يتواصل الإعلان الرسمي عن أعداد ضحايا زلازل جنوب تركيا، حيث منذ 6 فبراير/ شباط 2023 لقيَ حوالي 44 ألفًا و218 شخصًا مصرعهم وأُصيب 109 آلاف شخص في 11 ولاية متضررة (قهرمان مرعش، غازي عنتاب، شانلي أورفا، ديار بكر، أدي يامان، أضنة، عثمانية، هاتاي، كليس، ملاطيا وإيلازيغ)، ورغم تسجيل أكثر من 9 آلاف هزة ارتدادية، لم تتوقف الجهود الشاملة التي تستهدف إغاثة المتضررين.
الدمار المترتّب عن الكارثة، دفع “نون بوست” إلى محاولة الإجابة عن السؤال الأكثر حساسية في المشهد التركي حاليًّا: من المسؤول عن تفاقم ضحايا الزلازل وتوابعها خلال شهر فبراير/ شباط؟ هل هي الحكومة التي وجدت نفسها في مرمى اتهامات المعارضة منذ الساعات الأولى لوقوع الكارثة؟ أم هي المعارضة التي حاولت طوال السنوات الماضية عرقلة خطط التحول الحضري، ومن ثم تتحمّل مسؤولية ارتفاع القتلى والمصابين إلى 150 ألف شخص؟
خطط التحول الحضري ظلت تفرض نفسها على تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، طوال الـ 12 عامًا الماضية تحديدًا حتى الثلاثاء الماضي، عندما قال (في مركز تنسيق الكوارث بولاية قهرمان مرعش): “ستعمل الحكومة على تسريع مشروع التحول الحضري، وإنهاء حقبة انهيار المباني على المواطنين.. كل من يحاول عرقلة مشاريع التحول بالخطابات السامة يطعن الشعب والبلاد في ظهرهما”.
المشروع الكاشف
يعتمد تنفيذ خطط التحول الحضري التي تتمسّك بها الحكومة التركية على هدم مبانٍ قديمة وغير آمنة (عشوائية) واستبدالها بمنشآت جديدة كاملة الخدمات، وترفض المعارضة (لعدة أبعاد، سياسية وانتخابية والدفاع عن حق الملكية الخاصة) أفكار التخطيط الحضري، التي تعالج المشكلات وتحقق الاحتياجات (الخدمية والاجتماعية والاقتصادية) لأهالي المناطق المستهدفة بمظلة التطوير.
تسهم خطط التحول الحضري (المكاني والاجتماعي والاقتصادي) في إنشاء مخططات سكنية صحية آمنة، وتحسّن مستوى المعيشة من خلال الخدمات التقليدية والحديثة الصديقة للبيئة، كما تحدّ من مخاطر الكوارث، وتوفّر فرص عمل (مباشرة وغير مباشرة) في الإنشاءات وقطاع الخدمات، وتعزز العائدات السياحية والاقتصادية (تمَّ تصنيف تركيا عام 2017 كواحدة من أهم 10 دول جاذبة للاستثمارات الأجنبية بقطاع العقارات).
المرحلة الأولى من خطط التحول الحضري في تركيا تمتدّ خلال فترة 2013-2023، مستهدفة إنجاز حوالي 7.5 ملايين وحدة سكنية، بعائدات ربحية تقدَّر بـ 500 مليار دولار أمريكي، وذلك بعد حوار مجتمعي لتوضيح المكاسب لأهالي المناطق المستهدفة بالتحول، تحت إشراف وزارة التوسع العمراني ومشاركة الجهات المعنية، لا سيما قطاع البناء والتشييد التركي، باستثمارات إجمالية (في الداخل والخارج) تتجاوز الـ 300 مليار دولار.
رؤية شاملة
تتزامن مشاريع التحول الحضري مع مشاريع تركية عملاقة في البنى التحتية (مطار إسطنبول الجديد، وقناة إسطنبول الجديدة، وتزويد المناطق بشبكات للمواصلات وجسور وطرقات وسكك حديدية)، ما أسهم في زيادة قيمة العقارات، ففي إسطنبول ارتفعت إلى 116% ببعض المناطق، وزادت مبيعات العقارات للأجانب بحوالي 65% في عموم البلاد، وفي عام 2018 اشترى أكثر من 40 ألف أجنبي عقارات بتركيا قبل زيادة المشتريات لاحقًا.
في الصيف الماضي، أنجزت الحكومة (رغم عراقيل المعارضة) جانبًا من مشروع التحول الحضري ببلدية أسنلر في إسطنبول، تضمنت 2037 منزلًا مقاومًا للزلازل تستوعب حوالي 10 آلاف شخص، بعد تسليم 6 آلاف و954 وحدة أخرى بالمحمية الجنوبية، والشروع في تطبيق التجربة في المحمية الشمالية بإجمالي 50 ألف وحدة (تستوعب 250 ألف شخص)، بالتزامن مع توقُّع زلزال في المناطق المحيطة ببحر مرمرة.
وتشدد خطط التحول الحضري على الامتثال للوائح الزلازل في الإنشاءات، وقد فسّر أردوغان (منذ 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2012) أهداف خطط التحول: “تضمن سلامة الأرواح والممتلكات في مواجهة الكوارث”، وشدد (في 26 فبراير/ شباط 2013) على “مواصلة تنمية تركيا بمدن حديثة وصحية وقوية، وأن استمرار التحول الحضري لن يؤذي أحدًا ولن يضيّع حق أحد”، قبل أن يكشف بطريقة غير مباشرة (في 6 أبريل/ نيسان 2013) عن “الأطراف المعرقلة للتحول الحضري”.
وأوضح أردوغان آنذاك أن “هناك من يعارض خطط التحول الحضري في تركيا.. المعارضة وبعض الدوائر تعرقلان جهود الحكومة”، ثم ألقى أردوغان بالكرة في ملعب الشعب (في 24 مارس/ آذار 2014): “ساعدونا في تفعيل التحول الحضري، حتى نحدّ من كوارث الزلزال التي يمكن أن تحدث هنا أو هناك”، حيث وصلت مناشدات أردوغان حد الرجاء (في 19 يوليو/ تموز 2014): “الرجاء ادعموا مشاريع التحول الحضري، حتى نواجه مشاريع البناء القبيحة”.
وواصل أردوغان مناشداته للأتراك (في 22 يناير/ كانون الثاني 2016): “تضامنوا معنا في التحول الحضري، دعونا ننشئ مباني مشرقة”، قبل أن يجدد التذكير بتصدّي المعارضة لخطط التحول الحضري (في 1 يوليو/ تموز 2016): “يعرقلون التحول الحضري في العديد من الأماكن.. يفعلون ذلك رغم تأكيداتنا لهم بأنه لو حدث زلزال، لا قدّر الله، فهناك أبنية غير مقاومة للزلزال.. دعونا نهدمها الآن ونعيد بناءها بمعايير واشتراطات مناسبة، لكنهم يصرّون على موقفهم”.
كاشفَ أردوغان الأتراك (في 1 فبراير/ شباط 2019) برؤية حكومته للتحول الحضري: “خططنا للتحول لن تكون قسرية، بل على أساس طوعي، وفقًا لخصائص المناطق واحتياجات مواطنينا.. المشاريع المخططة ضرورية.. خطر الزلزال يجب أن يدفعنا لجعلها أماكن أفضل، حتى نحدّ من أي تداعيات كارثية للزلزال مستقبلًا، وحتى لا يصبح بعض مواطنينا في تعداد الضحايا.. الهدف من التحول ليس تحقيق مجد سياسي أو زيادة مكاسب المقاولين”.
وحذّر أردوغان (في 23 فبراير/ شباط 2019) من “مواصلة البناء غير القانوني، لأنه سيجعل فاتورة الزلزال ثقيلة جدًّا”، وخلال فترة مارس/ آذار 2019-11 يونيو/ حزيران 2021 واصل التحذير والترغيب: “ساعدونا في بناء منازل قوية.. حقوقكم محفوظة، نحاول حماية المصالح العامة بإعادة بناء المناطق العشوائية، وسلامة أرواح مواطنينا وممتلكاتهم، خاصة في إسطنبول التي تواجه زلازل محتملة.. واجهوا معنا من يعرقلون خطط التحول الحضري، كـحزب الشعب الجمهوري وكيانات أخرى تحاول تخريب مشاريعنا”.
جرس إنذار
توضّح تقارير أن تركيا فيها حوالي 6.7 ملايين مبنى مهدد بسبب مخاطر الزلزال القوية، وقالت مؤسسة التحول الحضري والتنمية الحضرية (KENTSEV) إنه يوجد في إسطنبول 263 ألف مبنى قابل للتضرر والانهيار، كونها مشيَّدة قبل عام 1980، خاصة في مناطق الفاتح، سيليفري، زيتين بورنو، كوتشوك شيكمجة، بيوك شكمجه، وبكيركوي بالجانب الأوروبي من إسطنبول، وتوزلا، كارتال ومالتيبة بالجانب الآسيوي.
وتحتاج الحكومة التركية إلى 5 سنوات عمل (من دون عراقيل سياسية) لترميم المباني القديمة وهدم المباني غير الآمنة في إسطنبول، بهدف الحد من تداعيات كوارث الزلازل، خاصة في ظل تكدُّس السكان في مساحة صغيرة نسبيًّا، وأعلن وزير البيئة والتوسع العمراني، مراد قوروم، في وقت سابق أنه “يوجد في إسطنبول حوالي 1.5 مليون وحدة سكنية معرّضة لخطر محتمل، وأن 300 ألف مبنى في حاجة إلى شمولها بخطط التحول الحضري”.
وكشفت كارثة الزلازل التي ضربت ولايات تركية، خلال فبراير/ شباط الماضي، عن الرؤية الاستراتيجية لخطط “التحول الحضري” بالنظر إلى النطاق الجغرافي والطبيعة الجيولوجية لتركيا، كونها ضمن المناطق العالمية النشطة زلزاليًّا، لهذا كانت التحذيرات الرئاسية والجهود الحكومية، خلال العقد الماضي تحديدًا، بمثابة جرس إنذار عملي لمنع تكرار التداعيات المأساوية التي خلّفها زلزال 17 أغسطس/ آب 1999.
وتعدّ ولاية هاتاي (المصنَّفة ضمن المناطق الأكثر تضررًا من الزلازل) نموذجًا للولايات التي دفعت ثمن إجهاض المعارضة التركية لمشروع التحول الحضري (عطّله رئيس البلدية لطفي صاواش التابع لحزب الشعب الجمهوري)، رغم أن تنفيذ المشروع كان سيحدّ من تداعيات كارثة الزلازل الذي دمّر المباني القديمة بهاتاي، ما دفع أردوغان (خلال تفقُّده للجنوب) إلى التذكير بتصريحات رئيس بلدية أضنة: “نحن ضد التحول الحضري”، وردّ أردوغان: “ونحن ندفع ثمن ذلك الآن”.
المعارضة تتدخل
حرص أردوغان (وهو يستنهض همم الأتراك بعد سلسلة الزلازل) على إعادة التذكير بتحذيراته السابقة (في 20 فبراير/ شباط 2023): “الكارثة تسبّب فيها من يعرقلون أعمال التحول الحضري بالحملات والدعاوى القضائية.. يجب إعادة الاعتبار لخطط التحول، وأن نبدأ البناء مع تسريع الإجراءات القانونية.. سنشارك أمّتنا كل ما يعيق خطط التحول الحضري”.
وبعدها بـ 24 ساعة: “قيادي في حزب الشعب الجمهوري يعرقل التحول الحضري بإسطنبول.. نقول له: حافظ على آمان مواطنينا، ولا تجبرنا على دفع فواتير باهظة.. كارثة الجنوب تنتصر لخطط التحول الحضري والإسكان التي تنفّذها الحكومة عبر TOKİ”.
إشارة أردوغان في اليوم نفسه إلى “العقلية التي كانت تقف ضد التحول الحضري ومشاريع الإسكان الحكومي (TOKİ) طوال السنوات الماضية”، ومطالبته للمعارضين بـ”التخلي عن العناد”، دفعتانا في “نون بوست” إلى التنقيب عن “الطرف المعطّل” لخطط “التحول الحضري”، كون هذه الأطراف شريكًا في دماء آلاف القتلى والمصابين، ضحايا سلسلة الزلازل التي ضربت الولايات التركية الجنوبية، والزلزال المحتمل الذي يهدد إسطنبول حاليًّا.
تفعيل خطط التحول الحضري كانت كفيلة بالحدّ من المناطق التي تعرضت للتدمير (الجزئي والكامل) كما في أنطاكيا، حيث حذّرت حكومة أردوغان من مخاطر مباني المناطق المستهدفة، وأنه يجب هدمها وإعادة بنائها حتى لا يتكرر الدمار الذي حدث قبل 14 عامًا في أنطاكيا، ورغم الخطط والمشاريع التي وضعتها وزارة البيئة والتوسع العمراني، إلا أن حزب الشعب الجمهوري وكيانات أخرى عرقلا برنامج التحول الحضري لتطوير المدن التركية.
المعارضون للتطوير حشدوا الجماهير آنذاك ضد التحول الحضري، قبل استصدار حكم قضائي بإيقاف البرنامج في بعض المناطق ضمن الخلافات السياسية الكبيرة، حتى أن البرنامج السياسي المطروح للمعارضة يتعهّد بـ”إلغاء مشروع قناة إسطنبول، التشكيك في مطار إسطنبول، إلغاء مناقصات وعقود المدن الطبية غير المكتملة”، حال فوزها في الانتخابات المرتقبة.
تحديات الزلازل
توقّع خبير الزلازل التركي، ناجي غورور، قبل شهور زلزالًا محتملًا في محيط بحر مرمرة خلال الـ 8 سنوات المقبلة، وأن قوته ستكون 7.2 درجات على مقياس ريختر بسبب صدع شرق الأناضول.
حيث أوضح أن “مشاريع التحول الحضري تساعد في تأمين المنطقة من الزلازل المحتملة، لكنها غير كافية لجعل إسطنبول مؤهّلة لمواجهة الزلزال المتوقع“، خاصة أن قناة NTV نقلت، قبل شهور، عن خبير الجيولوجيا التركي شكري أرصوي أن “زلزال إسطنبول المحتمل لا مفرّ منه.. يجب استكمال التحول الحضري سريعًا”.
تشير التوقعات إلى احتمال تضرر الجانب الأوروبي من إسطنبول (الأكثر كثافة سكانية والأقرب إلى خطوط الصدع) بصورة أكبر حال حدوث الزلزال المتوقع، وكذلك التجمعات القديمة بإسطنبول، والمناطق العشوائية التي شهدت هجرة مضطردة منذ عقود، حيث “كانت هذه الأماكن تفتقر إلى عمليات التفتيش، وسياسات لم تضع بعين الاعتبار معايير السلامة”، بحسب وزير التوسع العمراني مراد قوروم.
والتفتت المعارضة بعد كارثة الجنوب التركي إلى أهمية خطط أردوغان للتحول الحضري، وقال رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو (خلال زيارته في 24 فبراير/ شباط 2023 لهاتاي التي دمرها الزلزال): “لدينا مشروع جديد للتحول الحضري وتقوية المباني المعرضة للانهيار، بسبب زلزال محتمل في إسطنبول.. سنطوّر نموذجًا جديدًا للتعامل مع المباني، عبر دعمها بألياف الكربون كونها أقوى من المعادن.. إنتاجنا من ألياف الكربون غير كافٍ حاليًّا، لكننا سنعززه”.
جاء ذلك بعد 24 ساعة فقط من إقبال شرائح واسعة من القاطنين في إسطنبول (إجمالي سكانها 16 مليون نسمة) على الجهات المختصة لإجراء “الفحص السريع” لحالة المباني والمنشآت، خشية وقوع زلزال مرتقب، وسط تأكيدات من بلدية المدينة (وفقًا لقناة NTV) على “زيادة الطلبات -أكثر من 80 ألفًا- من السكان، بهدف إجراء الفحص السريع للمباني القاطنين فيها بالمدينة، عبر تحليل حالة المبنى من خلال فحص الأعمدة”.
بعيدًا عن التقديرات الصادمة حول تداعيات الزلزال المحتمل (سقوط من 30 إلى 50 ألف شخص، وتضرُّر حوالي 30 ألف مبنى)، اعترف رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، في وقت سابق بأن “ثلث مباني المدينة ليس مقاومًا للزلازل”، فيما تشير أرقام أخرى إلى 318 ألف مبنى غير مهيّأ لتحمُّل الزلزال، وسط المزايدات السياسية التي تقلّل من خطورة الكارثة المرتقبة لأبعاد انتخابية، ومحاولات الحكومة المرحلية لتحصين المنازل ضد الزلازل المحتملة عبر خطط التحول الحضري.
بالعموم، تتعامل المعارضة التركية الآن مع تعهُّدات أردوغان، المتعلقة ببناء ما تهدّم خلال أزمة الزلازل وتوابعها خلال الشهر الأخير، باعتبارها “مجرد وعود”، فيما يراهن الرئيس التركي على وعي المواطن التركي، خاصة بعد نجاح الحكومة في بناء أضعاف المنازل المطلوبة حاليًّا خلال السنوات السابقة، ضمن مشروع التحول الحضري وإسكان TOKİ، وعليه وجّه أردوغان رسالة واضحة لعموم الشعب التركي: “وفّرنا منازل جديدة للمواطنين المنكوبين في كوارث طبيعية سابقة دون أن نظلم أحدًا، وسنكرر الأمر نفسه في كافة مناطق الزلزال”.