جاء انعقاد قمة العقبة في الأردن امتدادًا للمسار السياسي الذي رسمته قيادة منظمة التحرير التي أسّست السلطة الفلسطينية، وهو لا بديل عن “المفاوضات إلا المفاوضات” دون أي آفاق أو بدائل أخرى تتوافق مع الرأي الشعبي المخالف لهذا التوجه.
وتشكّل القمة التي شاركت فيها كل من السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”، إلى جانب الأردن ومصر والولايات المتحدة، تحديًا حقيقيًّا بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين تعاظمت مقاومتهم على صعيد الضفة الغربية والقدس المحتلة خلال عامَي 2022 و2023.
ومنذ بداية عام 2023 لقيَ 14 إسرائيليًّا مصرعهم وجُرح 77 آخرين، في سلسلة عمليات فلسطينية نُفّذت في الضفة والقدس المحتلتَين، في الوقت الذي استشهد فيه 66 فلسطينيًّا من بينهم أطفال وفتية وشبّان تمَّ تصفيتهم ميدانيًّا من قبل جنود الاحتلال.
الغريب في قمة العقبة أنها جاءت بعد فترة بسيطة من إعلان السلطة وقف التنسيق الأمني من جديد مع الاحتلال الإسرائيلي، على خلفية مجزرة جنين التي جرت نهاية الشهر الماضي، والتي أدّت إلى موجة غضب فلسطينية كبيرة.
ورغم أن قيادة منظمة التحرير التي أبرمَت اتفاق أوسلو عام 1993 شاركت في لقاءات مسبقة قبل التوصُّل إلى هذا الاتفاق، كان أبرزها مؤتمرَي مدريد، إلى جانب لقاءات في شرم الشيخ ومفاوضات جرت في أوسلو عاصمة النرويج ولقاءات في واشنطن وغيرها من الدول، إلا أنها لم تتوقف عند هذا الحدث.
ومع تنكُّر الإسرائيليين كليًّا لاتفاق أوسلو، والتعامل معه وكأنه منتهي الصلاحية، إلا أن رئيس السلطة محمود عباس وبعض الشخصيات المتنفّذة معه، مثل وزير الشؤون المدنية حسين الشيخ، ورئيس جهاز المخابرات العامة ماجد فرج؛ واصلوا التمسك به ورفضوا جميع الضغوط الفصائلية التي بُذلت منذ عام 2016 وحتى عام 2023، لتعطيل الاتفاقيات ووقف التنسيق الأمني أمام الجرائم الإسرائيلية.
من بروتوكول باريس 1994 إلى العقبة 2023.. تاريخ من الاتفاقيات
لم تتعلم القيادة الفلسطينية التي أبرمت اتفاقيات أوسلو وحتى من تبعها ممّا حصل، رغم كل التنكُّر الإسرائيلي الحاصل للحقوق الفلسطينية، والتعامل مع هذه اللقاءات على أنها كسب للوقت وحرق لأي التزامات تجاه الفلسطينيين.
في أعقاب توقيع اتفاقية أوسلو، جاء بروتوكول باريس الذي وُقّع في 29 أبريل/ نيسان 1994 بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل” في العاصمة الفرنسية، ليمثل الشقّ الاقتصادي لاتفاقية أوسلو.
إذ جاء الاتفاق ليكون ناظمًا للعلاقة الاقتصادية الفلسطينية الإسرائيلية في الفترة الانتقالية وفقًا لاتفاق أوسلو، وكان من المفترض أن تنتهي تلك الفترة عام 1999، لكن فشل المفاوضات بين الجانبَين على قضايا الحل النهائي (القدس والحدود واللاجئون والمياه) جعل من بنود “بروتوكول باريس” سارية حتى اليوم.
تبع اتفاق باريس اتفاق غزة/ أريحا عام 1994، وهو اسم أُطلق على الاتفاق التنفيذي للاتفاق السابق، حيث وُقّع في 4 مايو/ أيار 1994، وتضمّن الخطوة الأولى لانسحاب “إسرائيل” من غزة وأريحا وتشكيل السلطة الفلسطينية وأجهزتها.
ثم جاءت اتفاقية طابا (أوسلو الثانية) عام 1995، وهي التي وُقعت في مدينة طابا المصرية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في 28 سبتمبر/ أيلول 1995، وعُرف هذا الاتفاق باتفاق المرحلة الثانية من انسحاب “إسرائيل” من الأراضي الفلسطينية، ووضع أسُس نقل المزيد من السلطات والأراضي للسلطة، وتشكيل الشرطة الفلسطينية.
بعد رحيل عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية الأول، ووصول عباس للسلطة، وقّع الأخير اتفاق شرم الشيخ في 8 فبراير 2005، الذي أعلن انتهاء مرحلة انتفاضة الأقصى
بموجب هذا الاتفاق تعهّد الاحتلال بالانسحاب من 6 مدن عربية رئيسية و400 قرية بداية عام 1996، وانتخاب 82 عضوًا للمجلس التشريعي، والإفراج عن معتقلين في السجون الإسرائيلية، وقسمت اتفاقية طابا المناطق الفلسطينية إلى (أ) و(ب) و(ج) لتحديد مناطق حكم السلطة والمناطق الخاضعة لـ”إسرائيل” وغير ذلك.
ولم تقف الاتفاقيات الفلسطينية عند هذا الحد، إذ جاء بروتوكول إعادة الانتشار (الخليل)، الذي وُقّع في 15 يناير/ كانون الثاني 1997، بهدف إعادة انتشار القوات الإسرائيلية في مدينة الخليل، ونصَّ على تقسيم المدينة إلى منطقتَين، هما الخليل H1: تشكّل 80% من المساحة الكلية للمدينة، وحسب الاتفاق يوضع هذا القسم تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة؛ والخليل H2: تشكّل 20% من مساحة المدينة، تبقى تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، بينما تُنقل الصلاحيات المدنية للسلطة الفلسطينية.
وشمل البروتوكول خطوات وإجراءات ضرورية لإعادة الحياة إلى طبيعتها في مدينة الخليل، ومنها فتح شارع الشهداء أمام حركة السيارات الفلسطينية، وفتح سوق الخضار المركزي وتحويله إلى سوق بالتجزئة، وأكّد على ضرورة التزام الطرف الفلسطيني بمنع العنف وتعزيز التعاون الأمني.
تبع ذلك مذكرة واي ريفر (بلانتيشن)، والتي وُقّعت في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1998 في منتجع واي ريفر (بلانتيشن) بواشنطن، بعد مفاوضات استمرت 8 أيام، ووقّع المذكرة كل من الرئيس الفلسطيني آنذاك ياسر عرفات ورئيس وزراء “إسرائيل” بنيامين نتنياهو.
ونصَّ الاتفاق على الانسحاب الإسرائيلي من بعض مناطق الضفة، وعلى اتخاذ تدابير أمنية لمكافحة “الإرهاب”، وتوطيد العلاقات الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”، واستئناف مفاوضات الوضع النهائي.
ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، إذ تمَّ التوصل إلى اتفاق واي ريفر الثاني الذي وُقّع على الأساس نفسه الذي عُقدت عليه “مذكرة واي ريفر الأولى”، وقد وقّعه الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي بشرم الشيخ المصرية في 4 سبتمبر/ أيلول 1999، وفي هذه الاتفاقية تمَّ تعديل وتوضيح بعض نقاط واي ريفر الأولى، مثل إعادة الانتشار وإطلاق المعتقلين والممر الآمن وميناء غزة والترتيبات الأمنية وغير ذلك.
وبعد رحيل ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية الأول، ووصول محمود عباس للسلطة، وقّع الأخير اتفاق شرم الشيخ في 8 فبراير/ شباط 2005، الذي أعلن انتهاء مرحلة انتفاضة الأقصى، وتمَّ بين عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون.
تحظى عصابات “تدفيع الثمن” بدعم واسع من المستوطنين عامة، بالإضافة إلى تأييد كبير من الأحزاب اليهودية في معسكر اليمين مثل حزب يمينا.
ثم حلت اتفاقية المعابر التي وُقّعت في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2005، وهي اتفاقية تتعلق بالحركة والعبور للفلسطينيين وتحديدًا في قطاع غزة بهدف تحسين الوضع الاقتصادي، وشملت الاتفاقية معبر رفح الذي تمَّ التوافق أن يكون فيه طرف دولي، كما تطرّقت للربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة عبر تسهيل مرور البضائع، إلى جانب عدم تدخل الإسرائيليين بعمل ميناء غزة إلا أنه لم يتحقق عمليًّا.
وبعد هذا الاتفاق، وفي أعقاب فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، ورفضها الاعتراف بالمسار السياسي وخارطة الطريق، عُقد مؤتمر أنابوليس في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007 في كلية البحرية للولايات المتحدة في أنابوليس، ماريلاند، الولايات المتحدة الأمريكية، وكان الهدف منه تعزيز التعاون الأمني لمواجهة المقاومة.
قمة فاشلة.. حوارة تكسر الصمت
شكّلت عملية حوارة بنابلس التي أدّت إلى مقتل مستوطنين إسرائيليين بسلاح مقاوم فلسطيني، ردًّا فلسطينيًّا وشعبيًّا أوليًّا على هذه القمة، باعتبار أن العملية كانت فردية وتمكّن فيها المنفّذ من الانسحاب بهدوء وسلام من مكان العملية.
وعَكَسَ ما جرى في حوارة من إحراق المستوطنين لمنازل وممتلكات الفلسطينيين فيها؛ العقلية التي يفكر بها مستوطنو الاحتلال الإسرائيلي، بغطاء من الجيش والمنظومة الأمنية والعسكرية التي توفّر الحماية الكاملة لمثل هذه العصابات.
تحظى عصابات “تدفيع الثمن” بدعم واسع من المستوطنين عامة، بالإضافة إلى تأييد كبير من الأحزاب اليهودية في معسكر اليمين
وتنشط عصابة “تدفيع الثمن” التي ظهرت عام 2008 في مجال تنفيذ عمليات إرهابية وهجمات على الفلسطينيين وممتلكاتهم وأراضيهم، حيث وقعت الهجمات والاعتداءات تحت اسم “تدفيع الثمن”، وانطلقت من مستوطنة “يتسهار”.
ومنذ ذلك الحين تُسجَّل سنويًّا مئات العمليات الإرهابية والهجمات على الفلسطينيين، وتستهدف أيضًا المساجد والكنائس والمقابر والمواقع الأثرية التي يتمّ تدمير معالمها التاريخية العربية والإسلامية، واستبدالها بمعالم توراتية مزيَّفة.
وتحظى عصابات “تدفيع الثمن” بدعم واسع من المستوطنين عامة، بالإضافة إلى تأييد كبير من الأحزاب اليهودية في معسكر اليمين مثل حزب يمينا برئاسة نفتالي بينيت رئيس حكومة الاحتلال الأسبق، والليكود برئاسة بنيامين نتنياهو، ورئيس حزب عظمة يهودية عضو الكنيست إيتمار بن غفير، وزعيم حزب الصهيونية الدينية عضو الكنيست بتسلئيل سموتريتش، وكذلك دعم الحاخامات.
الموقف الإسرائيلي.. خلافات ورفض مطلق لنتائج العقبة
عقب انتهاء قمة العقبة الأمنية، شهدت الحلبة السياسية والحزبية الإسرائيلية تباينات متصاعدة حول نتائجها، بين من دعا للالتزام بها لحماية أمن المستوطنين وملاحقة المقاومة، ومن رفض النصوص الواردة فيها لتجميد الاستيطان، ما يزيد من حدة الخلافات الإسرائيلية الداخلية، ويفسح المجال لمزيد من تضارب الصلاحيات بين وزراء حكومة الاحتلال.
ونصَّ البيان الختامي لقمة العقبة على التزام الجانبَين الفلسطيني والإسرائيلي بخفض التصعيد ومنع مزيد من العنف، وتأكيد كل الأطراف على الحفاظ على الوضع القائم في الأماكن المقدسة في القدس، وإلزام الجانبَين بوقف الإجراءات الأحادية من 3 إلى 6 أشهر.
الكتائب والخلايا المسلحة للمقاومة الفلسطينية ستكون أمام سلسلة من التحديات خلال الفترة المقبلة.
ووفقًا للبيانات، سيلتزم الاحتلال الإسرائيلي بوقف مناقشة إنشاء أي وحدات استيطانية جديدة لمدة 4 أشهر، إلى جانب التزام إسرائيلي بوقف إقرار أي بؤر استيطانية جديدة لمدة 6 أشهر، واتفاق المشاركين على دعم خطوات بناء الثقة لمعالجة القضايا العالقة عبر حوار مباشر.
وعلى عكس كل ما ورد في البيان، فقد صرّح نتنياهو أن “البناء الاستيطاني في الضفة الغربية سيستمر وفقًا لجدول التخطيط والبناء الأصلي دون تغييرات، لا يوجد، ولن يكون هناك أي تجميد”، أما وزير النقب والجليل، يتسحاق فاسرلاف من حزب العصبة اليهودية، فزعم أنه “إذا عقد شخص ما مؤتمرًا في الأردن دون إشراك الحكومة، فلا يجب أن يتوقعوا دعم الحكومة لنتائجه”.
وتعكس هذه المواقف أن المتضرر الوحيد من لقاء أو قمة العقبة هو الطرف الفلسطيني الذي لم يحقق أية نتائج عملية، حيث سيواصل الاحتلال توسيع الاستيطان وشرعنة البؤر الاستيطانية واعتمادها، في الوقت الذي ستعاود السلطة استئناف التنسيق الأمني.
في الوقت ذاته، ستكون الكتائب والخلايا المسلحة للمقاومة الفلسطينية أمام سلسلة من التحديات خلال الفترة المقبلة، وهو ما سيضع المقاومة في غزة حاضرة في المشهد وبقوة، إذا ما تمَّ استهداف هذه المجموعات.