فقدَ السوريون عددًا من الشخصيات الهامة التي كان لها أثر في الصعيدَين الثقافي والإعلامي، جرّاء كارثة زلزال تركيا وسوريا في 6 فبراير/ شباط التي حلّت ثقيلة على قلوبهم المتعبة، لينضمّوا إلى قوافل آلاف الضحايا السوريين الذين قضوا نحبهم لاجئين ومهجّرين ونازحين في بلادهم وفي الداخل التركي.
طبيب وأديب قلَّ نظيره
فارق الطبيب والأديب السوري مصطفى عبد الفتاح الحياة بعد أيام قليلة من إنقاذه من تحت أنقاض منزله المدمّر في مدينة أنطاكيا التركية، نتيجة مضاعفات متلازمة الهرس.
وفي التفاصيل، تمَّ انتشال زوجة الطبيب مع اثنتين من بناته حيث توفّينَ فورًا، فيما جرى إنقاذه وابنته وولده، ونُقل إلى مشفى في مدينة غازي عنتاب لأنه كان يعاني من مشكلات في الكلى والتنفس، وبعد مكوثه لأيام في المشفى استقرت صحته وبقيت قدمه تؤلمه، ما تسبّب في نقله إلى مستشفى في ولاية أنقرة، وهناك بُترت قدمه وعلى إثرها توقف قلبه عن العمل وفارق الحياة.
ومصطفى عبد الفتاح هو طبيب أسنان سوري لكن نشاطه المتواصل في مهنته لم يحلْ دون أن يكون كاتب أطفال غزير العطاء، أهدى الطفولة خلال السنوات الماضية عشرات الأعمال الإبداعية في مجال القصة والرواية والمجموعات الشعرية والمسرح والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، بحسب الإعلامي علي الرشيد.
وولد الراحل مصطفى عبد الفتاح في محافظة إدلب عام 1972، وكان والده محمد عبد الفتاح شاعرًا معارضًا اعتقله نظام حافظ الأسد عام 1979، فحُرم مصطفى من أبيه وهو في السابعة من العمر، وفي عام 2015 اضطر مغادرة إدلب نحو الأراضي التركية.
حاصل على إجازة في طب الأسنان وجراحتها، وله العديد من المقالات في هذا الخصوص، إضافة إلى الأعمال الأدبية والتلفزيونية للأطفال التي نال بها عدة جوائز مرموقة، وعُرضت على قنوات سورية وعربية.
ولعلّ من أبرز أعماله التلفزيونية للأطفال “هيّا نقرأ”، حيث عُرض على الفضائية السورية خلال العام 2012، ومسرحية “دارين تبحث عن وطن” عُرضت على التلفزيون الأردني خلال العام 2017، وفازت بجائزة الهيئة العربية للمسرح في مهرجان المسرح العربي في الشارقة بالإمارات العربية المتحدة في دورته التاسعة.
كما شارك في الجزء الجديد من البرنامج التعليمي “افتح يا سمسم”، وقدّم برامج للأطفال منها “طريف وظريفة” ضمن فيديو كليب عام 2002، ومجموعة من الأناشيد المخصّصة للأطفال عبر “إذاعة دمشق” في العام ذاته، وأحرز أحد دواوينه الشعرية بعنوان “عبير الهدى” المخصّص للأطفال على جائزة الدولة لأدب الطفل في قطر عام 2015.
كمال فريح.. مدّاح النبيّ
فارق المدرّس والشاعر كمال فريح الحياة مع جميع أفراد أسرته المكوّنة من 3 أبناء وابنتَين وزوجته، نتيجة تهدّم منزلهم الكائن في مدينة كهرمان مرعش التركية جراء الزلزال المدمر الذي ضرب الجنوب التركي والشمال السوري.
وُلد الشاعر السوري في مدينة الميادين بريف محافظة دير الزور شمال شرق سوريا عام 1982، وهو حاصل على إجازة جامعية في كلية التربية من جامعة الفرات، وعمل مدرّسًا في دير الزور حتى العام 2015 حيث اضطر الخروج من سوريا إلى تركيا، واستقرَّ في مدينة كهرمان مرعش وتابع عمله في التعليم إلى جانب نظم الشعر.
عُرف عنه بأنه مداح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لكثرة مدحه للنبي في شعره، كما كان من أتباع الطريقة الشاذلية القادرية، ومنشدًا في الزاوية الشريفة في مرعش، ومن أبرز الأبيات التي مدح فيها الرسول الكريم:
ما بال قلبيَ من أضلاعه يثبُ كأنّه من لقاءِ الحبّ يقتربُ
يعلو ويهبط من وجد يحرّكه فعاملوهُ بحسنِ الوصل يا عربُ
ونظم الشاعر السوري قبل أسابيع من وفاته بيتَين من شعر الزهد، يقول فيهما:
أنـفـاس عمرك يا ابن آدم جوهرهْ فاذكر بها الرحمن قبل الغرغرةْ
واعلم بأن الوقت يمضي مسرعًا إياك تقضي خيره بالثرثرةْ
وشارك الشاعر في مهرجان الشعر العربي الذي أُقيم في ولاية إسطنبول في يونيو/ حزيران 2022، كما شارك في التظاهرة الشعرية “ربيع القوافي” في مارس/ آذار 2022 التي أقيمت في ولاية مرسين، وكلاهما برعاية الجمعية الدولية للشعراء العرب.
وفي يونيو/ حزيران 2022، شارك في ملتقى ترانيم وطن في مدينة مرعش، برعاية دار موزاييك للدراسات والنشر بالتعاون مع وقف “رضوان هوجا” ومركز التعليم العثماني، كما شارك في ملتقى الأدباء والكتّاب السوريين في أورفا والجمعية السورية للأدب والثقافة، ضمن احتفالية يوم اللغة العربية في ديسمبر/ كانون الأول 2021، وحصد عدة جوائز وأصدر ديوانًا حمل عنوان “حج قلبي”، بحسب شقيق الشاعر سامح فريح، خلال حديثه لـ”نون بوست”.
وكان الشاعر يطمح إلى زيارة بيت الله الحرام بهدف أداء مناسك الحج، لكن ظروفه لم تساعده على تحقيق أمنيته، حيث سجّل في العام 2020 لكن الرحلة عُلّقت جراء أزمة فيروس كورونا، وفي العام 2022 سجّلَ على الحج لكن جواز سفره انتهت صلاحيته، وقبل يومَين من الزلزال أرسل أوراقه للانضمام إلى قافلة حجاج بيت الله الحرام خلال هذا الموسم.
الشاعر مهند حليمة
مهند حليمة، شاعر سوري من مواليد مدينة الحفة في ريف اللاذقية وُلد عام 1980، حاصل على إجازة في اللغة العربية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية ودبلوم تأهيل تربوي من جامعة تشرين، ومؤسّس منتدى الشاعر العربي على فيسبوك الذي يضمّ نخبة من شعراء الوطن العربي، ورئيس تحرير مجلة “الشاعر العربي” الإلكترونية.
شارك الراحل في العديد من المهرجانات التي أقامتها الجمعية الدولية للشعراء العرب وملتقى ترانيم وطن الذي أُقيم في مدينة مرعش التركية، ونشط على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا في تعليم دروس اللغة العربية، وله العديد من الدواوين والقصائد الشعرية التي كان يؤلّفها، إلى جانب عمله كمدرّس في مسقط رأسه وفي مدينة أنطاكيا التركية، ونظم أبياتًا عديدة في بلاد اللجوء بعدما ابتعد عن دمشق التي أحب أن يغازلها قائلًا:
مـا زلتُ كالنّخل إمّا شِئتُ أنتَصِبُ لا يخدعَنّكِ وجهي الشّاحبُ التَّعِبُ
هذا من الشّوق لو تدرين يا قمري مــــــا اسطاعَ ردّ سهام الشوق مُغتَرِبُ
يــا لوعة القلب والمنفى يحاصرني والريحُ تعوي ورائي والدُّنا كـذِبُ
أحارُ في منطق الأيـام يحكمُنا فيها الرّديُّ ويقضي بيننا ذَنَبُ
توفّى الشاعر مهند حليمة في ولاية أنطاكيا جنوبي تركيا، جراء الزلزال المدمر الذي وقع فجر 6 فبراير/ شباط الماضي، حيث وُجد تحت أنقاض منزله في الـ 13 من الشهر ذاته، أي بعد أسبوع من الكارثة التي حلت على سوريا وتركيا.
وترك الشاعر الراحل أثرًا طيبًا في كل طريق سلكه، سواء لدى تلامذته وزملائه الشعراء، حيث نظمت الشاعرة هبة الفقي مرثيةً في وداعه تقول فيها:
يعدو من الموت يا رباه للموت والآه في حلقه تعلو بلا صوت
ما كان يرجو سوى بين يلوذ به فصار مدفنه في أضلع البيت
وقالت على صفحتها الشخصية: “فقدَت القصيدة شاعرها الكبير والقدير مهند حليمة إثر زلزال تركيا الذي كان فاجعة كبيرة اعتصرت قلوبنا ألمًا على إخوتنا وأهلنا في سوريا وتركيا.. مهند حليمة الشاعر الإنسان الذي كنا ننتظر لأيام خبر نجاته من تحت الأنقاض لكن إرادة الله سبقت كل شيء”.
إعلاميون سوريون قضوا نحبهم جرّاء الزلزال
يمان الخطيب
قضى الإعلامي السوري يمان خطيب مع أسرته ووالدَيه وأشقائه البالغ عددهم 12 شخصًا تحت أنقاض منزلهم في ولاية هاتاي جنوبي تركيا جراء الزلزال، حيث تمَّ انتشال جثمانه مع أفراد عائلته بعد أسبوع على كارثة الزلزال.
ينحدر خطيب من مدينة حلب، ويعمل صحفيًّا مع “مركز حلب الإعلامي”، وسابقًا في راديو “روزنة”، وغطى أحداث الثورة السورية من خلال العديد من المواد الصحفية، وتهجّر من قبل نظام الأسد من مدينته عام 2016 ونزح إلى محافظة إدلب ثم إلى أنطاكيا مع عائلته.
وخلال العام 2020 حصل فيلم “في فخ إدلب” للمصوّرَين فادي الحلبي وشقيقه يمان على جائزة “بايو” لأفضل فيلم تلفزيوني عن فئة “أفلام التلفزيون الدولية”، ووثّق الفيلم تفاصيل حملة نظام الأسد وروسيا العسكرية على محافظة إدلب، وما ترتّب عنها من موجة نزوح لعشرات الآلاف من السكان المدنيين، كما استعرض قصص أشخاص فقدوا جميع أفراد عائلاتهم بسبب القصف والتدمير.
عمار الأسود
إلى الداخل السوري، حيث توفّى الإعلامي السوري عمار الأسود برفقة زوجته تحت ركام منزلهما الواقع في مدينة سلقين بريف إدلب، بعد مرور 5 أشهر على زواجه، ما شكّل صدمة لرفاقه وزملائه في القطاع الإعلامي، الذين وصفوه بأنه كان شابًّا هادئًا خلوقًا.
وعملَ الأسود على نقل معاناة الأهالي في مناطق شمالي غربي سوريا، ضمن عمله مع جمعية تراحم الخيرية وقبلها مع جمعية زمزم الخيرية، إلى جانب عمله الصحفي مع عدة وكالات إعلامية محلية.
غياث أبو أحمد
كما فارق الإعلامي غياث أبو أحمد، المعروف باسم “غياث رجب”، الحياة في 6 فبراير/ شباط بعد انهيار المنزل الذي يسكنه في بلدة سرمدا بريف محافظة إدلب، وبعد أيام على رحيله توفّى ابنه الصغير متأثرًا بإصابته جراء الزلزال الذي ضرب شمال وغرب سوريا.
وينحدر غياث من مدينة داريا بريف دمشق، ويعدّ من أبرز الإعلاميين الذين وثّقوا الحراك الثوري، كما وثّق العديد من المعارك التي يخوضها الثوار ضد قوات نظام الأسد، بالإضافة إلى لحظات حصار داريا.
وكان شجاعًا طيب القلب محبوبًا لدى جميع من عرفه، ورغم مشاقّ التهجير إلى الشمال السوري لم يترك أبو أحمد كاميرته، حيث عمل مع العديد من الوكالات الإعلامية لنقل واقع الأهالي، ومن بينها موقع “نون بوست”.
عقبة السيد علي
أما الراحل عقبة السيد علي فهو إعلامي ومخرج سوري، قضى نحبه في مدينة أنطاكيا التركية بعد مكوثه لعدة أيام في المشفى متأثرًا بإصابته جراء الزلزال المدمر، الذي تسبّب في انهيار المنزل الذي كان يقطن فيه مع والدَيه اللذين رحلا قبله، وهما المهندس عامر سيد علي ووالدته نبيلة نبهان.
وكتب عبيدة عامر في رثائه: “ليتك كنت الراثي، ليتك كنت لتمسك ما تبقى، لتلبي كلما نوديت، يا ابن العم والدم، يا آخر أشجار القلب الخاوي والدرب الموحش. سلامًا عليك كلما غمزك الموت بالشظايا فغمزته بالسخرية، وحارشته بالإقدام فأحجم، يا من حملت عمرك وعمري وعمر جيل كامل من المتزلزلين من بعدك”.
حاولنا استعراض مسيرة عدد من السوريين الذين فارقوا الحياة جراء كارثة الزلزال، ومنهم الطبيب والأديب والشاعر والإعلامي والصحفي، الذي يحمل على كتفيه قضية بلاده وثورته.
كان فبراير/ شباط ثقيلًا على السوريين الذين تضاعفت محنتهم وزادت أوجاعهم المتراكمة طيلة عقد ونيف من الزمن، وهم متروكين بين لاجئين ومهجّرين ونازحين مغرّبين عن بيوتاتهم وأرضهم التي كانت تأويهم يومًا ما، بفعل آلة حرب إجرامية ممنهَجة.