تفصلنا أيام قليلة عن انعقاد قمة “النقب 2 ” المقرر أن تحتضنها المملكة المغربية، مارس/آذار الحاليّ، وفق ما أعلنه وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، في 2 يناير/كانون الثاني الماضي، بمشاركة الإمارات ومصر والبحرين مع دولة الاحتلال والدولة المضيفة، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
ويأتي موعد انعقاد النسخة الثانية من تلك القمة بعد أيام قليلة من مؤتمر العقبة الذي عُقد جنوب الأردن، الأحد 26 فبراير/شباط 2023، وشارك فيه ممثلو السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال بحضور ممثلين عن مصر والولايات المتحدة وبريطانيا، وذلك لمناقشة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، وهو الاجتماع الأول من نوعه الذي تجلس فيه السلطة وحكومة الاحتلال على مائدة واحدة منذ سنوات.
أجواء ملبدة بالغيوم تخيم على المشهد الفلسطيني برمته، وذلك بعد فشل اجتماع العقبة في تحقيق أهدافه، والانقلاب على مخرجاته في أعقاب التغول الإسرائيلي الفج بحق الشعب الفلسطيني في بلديات نابلس وقراها، وصل إلى الحديث عن وجوب محو قرية حوارة بأكملها حسبما جاء على لسان وزير المالية المتطرف وزعيم الحزب الصهيوني، بتسلئيل سموتريتش، في الأول من الشهر الحاليّ.
الهجوم الذي تعرضت له السلطة الفلسطينية جراء مشاركتها في هذا المؤتمر التي وصفت بأنها “غطاء سياسي” لجرائم الاحتلال، بمثابة “الخيانة” للشعب الفلسطيني وقضيته المقدسة، والتداعيات الناجمة عن الانتهاك الاستيطاني بحق سكان حوارة ونابلس وأريحا ومعظم بلدات الضفة، أثار الكثير من التساؤلات بشأن انعقاد النسخة الثانية من قمة النقب، فهل تعقد في تلك الأجواء الملتهبة؟ وهل يقبل الفلسطينيون الجلوس مرة أخرى مع ممثلي الاحتلال رغم النكوص عن مخرجات العقبة؟
الانعقاد ضرورة ملحة لإذابة الجليد
تنقسم الآراء بشأن انعقاد قمة النقب الثانية في موعدها هذا الشهر إلى رأيين: الأول يمثله الفريق الداعم لعقدها رغم التوترات الحاليّة، ويقود هذا الفريق الإمارات وبعض المطبعين مع دولة الاحتلال ممن يسابقون الزمن لتخفيف الضغوط الممارسة على تل أبيب ومحاولة إدماجها أكثر وأكثر في الداخل العربي.
ففي 9 يناير/كانون الثاني الماضي احتضنت أبو ظبي أعمال اللجنة التوجيهية لـ”منتدى النقب”، تمهيدًا لعقد النسخة الثانية في المغرب، وشارك في هذا الاجتماع الذي يعد الثالث للجنة وفود رفيعة المستوى من الدول الأعضاء الستة: الإمارات والبحرين ومصر والمغرب والولايات المتحدة و”إسرائيل”، وقد عقد الاجتماع الأول في البحرين في يونيو/حزيران 2022 والثاني على شكل اجتماع افتراضي في أكتوبر/تشرين الأول 2022.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي وجهت أبو ظبي دعوةً رسميةً لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، ومعه عضو الكنيست المتطرف، وزير الأمن القومي (حاليًا) إيتمار بن غفير، لحضور حفل السفارة الإماراتية لدى تل أبيب بمناسبة اليوم الوطني للإمارات، وهي الدعوة التي تزامنت مع تحفظات غربية عدة على أداء متطرفي الاحتلال.
ويرى محللون أن عقد مؤتمر العقبة رغم ما شهده من كواليس وتداعيات كان “بروفة” تمهيدية لعقد النسخة الثانية من قمة النقب بالمغرب، وأن مشاركة السلطة الفلسطينية تحديدًا فيه كان خطوة أولى نحو الانخراط في مسار المباحثات الثنائية والمتعددة مع الجانب الإسرائيلي رغم التحفظات خلال السنوات الأخيرة.
ويميل أنصار هذا الرأي إلى أن إذابة الجليد الناجم عن التصعيد الأخير لن يكون إلا بعقد اللقاءات والمباحثات المشتركة التي قد تكون أرضية ملائمة لتفاهمات تساعد على خفض منسوب التوتر قدر الإمكان، وعليه فإن هناك حاجة ماسة لعقد القمة في هذا الظرف الاستثنائي بما يلطف الأجواء من خلال ضمانات ملزمة لجميع الأطراف برعاية أمريكية مع الدول المطبعة مع “إسرائيل”.
التأجيل ردًا على التصعيد الأخير
أما الرأي الثاني فيرى الاتجاه نحو التأجيل بسبب الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة ضد الفلسطينيين التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء، وسط خطاب عنصري متطرف غير مسبوق، وفق ما نقلت صحيفة “هسبريس” الإلكترونية المغربية عن صحيفة “إسرائيل هيوم” العبرية.
الصحيفة المغربية أشارت إلى أن المملكة بعثت رسائل ضمنية عدة لتل أبيب تعكس مدى قلقها إزاء الأوضاع في الأراضي المحتلة، ومن سياسات وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، كما جاء على لسان وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي والمغاربة المقيمين في الخارج، ناصر بوريطة، الذي عبر عن رفض بلاده قرار حكومة نتنياهو بتكثيف الاستيطان وشرعنة البؤر الاستيطانية، وكل الإجراءات الأحادية التي تقوض فرص السلام.
من جانبه شدد أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكدال بالرباط، عبد النبي صبري، على موقف المغرب الداعم للقضية الفلسطينية وأنه لم يتغير منذ رحيل الملك الحسن الثاني، استنادًا إلى ضرورة إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، مضيفًا أنه “خلال العامين الماضيين، كانت هناك تأثيرات وتساؤلات بشأن موقف الرباط، لا سيما بعد التقارب مع تل أبيب”، مؤكدًا أن “ثبات الموقف المغربي بشأن فلسطين يدخل ضمن التوجهات الكبرى للدولة”.
وقبيل التصعيد الإسرائيلي الأخير في نابلس وجنين وبقية بلدات الضفة والقدس، أعلنت بعض الكيانات السياسية المغربية تنديدها واستنكارها لاحتضان بلادهم تلك القمة، كما جاء في بيان حزب العدالة والتنمية المغربي (معارض)، الذي أعلن رفضه التام أن تكون المملكة ساحة لأي اجتماعات بحضور “إسرائيل”، فيما حذرت مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين (غير حكومية)، وجماعة “العدل والإحسان” (أكبر جماعة إسلامية في البلاد)، من الانعكاسات الخطيرة على السيادة الوطينة جراء ما أسموه “الهرولة التطبيعية” مع دولة الاحتلال.
وفي بيان للمجموعة نشرته على صفحتها على فيسبوك قالت إن احتضان المغرب لمثل تلك اللقاءات “أكبر إساءة إلى أرواح الشهداء من أبناء بسطاء الشعب المغربي الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل تحرير وطنهم وسيادة شعبهم”، منوهة إلى أن “مواصلة المشاورات مع كل الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية والائتلافات الحقوقية والمدنية في أفق خلق ميزان قوى وطني أوسع وأصلب لحماية وتحصين الدولة والمجتمع وبلورة برنامج عمل يحشد كل الجهد الوطني الموحد للتصدي لهذه الانزلاقات الخطيرة من مخاطر التطبيع”.
وزير المالية، زعيم الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش:
“أعجبتني التغريدة التي دعت لمحو قرية حوارة، لأني أعتقد أنه يجب محو قرية حوارة، أعتقد أن على دولة إسرائيل فعل ذلك وليس المستوطنين” pic.twitter.com/awApCS4ktQ— ?? منصة صَدَحَ الإخبارية || SADAH NEWS ?? (@amushtaha28) March 1, 2023
الأردن والسلطة.. مأزق كبير
بالنسبة للموقف المصري الإماراتي البحريني الأمريكي، فإن المشاركة في تلك القمة لن تغير من الأمر شيئًا، فالحضور هنا جهد تقليدي يأتي في إطار الالتزام الدبلوماسي بتفاهمات اتفاقيات التطبيع في ضوء العلاقات الجيدة مع حكومة الاحتلال من جانب، والجانب الفلسطيني من جانب آخر.
لكن يبقى موقف السلطة الفلسطينية والأردن على وجه الخصوص من المشاركة هو الأكثر جدلًا وغموضًا لما ينتابه من تشابكات وحسابات خاصة تفرض على الجانبين التفكير مليًا قبل الموافقة على الحضور خاصة بعد الانتكاسة التي تعرض لها مؤتمر العقبة والضرب بمخرجاته عرض الحائط من الجانب الإسرائيلي الماضي قدمًا في مسار الانتهاكات والتصعيد والاستيطان وهي الأنشطة التي تعهد بتجميدها مؤقتًا ما بين 3 – 6 أشهر على الأقل.
على المستوى الفلسطيني فإن مشاركة السلطة في قمة العقبة بعد غياب سنوات طويلة عن مثل تلك اللقاءات المشتركة مع الجانب الإسرائيلي يعد تراجعًا عن الموقف السابق، وبداية مرحلة جديدة من التوجهات والسياسات تسعى من خلالها السلطة إلى تعزيز نفوذها داخليًا وخارجيًا بعد تراجعه لحساب فصائل المقاومة والوسطاء الإقليميين.
وكان الهدف الأكبر – المعلن ظاهريًا – من اجتماع العقبة هو دعم السلطة وتجميل صورتها من أجل استعادة حضورها مجددًا خاصة بعد تراجع شعبيتها لدى الشارع الفلسطيني، إلا أن الهدف الحقيقي وفق بعض الأصوات كان تأهيل السلطة لمواجهة السلوكيات التي من شأنها تهديد الأمن الإسرائيلي، وهو ما كشفته وسائل الإعلام الإسرائيلية بشكل مباشر، خاصة مع تصاعد أعمال المقاومة الفردية غير المنخرطة تحت ألوية الفصائل المعروفة.
ويرى المحلل السياسي عامر السبايلة أن مجرد جلوس ممثلين عن السلطة الفلسطينية على طاولة الاجتماع مع نظرائهم في الحكومة الإسرائيلية “يمكن أن يؤسس فعليًا لتغير سياسي، وتحول باتجاه عدم معارضة مثل هذه الاجتماعات، وبالتالي الذهاب إلى اجتماعات النقب القادمة”، وأضاف “الاستفادة من العقبة لا يمكن تحديدها اليوم، لأن الوضع على الأرض في فلسطين هو ما سيحدد كثيرًا من الأمور”.
إلا أن التصعيد الإسرائيلي الأخير والخطاب العنصري الفج الصادر عن وزراء داخل حكومة نتنياهو، وإصرار الأخير على المضي قدمًا في سياسة التوسع الاستيطاني وشرعنة البؤر الاستيطانية المخالفة، والعودة لعصر العصابات والميليشيات في مواجهة الفلسطينيين سيضع السلطة في مأزق حقيقي إذا أعلنت المشاركة، خاصة مع تصاعد الانتقادات اللاذعة من الشارع الفلسطيني بشتى انتماءاته بشأن ما أسماه “الرضوخ” لدولة الاحتلال.
أما على المستوى الأردني، فالأمر لا يختلف كثيرًا، إذ إن اجتماع العقبة في الأساس كان الهدف منه التمهيد لاجتماعات النقب، وهو ما تعيه عمان جيدًا بحسب أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الألمانية – الأردنية (حكومية) بدر الماضي الذي يميل إلى عدم وجود خيارات رفض المشاركة بالنسبة للأردن في اجتماعات النقب مثلما كان في السابق “لأن اجتماع العقبة شكّل عامل ضغط كبير على المملكة كونها الوحيدة من دول المنطقة التي لا تريد السير وفق ما يفرض حاليًّا من بعض الدول التي استعجلت بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي”.
وكشف الباحث الأردني أن موقف المملكة حرج للغاية في ظل ما تتلقاه من مساعدات مالية كبيرة جدًا من الولايات المتحدة التي تعد الداعم الأول والأساس لـ”إسرائيل” وأجندتها بالمنطقة، ومن ثم لم يجد الأردن بدًا من جمع أطراف القضية على طاولة واحدة في العقبة ومن بعدها المشاركة ضمن وفود النقب الثانية، منوهًا أن السلطات الأردنية تحاول الحفاظ على نفوذها والتزامها ودورها إزاء جارتها الغربية الفلسطينية.
رفضت 212 شخصية أردنية في بيان صدر أمس، الضغوط الخارجية الممارسة على المملكة والسلطة الفلسطينية للمشاركة في “قمّة النقب” التطبيعية المزمع عقدها مارس المقبل في المغرب، وضم البيان تواقيع وزراء سابقون ونواب وشيوخ عشائر وإعلاميون وأساتذة جامعات وقانونيون. pic.twitter.com/1oTBGvwRxj
— مقاطعة (@Boycott4Pal) February 23, 2023
المغرب.. حسابات خاصة
لم يكن التصعيد الإسرائيلي الأخير هو الحائل الوحيد الذي قد يدفع إلى تأجيل أو إلغاء النسخة الثانية من قمة النقب، فهناك العديد من الملفات التي تثير حفيظة الرباط تجاه تل أبيب رغم قوة ودفء العلاقات بين البلدين، على رأسها ملف “الصحراء الغربية” الذي يعد المعضلة الأبرز التي حالت دون ترجمة اتفاق أبراهام إلى إجراءات تطبيعية شاملة.
فحكومة الاحتلال تأبى الاعتراف بشكل رسمي وواضح بسيادة المغرب على الصحراء، محاولة مسك العصا من المنتصف، وهو الموقف الذي يعتبره المغرب لا يليق بحجم العلاقات التاريخية بينهما، والثمن البخس لتوقيع اتفاق تطبيع كامل ومواجهة الانتقادات اللاذعة التي تتعرض لها المملكة.
ويعد مكان عقد القمة نقطة خلاف قد تنسف مسألة الانعقاد من عدمه، فبينما تشير التسريبات الإعلامية إلى أن تكون العاصمة الرباط هي المستضيفة لفعالياتها، هناك من يشير إلى عقد القمة في مدينة الداخلة الواقعة في قلب الصحراء، إذ إن قبول تل أبيب انعقاد هذا اللقاء في تلك المدينة يعني الاعتراف بشكل أو بآخر بحق المغرب في الإقليم، وهو ما قد يوتر العلاقات مع الجزائر، وفي المقابل فإن رفض المشاركة فيها في الداخلة والتمسك بعقدها في العاصمة قد ينطوي عليه تفسيرات تزيد من حفيظة المغاربة، ويضع المخزن المغربي في مأزق كبير.
على كل حال، فإن ما يحدث في حوارة ونابلس والضفة والقدس، سيكون له تداعياته على مسألة عقد النسخة الثانية من قمة النقب في المغرب، إما بالإسراع لعقدها من خلال بعض المواءمات والمغريات التي قد تقدمها تل أبيب خلال الأيام القليلة المقبلة، وإما التأجيل لحين تبريد الأجواء، وتبقى حسابات كل دولة من الدول المشاركة هي الفيصل في تحديد الموقف النهائي منها.