عجزت سلطات الحكم العسكري، بعد أقل من عام ونصف العام من الاستيلاء على السلطة، عن سداد رواتب العاملين بمؤسسات الدولة في فبراير/شباط الفائت، بسبب العجز الحاد في الإيرادات للشهر الثاني على التوالي، وقررت وزارة المالية عدم إرسال أموال تسيير أي وزارة إيرادية ورواتب العاملين فيها، إلا بعد إيداع إيراداتها في حساب الوزارة.
وبدأت وزارة المالية في صرف رواتب العاملين بمؤسسات الدولة عن شهر يناير/كانون الثاني هذا العام، بعد اليوم السابع من فبراير/شباط، في سابقة هي الأولى في تاريخ السودان، حيث درجت الحكومات المتعاقبة على الإيفاء بدفع الأجور في اليومين الأخيرين من كل شهر.
وبررت وزارة المالية تأخر صرف رواتب شهر يناير/كانون الثاني، بسبب تأخر إجازة موازنة العام 2023، التي جرى إجازتها في 1 فبراير/شباط على خلاف العادة، فغالبًا ما تُجاز في خواتيم كل عام، فالسنة المالية في السودان تبدأ في يناير/كانون الثاني وتنتهي في ديسمبر/كانون الأول، دون أن تعترف أن السبب عجز الإيرادات.
نتائج الحكم العسكري
رجح المحلل الاقتصادي هيثم فتحي سبب عدم إيفاء وزارة المالية بأجور العاملين بانعدام السيولة عند الحكومة التي لا تملك إزاء هذا الوضع إلا الاقتراض، أي أن تقترض من الجهاز المصرفي لتوفير احتياجاتها التمويلية للوفاء بالتزاماتها تجاه الخزانة العامة بالاتفاق مع البنك المركزي الذي يقترض نيابة عنها من المصارف والشركات عبر أدوات الدين المحلي.
ويوجد حل آخر، يتمثل في طباعة النقود، لكنه ذو عواقب مُدمرة، فهو يُخفض القوة الشرائية للعملة المحلية مقابل العملات الأخرى ويرفع معدلات التضخم، نظرًا لعدم وجود موارد حقيقية تُغطي الطباعة.
وقدرت موازنة العام 2023، أجور العاملين في مؤسسات الدولة بـ2.1 مليار جنيه (الدولار=591 جنيهًا)، بزيادة قدرها 87% عن 2022.
رواتب موظفي الدولة مع المساهمات الاجتماعية ـ يُعرفا في الموازنة بتعويضات العاملين ـ يمثلان 35% من جملة الإيرادات المقدرة في 2023 بـ 7.363 مليار جنيه، ومن المقرر أن تُجبي الحكومة معظمها من الضرائب ورسوم الخدمات.
وبلغ عجز موازنة العام السابق 461 مليار جنيه جرى تمويله بالاستدانة من النظام المصرفي، بينما ارتفع العجز هذا العام إلى 833 مليار جنيه وقررت وزارة المالية تمويله بذات الطريقة.
يرجع عدم إيفاء وزارة المالية بأجور العاملين إلى انعدام السيولة عند الحكومة التي لا تملك إزاء هذا الوضع إلا الاقتراض أو طباعة النقود.
ويرجع المحلل الاقتصادي محمد إبراهيم، تأخر صرف الرواتب إلى التحديات التي واجهتها السلطة العسكرية في 2022، وهي تحديات تفاقمت مطلع العام مع الزيادات الكبيرة التي فرضتها على رسوم الخدمات.
ويقول لـ”نون بوست”: “هذه التحديات تتمثل في ارتفاع عجز الموازنة وزيادة الصرف على قطاع الأمن والدفاع وعدم توافر احتياطي من النقد الأجنبي في بنك السودان المركزي وارتفاع معدلات التضخم وعدم الاستقرار السياسي والفساد المالي والإداري والاضطرابات وضعف الإيرادات الضريبية نتيجة لرفض التجار دفع الضرائب التي يعتبرها غير معقولة”.
أزمات متعددة ولا أمل يلوح في الأفق
ضعف الإيرادات العامة لا ينفصل عن سوء الوضع الاقتصادي الذي يكاد يصل مرحلة الانهيار، في ظل تدني قيمة العملة الوطنية وضعف القوة الشرائية للسودانيين وتآكل مدخراتهم والزيادات المستمرة في أسعار الخدمات العامة بما في ذلك مياه الشرب، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الفقر التي وصلت 65% وفقًا لمفوضية الأمان الاجتماعي.
ولا يمتلك السودان احتياطي من العملات الأجنبية لتغطية استيراد احتياجاته، إذ يستورد من الخارج معظم السلع خاصة النفط والقمح والسلع المصنعة وغيرها، وهذا ما أوصل العجز في الميزان التجاري إلى أكثر من 6.7 مليار دولار في 2022.
ولا تجد الشركات التجارية، في ظل عدم عملات حرة في البنك المركزي، بدًّا من شراء العملات الحرة من السوق السوداء لاستيراد السلع، ما يؤدي إلى مزيد من انخفاض القوة الشرائية للجنيه السوداني، ليُضاعف من جديد أعباء السودانيين.
وهذا الوضع، إضافة إلى الأزمة السياسية والنزوح المطول والاقتتال الأهلي والجفاف وتفشي الأمراض والكوارث الطبيعية، جعل 15.5 مليون سوداني (ثلث السكان) بحاجة إلى مساعدات إنسانية هذا العام.
وتخطط الأمم المتحدة وشركاؤها الإنسانيون لتقديم المساعدة إلى 12.5 مليون سوداني بتمويل يبلغ 1.7 مليار دولار، لكن بالنظر إلى أن تمويل خطتها الخاصة بالاستجابة الإنسانية لـ2022 بنسبة 38.6% فقط وتمويل خطة العام الذي سبقه بنسبة 36.7%، يمكن التشكيك في قدرتها على الوصول إلى العدد الكلي الذي تستهدفه.
ويُعد المستفيدون من القطاع الزراعي الأكثر تضررًا من تردي الأوضاع، وهو قطاع يُمثل 33.2% من إجمالي الناتج المحلي المقُدر أن يصل، وفقًا لوزارة المالية، في 2023 إلى 59.387 مليار جنيه، مع العلم أن تقديرات موازنة هذا العام تبلغ 12.4% من إجمالي الناتج المحلي.
ويُمثل قطاع الصناعة 18.3% من إجمالي الناتج المحلي، وهو يُعاني أيضًا من تحديات عديدة، من بينها ارتفاع تكلفة التشغيل وضعف القوة الشرائية والكساد، ما أدى إلى خروج 60% من المصانع عن الإنتاج، بحسب الأمين العام لاتحاد الغرف الصناعية عبد الرحمن عباس.
ويشير المحلل الاقتصادي هيثم فتحي إلى أن موظفي الدولة وأسرهم يكابدون المعاناة، بكل تفاصيلها، جراء تأخر صرف أجورهم الشهرية، الأمر الذي خلق حالة من التذمر والسخط باعتبار الرواتب مصدرًا أساسيًا لدخل معظم السودانيين الذين أثقلت الأزمة الاقتصادية كاهلهم.
هل تُفلس الحكومة في الشهور المقبلة؟
يقول هيثم فتحي لـ”نون بوست”، إن الإفلاس يحدث عندما تجتمع عدة أزمات مع بعضها البعض، وهي: عجز الدولة عن سداد أقساط قروضها لعدم توافر الأموال وعجزها عن سداد قيمة وارداتها من السلع والخدمات والعجز عن دفع رواتب الموظفين والعجز عن السيطرة على العملة المحلية وفقدان الاحتياطات الأجنبية.
في الواقع، عجزت السلطة العسكرية عن سداد جانب كبير من واردات 2022 بدليل بلوغ عجز الميزان التجاري أكثر من 6.7 مليار دولار، وهي تتأخر في صرف أجور العاملين بسبب تدني الإيرادات، وعلى وشك فقدان السيطرة على العملة المحلية إذ بدأت قيمة الجنيه تنخفض في السودان منذ مطلع الشهر السابق في السوق الموازي، بعد استقرار دام أكثر من عام، بسبب تآكل الاحتياطات التي وفرتها حكومة الانتقال.
أما بالنسبة لسداد القروض، فقد قررت وزارة المالية في موازنة العام 2023 تسديد مبلغ 101 مليون دولار فقط من إجمالي الدين الخارجي البالغ 62.4 مليار دولار، وهذا لا يشمل ديون الدول الأعضاء في باريس التي تصل إلى 14.1 مليار دولار، وفقًا لبنك السودان المركزي الذي لم يُعلن عن التقرير السنوي لـ2022 حتى الآن.
وكان السودان ومجموعة دول نادي باريس، قد وقعا في 15 يوليو/تموز 2021، اتفاقًا يقضي بإعفاء هذه الدول للخرطوم من ديونها في إطار مبادرة إعفاء ديون البلدان الفقيرة المثقلة بالديون “هيبك”.
لكن بعد الانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرال عبد الفتاح البرهان، جرى إجراء اتفاقيات ثنائية بين السودان وكل دولة من دول نادي باريس على حدة لإعفاء الديون حتى أبريل/نيسان المقبل.
ولا يقتصر هذا التعليق المؤقت على دول نادي باريس، فهو شمل تعليق المؤسسات المالية الدولية والدول الغربية تعهدات قطعتها إلى حكومة الانتقال تصل إلى 5 مليارات دولار، مشترطة رفعها بعودة الحكم المدني.
وفي 5 ديسمبر/كانون الأول 2022، وقع حكام السودان العسكريون وقوى سياسية ومهنية اتفاقًا إطاريًا، يتحدث عن عودة العسكر إلى الثكنات وإطلاق فترة انتقال بقيادة مدنية مدتها 24 شهرًا، بعد التوافق على قضايا مختلف عليها.
وجرى التوافق على قضايا: تفكيك بنية النظام السابق وأزمة شرق السودان وتقييم اتفاق السلام في ورش عمل، حيث تبقى لهما التوافق على قضايا العدالة وإصلاح قطاع الأمن والدفاع.
وأبدت القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري أملًا في توقيع اتفاق نهائي في منتصف يناير/كانون الثاني المنصرم، وهي الآن تُسابق الزمن لتوقيعه قبل الشهر المقبل، لمعرفتها أن السودان يُعاني من أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية يمكن أن تُعجل بانهيار الدولة.