شهدت تركيا في 6 فبراير/شباط الماضي زلزالين مدمرين، هما الأسوأ خلال القرن الأخير بالنظر إلى الدمار والضحايا اللذين خلفاهما بعد زلزال أرزنجان عام 1939، ورغم أن مركز الزلزالين كان في ولاية كهرمان مرعش، فإنهما تسببا في دمار هائل امتد إلى عشر ولايات أخرى جنوب تركيا، بسبب شدتهما العالية التي بلغت على التوالي 7.7 و7.6 درجة على مقياس ريختر.
سارعت الحكومة التركية إلى إعلان حالة الطوارئ في الولايات المنكوبة لحفظ الأمن وتعبئة جهود مؤسسات الدولة كافة للتعامل مع الكارثة، ومع ذلك تأثرت حياة أكثر من 15 مليون شخص بشكل مباشر، وفقد أكثر من 45 ألف شخص حياتهم، إضافة إلى آلاف الجرحى والمصابين الذين لا يزالون يتلقون العلاج.
وإذا نظرنا إلى حدوث أكثر من 11 ألف هزة ارتدادية جنبًا إلى جنب مع الكارثة والوضع غير الطبيعي في المنطقة، إضافة إلى عشرات آلاف المباني التي دمرت أو تأثرت بدرجات متفاوتة، فمن المفهوم أن الناس يرحلون من منطقة الكارثة، حيث أعلنت إدارة الكوارث والطوارئ التركية أنها أجلت نحو مليوني شخص من المحافظات المنكوبة، وبالنظر إلى وجود أشخاص انتقلوا بوسائلهم الخاصة، فمن المؤكد أن عدد الأشخاص الذين غادروا المنطقة إلى مدن أخرى أعلى بكثير.
على صعيد التكلفة الاقتصادية للكارثة، فإن الاقتصاد التركي الذي نما بشكل متسارع خلال السنوات الأخيرة تعرض لهزة كبيرة، وبحسب تقرير البنك الدولي، فإن تكلفة الزلزال تجاوزت 34 مليار دولار، وإذا أُضيفت تكاليف إعادة الإعمار في المناطق المنكوبة فإن الحصيلة النهائية قد تتجاوز 100 مليار دولار، إضافة إلى انكماش الاقتصاد بشكل أكبر، لذا المرجح أن ينعكس ذلك على تفضيلات المواطنين في الانتخابات المقبلة.
عدم اليقين بشأن تاريخ الانتخابات وكيف سيتم إجراؤها
بعد أيام قليلة من وقوع الزلزال، أدلى رئيس البرلمان السابق بولنت أرينج، الذي كان ذات يوم عضوًا مؤثرًا في حزب العدالة والتنمية، بتصريح في وسائل الإعلام مفاده أنه يجب تأجيل الانتخابات، إلا أنه تعرض لانتقادات حادة من المعارضة والحقوقيين الأتراك، لأن الشرط الوحيد لتأجيل الانتخابات في الدستور التركي أن تكون البلاد في حالة حرب (المادة 78).
مع ذلك، كان هناك الكثير من الجدل والتكهنات بشأن موعد الانتخابات والطريقة التي ستُجرى بها وهو ما زاد من حالة عدم اليقين بشأنها، وأخيرًا، حسم الرئيس رجب طيب أردوغان هذا الجدل عندما أعلن خلال اجتماع مع كتلة حزب العدالة والتنمية النيابية في الأول من مارس/آذار الحاليّ، أن الانتخابات ستجرى في 14 مايو/أيار المقبل.
يتوجب على المجلس الأعلى للانتخابات اتخاذ قرارات حاسمة لصالح ضحايا الزلزال لتمكينهم من ممارسة حقهم الديمقراطي وزيادة المشاركة الشعبية في هذه الانتخابات
من الواضح أن تأجيل الانتخابات، حتى لو تم من المجلس الأعلى للانتخابات متجاهلًا الدستور الحاليّ، سيؤدي إلى فقدان شرعية الحزب الحاكم التي تفوق أي مزايا محتملة، وعلى أي حال، ستجري لجنة عينها المجلس الأعلى للانتخابات الأبحاث اللازمة في منطقة الزلزال وسيتم توضيح خريطة سير الانتخابات بشكل كامل في الولايات المنكوبة خلال الأيام المقبلة، إلى جانب ذلك، أعلن المجلس الأعلى للانتخابات أنه لن يطرأ أي تغيير على عدد النواب في المحافظات التي ضربها الزلزال.
من الناحية القانونية، يمكن نقل صناديق الاقتراع داخل المحافظة الواحدة إذا رأى المجلس الأعلى للانتخابات ضرورة لذلك، بينما لا يمكن نقل هذه الصناديق بين المحافظات، مع ذلك، سيتمكن المواطنون الذين غادروا ولاياتهم بسبب الزلزال من التصويت في الولايات التي يوجدون فيها إذا نقلوا عناوينهم إلى الولايات التي ذهبوا إليها وأبلغوا مجلس انتخابات المنطقة ذات الصلة بتغيير هذه العناوين، وسيتم خصم أصواتهم من الولايات التي يوجدون فيها.
ويرى متخصصون أنه يتوجب على المجلس الأعلى للانتخابات اتخاذ قرارات حاسمة لصالح ضحايا الزلزال لتمكينهم من ممارسة حقهم الديمقراطي وزيادة المشاركة الشعبية في هذه الانتخابات وإضفاء المزيد من الشرعية عليها من خلال منح مواطني الولايات المنكوبة مرونة في التصويت على غرار الآلية المتبعة في تصويت الناخبين الأتراك في الخارج.
إيجاد حلول لناخبي الولايات المنكوبة يصب في صالح الحزب الحاكم لأن غالبيتها تشكل حاضنة انتخابية كبيرة له، ففي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة التي أُجريت عام 2018، حصل أردوغان على نحو 4 ملايين صوت من أصل 7 ملايين، و51 نائبًا من أصل 88 عن المناطق المنكوبة، ما يعكس الأهمية الكبيرة التي يوليها الحزب الحاكم لسلوك الناخبين في هذه الولايات.
أثر كارثة الزلزال على سلوكيات التصويت
هناك الكثير من العوامل التي تؤثر في السلوك الانتخابي مثل النظرة العالمية والأيديولوجية، وكذلك الأحداث التي تمس أوضاع الناخبين بشكل مباشر، والسؤال الذي يتم تداوله بشكل كبير خلال هذه الأيام هو: كيف سيؤثر الزلزال الذي سبب دمارًا كبيرًا على الانتخابات التي ستجرى بعده مباشرة دون أن يكون هناك مرحلة للتعافي؟
الإجابة عن هذا السؤال مرتبطة بعدة عوامل، بداية، يمثل الناخبون الأتراك في الولايات المنكوبة ما يقارب 13% من إجمالي عدد الناخبين العام البالغ 64 مليونًا، ومن هذا المنطلق فإن موقف الحكومة قبل وبعد الزلزال، وموقف المعارضة من الكارثة وقدرتها على تحويل هذا الموقف إلى حملة سيكون فعالًا في توجيه سلوك الناخبين.
وإذا نظرنا إلى المعارضة، نجد أنها تُحمّل الحكومة المسؤولية عن ضحايا الزلزال، وتصرح بصوت عالٍ أن الناس تُركوا وشأنهم وسط الدمار الكبير لأن الحكومة لم تعبئ إمكانيات الدولة بالكامل ولم تستطع إدارة الكارثة، وبالنظر إلى ارتفاع إيجارات المنازل بعد الزلزال والأزمة الاقتصادية المتزايدة، إلى جانب الانتقادات القاسية للمعارضة تجاه وجود أكثر من 4 ملايين لاجئ في المجتمع أغلبيتهم من السوريين، إذا ما تم توظيف هذه العوامل في الحملة الانتخابية للمعارضة، فمن الممكن أن تغير في سلوك الناخبين وتقلبه لصالحها، لكن يصعب القول إن أحزاب المعارضة أنتجت خطابًا مفعمًا بالأمل لصالح ضحايا الزلزال، باستثناء “اللغة الغاضبة” تجاه الحكومة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن القول إن تفكك “الطاولة السداسية” بسبب الأزمة التي تعيشها بشأن اختيار المرشح لمنصب الرئاسة، سيفقد أحزاب المعارضة الأمل في حكم تركيا، خاصة بعد خروج الحزب الجيد الذي يعد ثالث أكبر حزب في المعارضة، وثاني أكبر حزب في “الطاولة السداسية”، حيث أعلنت ميرال أكشينار رئيسة الحزب الجيد أن هذه الطاولة لا تعكس الإرادة الحقيقية للشعب التركي، مشيرة إلى أن حزبها يدعم ترشيح عمدتي إسطنبول وأنقرة، أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش، إلا أن الأخيرين رفضا ذلك وأعلنا تمسكهما بترشيح رئيس حزبهما كمال كلجدار أوغلو لمنصب الرئاسة، هذا التطور من شأنه إحداث المزيد من التصدعات العميقة داخل كتلة المعارضة.
سمحت حملات المساعدة التي بدأت في جميع أنحاء تركيا للناس بالالتقاء في مواجهة كارثة الزلزال وتمهيد الطريق لظهور وعي بالوحدة الوطنية
على الجانب الآخر ينظر إلى حزب العدالة والتنمية، وهو الحزب الحاكم، باعتباره بات غير مناسب بطريقة ما لاستمراره في السلطة بسبب حدوث هذه الكارثة الكبيرة خلال فترة ولايته، فقد واجه الحزب انتقادات متزايدة بسبب طريقة تعامله مع التأهب للزلازل وعدم استخدامه لضرائب الزلازل بشكل أكثر فاعلية خلال وجوده في السلطة لأكثر من عقدين، علاوة على ذلك، اُعتبرت استجابته للكارثة غير كافية، فقد أدى الافتقار إلى التنسيق إلى تصور أن “الدولة تحت الأنقاض” في الفترة الأولى من الكارثة.
من الممكن أن تؤثر هذه السلبيات على السلوك الانتخابي للمواطنين في المناطق المنكوبة، وفي الوقت نفسه، من المرجح أن يتأثر الناخبون خارج منطقة الزلزال بالانتقادات التي يتم توجيهها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومن المعارضة ضد الحزب الحاكم.
لكن رغم كل هذه السلبية، يمكن القول إن الحكومة لديها فرص كبيرة لقلب العملية الانتخابية لصالحها من خلال الإمكانيات المتوافرة لديها، ومن المرجح بشكل كبير أن تكون وسائل الإعلام والسلطة الاقتصادية والإدارية المتركزة في أيدي الحزب الحاكم، فعالة في توجيه السلوك الانتخابي للمواطنين لصالحه، خاصة أنه لا يريد أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن الكارثة، لذلك عمدت الحكومة إلى اعتقال العديد من المقاولين والمسؤولين المحليين وتقديمهم للمحاكمة بتهم تتعلق بالفساد والغش.
إلى جانب ذلك تلعب قوة الإعلام للحزب الحاكم دورًا مهمًا في توجيه السلوك الانتخابي للمواطنين، ففي دراسة ميدانية أُجريت مؤخرًا بشأن تعامل الحكومة مع الزلزال، أشار الجمهور إلى أن أنشطة البحث والإنقاذ كانت إيجابية بنسبة 63%، وأن المسؤولين بالمقام الأول عن انهيار عدد كبير من المباني هم المقاولون.
كما أشارت الدراسة إلى أن حزب العدالة والتنمية حافظ على وجوده الانتخابي دون أي تراجع في هذه الولايات، وهذه النتيجة ذات قيمة وتشكل مثالًا على قوة وسائل الإعلام، إضافة إلى ذلك منحت الحكومة باعتبارها في موقع صنع القرار ولديها القوة الاقتصادية، الثقة للمواطنين منذ الأيام الأولى للكارثة، فأعلنت أنها ستقدم إعفاءات واسعة ومساعدات مالية للناجين من الزلزال في المناطق المنكوبة، وأوضحت أنه سيتم إعادة بناء جميع المنازل المدمرة وتسليمها لأصحابها في غضون عام من خلال تسريع أعمال إزالة الأنقاض والبدء في الأعمال الضرورية لإعادة الإعمار.
من ناحية أخرى، سمحت حملات المساعدة التي بدأت في جميع أنحاء تركيا للناس بالالتقاء في مواجهة كارثة الزلزال وتمهيد الطريق لظهور وعي بالوحدة الوطنية، وكل هذا يجعل من الممكن القول إن الحزب الحاكم سيكون فعالًا في توجيه قاعدته من خلال الرسائل الحازمة التي يوجهها لتجاوز الكارثة وأنه في موقع قادر على حل المشكلة.
على الجانب الآخر، فإن عجز أحزاب المعارضة عن التوصل إلى توافق بشأن المرشح الرئاسي والخلافات الأيديولوجية بينها يلقي بظلاله على إرادة المعارضة في الحكم في عيون الناخبين، مما يهيئ الأساس للتصور بأنها لا تستطيع إدارة هذه الأزمة وتركيا، لذا يُعتقد أن كل هذه العوامل مهمة في تحديد الفائز في الانتخابات من خلال فعاليتها في توجيه السلوك الانتخابي للناخبين.