تعلُّم اللغة العبرية في غزة.. نهج فلسطيني جديد لمقاومة “إسرائيل”

في السنوات القليلة الماضية، ازداد اتجاه الفلسطينيين في قطاع غزة إلى تعلُّم اللغة العبرية، ليس ترفًا فكريًّا بقدر ما يعدّ نهجًا جديدًا في النضال الفلسطيني المستمر ضد الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من 70 عامًا ونيف، لفهم عقليته وسياساته من جوانب ثقافية ومجتمعية، لا أمنية وعسكرية فقط.
وأيضًا لأن التطورات الداخلية التي تحدث في “إسرائيل” تنعكس على حياة الفلسطينيين وتنقلاتهم بشكل مباشر، خاصة أن غزة تحتل حيزًا كبيرًا من اهتمام قادة الاحتلال وقراراتهم والرسائل التي تتناولها وسائل الإعلام العبرية.
المتتبّع للتاريخ، يعرف أن سكان غزة لا يعتبرون العبرية غريبة عنهم، فقبل قيام السلطة الفلسطينية عام 1994 كانت مدارس الضفة الغربية وقطاع غزة تخضع للإدارة المدنية الإسرائيلية، وكانت تفرض آنذاك تدريس اللغة العبرية في المدارس الفلسطينية كمادة أساسية، قبل أن تحلَّ اللغة الإنجليزية كبديلٍ عنها ضمن المنهاج الفلسطيني الجديد.
وفي الظروف التي سبقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، كان أكثر من 40 ألف عامل من غزة يجيدون اللغة العبرية بطلاقة، إذ اكتسبوها من خلال عملهم لسنوات طويلة داخل الأراضي المحتلة عام 48 في المجالات المختلفة، قبل أن يشدد الاحتلال طوقه الأمني على القطاع ويفرض حصاره عليه بعد سيطرة حركة حماس عام 2007، ما أدّى إلى تناقص أعداد الغزيين الذين يجيدون التحدث باللغة العبرية، لتعود مؤخرًا بصورة أكبر.
“من عرفَ لغة قومٍ أمِنَ مكرهُم”
يقول الصحفي والمحلل السياسي يوسف فارس، إن علاقة الشعب الفلسطيني مع الاحتلال الاسرائيلي علاقة اضطرارية ممتدّة، ليس لها سقف زمني محدد، ويرتبط إنهاؤها بزوال هذا الاحتلال، تلك العلاقة تدفع الفلسطينيين في غزة إلى تعلُّم اللغة العبرية لعدة أسباب قد تلخّص عبارة “من عرفَ لغة قومٍ أمِنَ مكرهُم” كجزء من تلك الأسباب الوجيهة.
إلى جانب ذلك، يضيف فارس خلال حديثه لـ”نون بوست”، إن اتساع رقعة تعلُّم العبرية بغزة أخذ منحى أكثر بالأمور الحياتية، حيث من يتعلم اللغة العبرية تتوفّر له فرص أكبر للعمل، لفهم إدراك العدو إن كان مختصًا في مجال السياسة، من خلال الاطّلاع على الأخبار من مصادرها الأولية.
خصوصًا أن ما نسبته تزيد عن 40% من الأخبار المنشورة على المواقع الفلسطينية المحلية تقتبس نصًّا من المواقع العبرية، بالإضافة إلى فئة مضطرة أن تتعلم هذه اللغة، أولئك الذين يعملون في الداخل المحتل سواء كان عاملًا أو تاجرًا، بموجب الاحتكاك والتواصل الدائم مع أصحاب العمل في الداخل المحتل.
مردفًا أن تعليم اللغة العبرية للمجتمع الفلسطيني يضيف إلى أصحابها بشكل فردي الانفتاح على فضاءات جديدة يتعاطون معها، فمثلًا يمكنهم فهم ثقافة المجتمع العبري عن طريق المسلسلات العبرية، ويصبحون أكثر قدرة على التعمق في مواقع التواصل الاجتماعي، وقراءة الجو العام للمجتمع الإسرائيلي من خلال التعليقات والتعليقات المقابلة عليها، وهذا أمر مهم.
الأسرى المحرَّرون.. نقطة التحول
يستحضر الكاتب فارس بداية الانتفاضة الأولى، حين كان من يجيد اللغة العبرية ويستطيع تدريسها قلة قليلة، يعني حتى فصائل المقاومة التي كانت تريد أن تؤسّس وحدات لرصد الاحتلال كانت تواجهها مشكلة في هذا الأمر، حيث كان عمّال الداخل المحتل هم من يتحدثون باللغة العبرية بشكل شفوي لكنهم لا يجيدون تدريسها بشكل أكاديمي ومهني، لذا لم يكن من الممكن الاعتماد عليهم في هذا الأمر.
يعدّ تأسيس مركز “نفحة”، الذي أسّسه الأسير المحرر الفليت، وهو من محرَّري صفقة وفاء الأحرار في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، برفقة المئات من الأسرى الذين يجيدون اللغة العبرية تحدثًا واطّلاعًا، ويمتلكون سعة وفهمًا للمجتمع الإسرائيلي؛ نقطة تحول أخرى في إعادة اهتمام الغزيين بتعلم اللغة العبرية والاهتمام بالشأن الإسرائيلي.
عند تحررهم، أسّس بعض هؤلاء الأسرى بعد الإفراج عنهم مراكز تهتم بالترجمة والبحث في الشأن الإسرائيلي في قطاع غزة، حيث شكّل الأسر تجربة خاصة في حياة بعض الأسرى الفلسطينيين، الذين تمكّنوا من خلالها التعرُّف إلى المجتمع الإسرائيلي.
وبعض هؤلاء الأسرى تعلّم بنفسه اللغة العبرية، ثم علّمها لآخرين من زملائه في السجن، وبالتالي أصبحت لديهم القدرة على الاطّلاع والتفاعل مع ما يتم إنتاجه باللغة العبرية من آداب وعلوم مختلفة.
ومركز “نفحة” جاءت تسميته من السجن الإسرائيلي الذي قضى به الفليت ما يقارب 14 عامًا متتالية في العزل الانفرادي، حيث يعتبَر اليوم المركز الأول المتخصّص في تدريس اللغة العبرية والشؤون الإسرائيلية في قطاع غزة، ويضمّ أكثر من 80% من سكان القطاع الذين يسعون إلى الالتحاق ببرامج اللغة العبرية، إلى جانب معاهد أخرى.
أعلنت وزارة التربية والتعليم في غزة عن إدخال اللغة العبرية كمادة اختيارية إلى المنهاج الفلسطيني، انطلاقًا من أهمية معرفة لغة العدو.
يقول الأسير المحرر الفليت: “بعد خروجي من السجن ووصولي إلى قطاع غزة مسقط رأسي، بدأت بالتفكير بإنشاء مؤسسة تجمع ما بين الاهتمام بشؤون الأسرى في السجون الإسرائيلية وتعليم اللغة العبرية الخاصة بـ”إسرائيل”، فأسّستُ مركز “نفحة” لشؤون الأسرى والدراسات الإسرائيلية”.
مكملًا: “لأننا محتلون لا نعرف عن المجتمع الإسرائيلي سوى القشور، ولدينا قراءة مغلوطة حول ما يترجم عربيًّا، والذي لا تتعدى نسبة صحته سوى 2%، وغالبًا ما يتم التركيز فقط على الجانبَين العسكري والأمني، رغم أن الجوانب الأخرى لا تقلّ أهمية”.
عن نظام التدريس ومنهجه، يوضّح في حواره مع “نون بوست” اعتماد دبلومات اللغة العبرية والترجمة العبرية المتقدمة التي تدرَّس من خلال المركز بشكل رسمي من وزارة التربية والتعليم العالي، والملتحق يحصل على شهادة مصدَّقة من الوزارة.
ويقدم المركز مناهج مختلفة وفقًا للفئة المستهدفة، فعلى سبيل المثال منهج الدبلوم هو منهج إسرائيلي معتمَد من قبل وزارة التربية والتعليم العالي في “إسرائيل”، التي تمنح اعتماده للخريجين الحاصلين عليه من القطاع.
وفي الآونة الأخيرة، شهد المركز إقبالًا عاليًّا من قبل خريجي كلية الإعلام، وكانت نسبتهم حوالي 60% من العدد الإجمالي الملتحق في هذه الدورات، و40% كان من نصيب العمال والتجار الذين يعملون في الجانب الإسرائيلي، وموظفي الشركات وبعض موظفي البنوك.
وتتراوح الفئة العمرية للمنتسبين ما بين الأطفال من عمر 10 سنوات لغاية 60 عامًا من كبار السنّ، ولا تقل أعداد المنتسبين عن ألف طالب سنويًّا، يلتحقون بالدبلومات المتعددة (التأسيسية، الترجمة، المتقدمة)، وعدد الملتحقين في كل دبلوم ما بين 30 إلى 40 متدرّبًا، حيث هذا العام حتى بداية شهر فبراير/ شباط التحق بالمركز حوالي 250 طالبًا.
ويشير الفليت إلى أن هناك معضلة تتمثل في المؤسسة التعليمية، فهي لم تتخذ قرارًا جديًّا يدمج مساقات العبرية لدى مؤسساتها التعليمية، رغم أنها أقرّتها قبل 7 سنوات كمادة اختيارية، وعادت إلى سحبها من المقررات التعليمية.
وأعلنت وزارة التربية والتعليم التابعة لحركة حماس في غزة عن إدخال اللغة العبرية كمادة اختيارية إلى المنهاج الفلسطيني، انطلاقًا من أهمية معرفة لغة العدو، لكن القرار لم يُكتب له النجاح، ووفقًا لحديث وكيل الوزارة في غزة، زياد ثابت، فإن السلطة الفلسطينية في رام الله رفضته بشدة، واعتبرته يمسّ بالهوية الفلسطينية.
المقاومة الفلسطينية وتوظيف العبرية
على العكس من المؤسسات التعليمية، بدا واضحًا اتجاه المقاومة الفلسطينية إلى توظيف اللغة العبرية في خطاباتها والأناشيد التي تحمل رسائل لـ”إسرائيل”، وتحرص على تدريسها لجنودها كذلك، حين استخدمت كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة حماس- اللغة العبرية في أكثر من مناسبة، لإرسال رسائل تهديد إلى الجمهور الإسرائيلي خلال حرب 2014.
فيما أطلقت في العام ذاته موقعًا إلكترونيًّا ينطق بالعبرية، وهو يعتبر الموقع الفلسطيني الأول الذي يتبع إلى فصيل عسكري، والذي يراه المحللون تطورًا ملحوظًا في أساليب المواجهة مع الاحتلال.
بالعودة إلى المحلل السياسي يوسف فارس، يقول إن المقاومة الفلسطينية في غزة تخاطب خصمها بلغته، يعني أن ذلك يوفر للمقاومة هامش اختراق الساحة العبرية والمجتمع العبري.
مضيفًا أن “إسرائيل” تولي الاهتمام لتجنيد اللغة العربية وفق سياساتها، من خلال بثّ خطابات متنوعة -معظمها بلهجة فلسطينية- عبر منصات التواصل الاجتماعي، وأشهرها منصة “إسرائيل تتكلم العربية”، وصفحة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، الذي استطاع من خلال طلاقة لسانه باللغة العربية الاقتراب إلى أقصى مدى من الشخصية العربية وتقمُّصها، لذلك لقيَ بأسلوبه “الذكي والخبيث” قبولًا من أوساط عربية، يعني ذلك أن “إسرائيل” استطاعت أن تخترق المجتمع بمثل هذه الشخصية.
ويرى المختص بالشؤون العبرية، ثابت العمور، في توظيف المقاومة في غزة للغة العبرية مؤشرًا وتطورًا مهمَّين في مخاطبة الاحتلال ومستوطنيه باللغة التي يفهمونها، كذلك تبعاته كبيرة جدًّا على صعيد الجبهة الداخلية للاحتلال، لأنه سيسمع رواية المقاومة مباشرة دون ترجمة أو تحريف، أما أمنيًّا يعني نقطة تحول، حيث المقاومة باتت تفهم لغة العدو وربما تتنصّت عليه أيضًا، وهذا أمر مهم يفسّر أسباب الإقبال على تعلم اللغة العبرية.
ويؤكد العمور، في حديثه لـ”نون بوست”، أن الاحتلال ينظر بعين القلق إلى ذلك الاهتمام من قبل المقاومة وسكان قطاع غزة، لأنه يدرك أن الاهتمام بلغته يعني معرفة كيف يفكر وبماذا يفكر، وقدرة المقاومة على إيصال روايتها ورسائلها للمجتمع الإسرائيلي مباشرة دون ترجمة، حيث يعلم الاحتلال جيدًا واقع غزة، ويعلم أن الاتجاه لتعلُّم العبرية ليس ترفًا لدى أهلها.
تطبيع أم مقاومة؟
يكثر النقاش حول تعلم اللغة العبرية، بين من يرى فيها أمرًا مرفوضًا من أوجُه التطبيع الثقافي المرفوض شعبيًّا، وآخر يعتبرها ضرورةً وجزءًا من أوجُه الصراع العربي الإسرائيلي، فيما يذهب آخرون لإبداء تخوفهم من تعلم العبرية للجيل الجديد الصاعد، بحجّة أن ذلك يمنحهم القدرة، على سبيل المثال لا الحصر، على التواصل مع أجهزة استخبارات الاحتلال والوقوع بمصيدتها، وخدمتها بما يضرّ مصلحة شعبه.
يحسم الجدل الكاتب والمختص بالشأن الإسرائيلي، محمد هلسة، في مقالٍ له، بالقول: “إن معاداة اللغة العبرية كلغةٍ سامية شرق أوسطية عريقة، وتقديمها على طبق من ذهب للدولة الإسرائيلية أقرب إلى العدمية منه إلى الموقف السياسي المتفهّم والمستقرئ للأحداث والتفاعلات السياسية والمجتمعية التي تحتدم في عالمنا العربي، بعيدًا عن الشعارات الفضفاضة التي يطلقها البعض أو يرددها بطريقة “ببغاوية” دون تمحيص أو دراية”.
“ولنعد إلى العقل بدل الجدل الذي لا مبرر له إلا إمعان الغرق في صراعات ثانوية، لا تساوي جناح بعوضة أمام القضية الكبرى، فلسطين، وهي تواجه احتلالًا بغيضًا وعنصريًّا دفاعًا عن حق مسلوب في الحياة والحرية على أرض الأجداد (…) دعونا من اللغة العبرية نفسها، ولنركز للحظة على علاقتنا بذلك الآخر. هل هو عدو أم كيان طبيعي؟ فإن كان عدوًّا فسيكون من أشد واجباتنا أن نعرفه ونفهمه ونطّلع على آدابه وثقافته، وهنا تصحّ بالفعل مقولة “اعرف عدوك”، غير أن ذلك لا يعني أن نفتح له الباب لاختراقنا كورم سرطاني”.
“أما إن اعتبرناه كيانًا طبيعيًّا وموجودًا فهذا يعني اعترافًا صريحًا به، ما يعني تطبيعًا مدفوع الأجر (…) لكن الأصحّ أيضًا أن نقول إن كان تعلم العبرية يهدف للتعرُّف إلى المجتمع والحياة الإسرائيلية واتجاهات الرأي العام لديهم، في إطار مبدأ “اعرف الآخر”، حيث إن الجهل بـ”إسرائيل” ومجتمعها من الأسباب الرئيسية لاستمرار هزيمتنا أمامها، فنعم المضمون والغاية”.
“إن توجُّهنا كعرب وفلسطينيين، على وجه التحديد، إلى تعلم اللغة العبرية يعتبَر استراتيجية وأسلوب مقاومة مهمّ جدًّا في إدارة جوهر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الطويل الأمد، حيث من الضروري فهم لغة خصمنا الذي يقرأ لغتنا جيدًا ويوجّه رسائله لنا بالعربية الإسلامية للتأثير على الرأي العام، وتسقط جدراننا كأحجار الدومنوز أمام مدّه المستمر”.
“نحن في المقابل علينا قراءة المجتمع الإسرائيلي ومخاطبته بلغته التي يفهمها ارتباطًا بمركزية قضيتنا الفلسطينية، لتكوين خطاب وطني فعلي لا ردود أفعال انفعالية طائشة”، وفقًا لرأي المختص بالشؤون العبرية.