أعلن رئيس الوزراء التونسي الأسبق “حمادي الجبالي” عن استقالته من حركة النهضة التي كان من أبرز قيادييها وأحد مؤسسيها وأمينها العام لفترة طويلة، قائلاً في بيان نُشر عبر صفحته الرسمية على موقع فيسبوك: “آليت على نفسي أن أكون ضمن المناضلين المنتصرين لمنهج الثورة السلمي المتدرج درءًا لمفسدة ستكون كارثية على شعبنا ومنطقتنا وأمتنا بل عالمنا كله”.
ورغم حدوث استقالات أخرى لقياديين بارزين في الحركة خلال السنوات الثلاث الماضية، فإن استقالة الجبالي تعتبر الأكثر ثقلاً مقارنة بسابقاتها وذلك نسبة إلى المسؤوليات التي تحملها الجبالي داخل “التنظيم” والتي تراوحت ما بين “رئاسة الحركة” في مطلع الثمانينات، وما بين توليه منصب “الأمين العام” للحركة طيلة أكثر من ثلاثة عقود، بالإضافة إلى ما يُنسب إليه من دور فعّال في الحفاظ على تماسك الحركة بعد الضربات القاسية التي تلقتها من قبل نظام زيد العابدين بن علي.
السير نحو تجربة جديدة:
لا يُعتقد أن الجبالي قد استقال من النهضة بنية الابتعاد عن السياسة وتجاذباتها، وإنما يرجح كثيرون أنه يعد للعودة في “حلّة” جديدة للساحة السياسية، مستشهدين بكلمات استخدمها الجبالي في بيان الاستقالة قال فيها: “قررت الانسحاب من تنظيم الحركة لأتفرغ إلى مهمة اعتبرها مركزية، وهي الدفاع عن الحريات عن طريق مواصلة الانتصار إلى القيم التي قامت من أجلها الثورة وعلى رأسها احترام وإنفاذ دستور تونس الجديدة”.
وباعتبار أن الجبالي أشار في بيانه إلى أنه لن ينزوي في منزله وعلى أنه سيواصل “الانتصار إلى القيم التي قامت من أجلها الثورة”، فإن مسألة عودة الجبالي للمشهد السياسي بحلة جديدة باتت شبه مؤكدة خاصة وأن الرجل نجح في كسب تعاطف فئة كبيرة من التونسيين غير المنتمين للتيار الإسلامي وحتى غير المسيسين، فبعد وقوع حادثة اغتيال السياسي “شكري بلعيد” في شهر فبراير/ شباط 2013، خرج الجبالي بخطاب مليء بعبارات “الانحياز للوطن”، وأعلن عن استقالته من رئاسة الحكومة وانتقد كل الأطراف السياسية دون استثناء، فقال: “هناك خيبة أمل كبيرة، لقد خاب أمل شعبنا بطبقته السياسية، يجب استعادة الثقة”.
المقارنة بأبو الفتوح:
حديث الجبالي في فبراير 2013 عن خيبة أمل التونسيين في كل الأطراف السياسية وحديثه عن وجوب استعادة ثقة الشعب، يمكن أن يفهم (خاصة بعد استقالته من النهضة) على أنه دعوة لتشكيل قوة سياسية جديدة ذات نهج سياسي مختلف عن كل ما نهجته باقي الأحزاب السياسية بما في ذلك النهضة، ولكن الجبالي لم يمر لتنفيذ هذه الخطوة وإنما تدرج في الانسحاب من النهضة بسلاسة ودون أن يغضب قواعدها ودون أن يدخل في تصادم معها، على خلاف ما فعله “عبد المنعم أبو الفتوح” حين خرج من جماعة الإخوان المسلمين في مصر، كما أنه لم يربط استقالته من الحركة بسبب عدم ترشيحها له لأي من المناصب السياسية في الدولة (الأمر الذي حصل مع أبو الفتوح عندما فصل من الجماعة بسبب ترشحه لانتخابات الرئاسة).
وبشكل مختلف بالكامل عما فعله أبو الفتوح، انسحب الجبالي بشكل تدريجي وسلس جدًا من النهضة عبر الاستقالة أولاً من منصب الأمانة العامة، ثم من المكتب التنفيذي، ثم عبر عدم الترشح في الانتخابات البرلمانية ضمن قوائم النهضة وعبر تقليله من الحضور ضمن تظاهراتها، ثم أخيرًا عبر الاستقالة من الحركة؛ الأمر الذي منع وقوع حالة غضب ضده داخل حركة النهضة أو حد منها بشكل كبير، كما خلق حالة من التعاطف معه لدى فئة كبيرة من قواعد حركة النهضة.
لمن ينحاز الجبالي؟
عبر مراجعة كل التصريحات التي أصدرها الجبالي بعد استقالته من رئاسة الوزراء في سنة 2013، يمكن أن نلاحظ حرصه الدائم في كلماته القليلة على الظهور في شكل السياسي الوطني الذي يقدم ولاءه لتونس على أية ولاءات أخرى.
بعض تصريحات الجبالي وتحركاته في الأشهر التي تلت استقالته من رئاسة الوزراء:
وهذا الخطاب المنحاز للوطن والمتجنب للانحياز للقرارات والسياسات الحزبية، لم يمنع الجبالي من اتخاذ مواقف قوية من بعض الملفات الهامة مثل مدح بعض الأحزاب التونسية للانقلاب العسكري الذي عاشته مصر في يونيو 2013 أو الدعوات للإطاحة بحكومة الائتلاف الحكومي الذي كان يترأسه “علي العريض”، الأمين العام الحالي لحركة النهضة.
https://www.youtube.com/watch?v=htra6RNPfVA
تجربة السبسي ونداء تونس:
يُعتقد أن الجبالي سيمضي في نفس النهج مستقبلاً وسيمضي في تجميع الناس، مواطنين وسياسيين، حوله حتى يجمع ما يكفي من التأييد لتأسيس حزب جديد، وهي تقريبًا نفس الطريقة التي اتبعها “الباجي قائد السبسي” رئيس حزب نداء تونس الفائز بالانتخابات التشريعية الأخيرة وأبرز المرشحين للفوز برئاسة تونس.
وقد شغل السبسي منصب رئيس الوزراء بصفته “رجل دولة” غير متحزب في الفترة التي تلت هروب “زين العابدين بن علي” وسبقت الانتخابات التأسيسية في سنة 2011، وخلال تلك الفترة استخدم السبسي كلمات “الانحياز للوطن والثورة” وابتعد بالكامل عن أي اصطفاف حزبي، وبعد خروجه من رئاسة الوزراء، أطلق السبسي مبادرة “نداء تونس” ودعا من خلالها إلى الاصطفاف لإنقاذ الوطن، وتدريجيًا شكل الحزب وجمع تحت عباءته معظم القيادات السياسية المحسوبة على ما يسمى في تونس بـ “تيار الدستوريين”.
وإن كان الجبالي ينتمي إلى مدرسة مخالفة بالكامل عن المدرسة التي ينتمي إليها السبسي، ويتحرك ضمن مشروع “إسلامي” يعتبر مضادًا لمشروع السبسي “العلماني”، فإن ما حدث إلى حد الآن يقول إن الجبالي يتبع خطوات مشابهة للخطوات التي خطاها السبسي لتأسيس حزبه ويقترب تدريجيًا من الإعلان عن تأسيس حزبه الخاص.