساعدات إنسانية، وفق اتفاقية وقّع عليها المستشار في الديوان الملكي والمشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، عبد الله بن عبد العزيز الربيعة، ونائب رئيس الوزراء لإعادة إعمار أوكرانيا ووزير تنمية المجتمعات والأقاليم في أوكرانيا، أوليكساندر كوبراكو.
الزيارة وما تمخّض عنها من مساعدات لاقت ترحيبًا كبيرًا من الجانب الأوكراني الذي فسّرها وفق هواه السياسي، حيث علّق الجنرال يرماك بقوله: “نحن نتعامل معها كدليل مهم على مساندة بلادنا، لا سيما في هذه الأيام، في خضمّ مرور عام على العدوان واسع النطاق للاتحاد الروسي”، وأضاف أن “هذا الحوار وهذا الاجتماع مهمان للغاية بالنسبة إلينا”.
وتناول اللقاء الذي عقده الجانبان بحث قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة فيما يتعلق باحترام سيادة الدول على أراضيها واستقلاليتها الكاملة، حيث شددا سويًّا على ضرورة احترام تلك القواعد التي تستند إليها كييف في خطابها السياسي والدبلوماسي أمام المحافل الدولية، دفاعًا عن حقها في كامل أراضيها المغتصبة من روسيا منذ عام 2014 وحتى اليوم.
تأتي زيارة وزير الخارجية السعودي لكييف والدعم المقدم للأوكرانيين بمثابة محاولة لإبداء التوازن من جانب السعودية
تحوُّل وليس اصطفافًا
ثمة مؤشرات شهدتها السياسة الخارجية السعودية إزاء الملف الأوكراني خلال الأيام الأخيرة، دفعت إلى الحديث عن تحول نوعي في موقف المملكة، والانحياز بشكل أو بآخر للمزاج الدولي العام الداعم لكييف، وحقها في الدفاع عن نفسها في مواجهة الانتهاكات الروسية، وهي المؤشرات التي لا تعدو كونها تكهنات في ظل عدم الإعلان صراحة من قبل الرياض عن أي تغيُّر في المواقف والتوجهات.
ومن أبرز تلك المؤشرات تصويت السعودية إلى جانب 140 دولة أخرى الأسبوع الماضي لصالح قرار غير ملزم للأمم المتحدة، يدعو إلى انسحاب موسكو من أوكرانيا، فضلًا عن دراسة المملكة التوسُّط لتسهيل عمليات تبادل الأسرى بين أوكرانيا وروسيا، وبذلها جهودًا لدعم المسار السلمي السياسي لحلحلة الأزمة، والذي بمقتضاه انسحاب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية.
تلك المؤشرات إذا ما قورنت بالمواقف السابقة منذ انطلاق الحرب قبل عام من اليوم، تشير إلى وجود تغير ملحوظ في سياسة المملكة -التي تأرجحت معظم الوقت بين الحياد والاصطفاف إلى المعسكر الروسي الصيني-، لكنه ليس شرطًا أن يكون كما قرأه الأوكرانيون دعمًا لهم في مواجهة الروس، فالأمر قد يحمل أبعادًا أخرى.
إبداء التوازن
منذ اندلاع الحرب كانت أصابع الاتهام الغربية تتجه إلى السعودية بدعم روسيا واستعداء المجتمع الدولي، تلك الحرب التي شكّلت اختبارًا كبيرًا لعلاقات الغرب بحلفائه العرب، فمنهم من أعلن دعمه للموقف الغربي بشكل كامل وآخرون اتخذوا مواقف مناوئة، فيما بقيَ الجزء الأكبر مترددًا وممسكًا العصا من المنتصف، وعلى رأسهم السعودية ومصر والإمارات والجزائر والعراق والمغرب.
كانت واشنطن وعواصم أوروبا تعوّل على الرياض في الاصطفاف إلى معسكرها، لتعزيز العقوبات المفروضة على موسكو وتخفيف الآثار المحتملة الناجمة عن وقف الإمدادات الروسية من الغاز والنفط، إلا أن قرار مجموعة “أوبك بلس” بخفض إنتاجها من النفط مليوني برميل يوميًّا، ما يعادل نحو 2% من الإنتاج العالمي اعتبارًا من بداية نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، كان بمثابة الصدمة لدى حكومات الغرب، وفي مقدمتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي وصف القرار بـ”المخيّب”، وأنه يعكس وجود مشاكل كبيرة مع الحليف التاريخي لأمريكا.
من المستبعد النظر إلى زيارة ابن فرحان لكييف بمرآة الجفاء مع موسكو، فالعلاقات بين البلدَين تحيا أوج ازدهارها
الموقف السعودي آنذاك فُسّر على أن المملكة أعطت الغرب ظهرها، ومالت نحو المعسكر الشرقي بقيادة موسكو وبكين، والتي عززت الرياض علاقاتها بهما مؤخرًا، وساعد على تعزيز تلك السردية التوتر المكتوم الذي شهدته العلاقات السعودية الأمريكية، بسبب حزمة من الملفات منها الملف اليمني وملف إيران النووي والضغوط التي مارستها واشنطن على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، عبر ملف مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي.
هذا فضلًا عن رفع أمريكا تدريجيًّا غطاء التأمين لحلفائها الخليجيين، وهو ما دفع المملكة إلى إعادة النظر في خارطة التحالفات والاستفادة من ظرفية الحرب الأوكرانية، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب التي تعزز حضورها عبر شبكة من العلاقات القوية مع القوى الكبرى.
ومع النتائج الأولية للحرب، والتي يبدو أن كفّتها تميل شيئًا فشيئًا نحو الجانب الأوكراني، بعدما فشل الروس في تحقيق الأهداف بالشكل والسرعة المطلوبَين، بجانب دخول بكين على خط الأزمة كوسيط محتمَل من خلال مبادرة لإنهاء الحرب بالطرق الدبلوماسية، إضافة إلى عبور الغرب المرحلة الحرجة من التداعيات القاسية لوقف الإمدادات الروسية من الطاقة وتوحيد جبهته في مواجهة موسكو؛ كل ذلك كان دافعًا للرياض لإعادة النظر في المواقف المطروحة، فما كان قبل عام ليس كما هو اليوم، المعادلات تغيّرت بشكل واضح وعليه لا بدَّ من التعاطي مع تلك التغيرات بما يحافظ على حضور السعودية على الساحة الإقليمية والدولية.
ومن هنا تأتي زيارة وزير الخارجية السعودي لكييف والدعم المقدم للأوكرانيين بمثابة محاولة لإبداء التوازن من جانب السعودية، في إطار الجهود المبذولة لتجميل الصورة ووقف الانتقادات التي تعرّضت لها سابقًا بسبب دعمها لموسكو في الحرب، وفق ما ذهبت وكالة “بلومبيرغ”.
براغماتية سعودية صينية
تؤمن الرياض أن علاقاتها مع الغرب براغماتية في المقام الأول، تتأرجح صعودًا وهبوطًا وفق المصالح المشتركة، وأن ثغرات التوتُّر والخلاف بينهما أكبر من نقاط الالتقاء، ما يجعل من الاصطفاف مع المعسكر الغربي فقط مغامرة محفوفة بالمخاطر، قد تنقلب في أي وقت لتصبح بلا غطاء دولي، وعليه كان طرق باب الفريق الشرقي الذي تقوده الصين وروسيا.
تحاول المملكة تحقيق التوازن بين علاقاتها مع الغرب ومصالحها المشتركة معه، والعلاقات مع القوى الآسيوية ذات النفوذ والثقل الدولي، والفشل في تحقيق هذا التوازن كبّدها الكثير من الخسائر قديمًا، وعليه فإن من مصلحتها عدم خسارة روسيا للحرب، وفي الوقت ذاته عدم تعرُّض الغرب -ممثلًا في أوكرانيا- للهزيمة، فإن خسارة أي من الطرفَين سينعكس سلبًا على مصالحها الكبرى.
من المستبعد النظر إلى زيارة ابن فرحان لكييف بمرآة الجفاء مع موسكو، فالعلاقات بين البلدَين تحيا أوج ازدهارها خلال الأشهر القليلة الماضية، وتمثل روسيا للمملكة بُعدًا أمنيًّا وسياسيًّا استراتيجيًّا في المقام الأول، فضلًا عن المصالح الاقتصادية المشتركة، والتي لا يمكن التضحية بها بسهولة.
من هذا المنطق يمكن قراءة التحرك السعودي الأخير في إطار تكثيف الجهود الدبلوماسية لتقديم حلول سياسية لإنهاء الحرب، بما لا تقود إلى منتصر ومهزوم، كتجميد للموقف دون تصعيد من هنا أو هناك، وهو ما يتناغم مع الموقف الصيني وفق المقترح المقدَّم قبل يومَين، والذي من المتوقع أن تدعمه المملكة بشكل كبير.
في ضوء ما سبق.. تؤمن كل من بكين والرياض أن حليفهما الروسي يواجه خسائر فادحة في ميدان المعركة، فضلًا عن الإرهاق السياسي والاقتصادي الناجم عن دعمه من حلفائه من المعسكر الشرقي، وتبعات استعداء أمريكا وحلفائها الأوروبيين.
ومن ثم إن التحرك العاجل لإنهاء الحرب دبلوماسيًّا وحفظ ماء وجه بوتين وحكومته والإبقاء على الوضع الأوكراني كما كان قبل فبراير/شباط الماضي، هو الحل الوحيد الذي يحافظ على مصالح السعودية والصين المتشابكة بشكل كبير مع المعسكر الغربي.