لو أردنا أن نجمع تاريخ السعي البشري حول فكرة واحدة، ستكون “السعادة” بشكل كبير هي الكلمة المناسبة.
يشغل مفهوم السعادة عقولنا، بلا استثناء، ويعود ذلك التعميم الذي يحول بداخله مفاهيم مختلفة لمعنى “السعادة”، ربما بعضها يناقض الآخر، لكن يظل التعبير الإسمي، هو المحطة التي يبتغيها البشر، في محاولاتهم ودأبهم وبذلهم اليومي، وبالطبع، ليس من المنطقي محاولة تقديم وصفة مرقمة بالخطوات، ليحقق الإنسان المعاصر سعادته في الدنيا، لأن في ذلك ضربًا من العبث والتحايل.
ننطلق في هذا المقال من المساءلة لا الإجابات، وهي مساءلة لا تحاول بلوغ السعادة، كممارسة يمكن تحقيقها واقعيًا، لكنها تحاول التساؤل بشأن مفهوم السعادة نفسه، كيف رآه التاريخ؟ وكيف يمكننا أن نراه الآن؟
التعريفات الأولى
في كتاب “السعادة: تاريخ موجز” يبدأ نيكولاس وايت رحلته البحثية في تكوين صورة عن تاريخ الاشتباك الفلسفي والتاريخي، لتحديد مفهوم جامع عن السعادة، بفكرة تبين مدى إشكالية السؤال والتتبع، وهي أن السعادة مفهوم وممارسة، لا يمكن جمعها في إطار واضح، إذ يستدعي ذلك التعرض لسياقات معرفية، علمية ونظرية مختلفة، وربما ينتهي ذلك إلى مجموعة من التعريفات التي تقف ضد بعضها أو سلسلة أبدية من الجدل الذي يجعل السعادة، في الأخير، شيئًا غير قابل للتعريف المحدد.
بدأ مفهوم السعادة على نحو مثالي، خلال أرسطو في كتاب “الأخلاق إلى نيقوماخوس”، حيث يقول إننا لا يمكننا وصف شخص بـ”السعيد” إلى أن يموت، لكن في نفس الكتاب، يحدد أرسطو للسعادة تعريف آخر، من حيث الممارسة الجماعية، إذ يربط بين الأسلاف والأخلاف بالسعادة كالتزام، ويتساءل، إن لم يورث الأسلاف للأخلاف السعادة، فما هي علاقتهم ببعض؟
يطالعنا الأصل اللاتيني لكلمة السعادة في اللغة، على أنها “السعادة العقلية”، يستمد ذلك التعريف البسيط حيويته من التوجه الفلسفي الذي امتد منذ الفلسفة اليونانية وحتى فلسفة العصور الوسطى
التعريفات الأولية التي تركها أرسطو، وتقف ما بين انتفاء تحقيق السعادة وإمكانية خلقها جماعيًا، من خلال مد الفائدة من السلف إلى الخلف، تحيلنا إلى سؤال عرضه فرويد في كتاب “الحضارة ومنغصاتها”، إذ يتساءل عما يطلبه الناس من الحياة، ورغم أنه سؤال عام وإشكالي، فإن العيش يظل في أحد ممارسته هو مكافحة لأجل تحقيق السعادة، تحديدًا لأجل تحقيقها والحفاظ عليها لزمن طويل.
رغم هذه التضادات، يطالعنا الأصل اللاتيني لكلمة السعادة في اللغة، على أنها “السعادة العقلية”، يستمد ذلك التعريف البسيط حيويته من التوجه الفلسفي الذي امتد منذ الفلسفة اليونانية وحتى فلسفة العصور الوسطي.
خلال القرن الخامس الميلادي، عرف مفهوم شبه جماعي عن السعادة، وتم ربطها بالرغبات العقلية والحسية، فالسعادة هي الحصول على أكبر قدر ممكن من إشباع الرغبات، حينما تنشأ، فعندما تظهر رغبة أو تشتد قوتها، ينبغي إشباعها، شرط التحقيق تحديدًا، هو ما يفعل السعادة.
التعريف السابق، حينما يوضع في سياق تاريخي مشتبك مع حيثيات المرحلة، وباعتبار أنه تأتى من مركزية أوروبية فلسفية، يظل تعريفًا ملتبسًا ويحتاج إلى إعادة نظر، لأن مسألة إشباع الرغبات لا تتطابق مع الشكل التراتبي من حيث الطبقات، والسيادة الكاثوليكية جوارًا إلى الإقطاعية، وما ترتب على ذلك من قمع وتفقير كبير للطبقات الوسطى والدنيا، لكن يمكننا ربط التعريف المذكور بأنه إحالة للرغبات العقلية والروحية، وهنا حدث تطويع إجباري لفردية السعادة كمفهوم مستقل على مستوى ما، وهو الرغبة الأولى لصاحبها.
نعيم التحقق
أضاف الفيلسوف السياسي والأخلاقي توماس هوبز، في القرن السابع عشر، إلى السعادة تعريف جديد، إذ يحدد أنها، من جهة خيرية، الوصول إلى الأشياء بشكل متتابع، ونسبة تحقيق ذلك هي ما تقود إلى “النعيم”.
احتكمت تعريفات السعادة خلال هذه المرحلة بمسارات التأويل والأقطاب الفلسفية التي سبقتها أو أعادت إنتاجها في نفس الزمن، ورغم التباين الجوهري بين التعريفات، بين السعادة كفضيلة يحققها الالتزام الأخلاقي، كغاية لذاته، عند كانط، وكنعيم يتحقق بالوجود والتحرر، عند سبينوزا، وأخيرًا، لدينا تعريف هوبز الذي يضع السعادة في الحِراك الإيجابي، حيث الوصول إلى الأشياء تتابعًا، كدلالة على الدأب في مقاومة السعادة كلذة.
لا تزال، حتى هذه التعريفات، السعادة حاضرة كمفهوم ملتبس، يدور في إطار نظري، معنيّ بالتناول الفلسفي الذي لا ينعكس بصورة تطبيقية على الواقع، ويمكننا إحالة الأمر خلال مثال بسيط، وهو أن نأتي بأحد عمال ذلك الزمان، ونعرض عليه تباينات شروح الفلاسفة بشأن تحقيق السعادة، كيف ستكون ردة فعله؟
تقريبًا، وفي أحسن الأحوال، سيعبّر عن عدم فهمه، لأنه بالضرورة يحتاج إلى مادة شارحة ناتجة من قلب الواقع وعائدة إليه، وبعيدًا عن التطويعات الأيدولوجية، سواء كانت مسيحية العصور الوسطى أم طبقيتها.
كانت إحدى محاولات رد الإشكال المعرفي إلى الطبقات المجهلة مجتمعيًا، من خلال الحراك الماركسي، الذي فصّل فيه آليات القمع الواقعة على العمالة، ونظّر إلى حقوق العمال في عدم الانغراق في “التشيؤ”، أي التحول من الصلة المعنوية والوجودية المرتبطة بالعمل، إلى مجرد أداة “شيئية” لتربيح جهة أخرى.
لو أحلنا الجانب النضالي وأبعاده السياسية، في الحقوق العمالية عند ماركس، وقمنا بمقاربتها، لفهم معنى أكثر واقعية للسعادة سنجد أنها تمثلت في معني بسيط، وهو أن يحصل الفرد على وعيه بذاته وبحقوقه وبقدرته على الرفض والمطالبة بالآدمية، وفي ذلك إشارة مبدئية لتفحش الصعود التقني والمؤسسي الذي حول مفهوم السعادة، في وضعنا المعاصر، إلى سباق حول الاستهلاك.
غير أن السياق المعرفي والفلسفي، في حراكه الرافض للتسليع، كان له رأي آخر.
السعادة كمقاومة
مثلما يشير نيكولاس وايت في كتاب “السعادة: تاريخ موجز”، فإن مفهومها ينطوى على جانبين: الأول جوهري، متعلق بطبيعة الوجود البشري، وحيثيات تطلعه، والثاني متأثر بمفردات العالم المعاصر، لكن الفيلسوف ألان باديو يذهب إلى جهة مغايرة في تناوله للسعادة قبالة العالم المعاصر.
يرى باديو أن السعادة قائمة في جوهرها على “المقاومة”، على عدم الرضا بالعالم ونظامه كما هو الآن، ويتعارض تعريف باديو للتصور الرواقي للسعادة، الذي يفترض أنها، مثلما ذكرنا في أول المقال، ضرب من التعاطف الكوني، والتصالح مع أقدارنا، ثم الرضا بما نحن عليه، وإنحاء السعادة كليًا إلى أبعاد روحية.
ليست السعادة عند باديو، الواجب الأخلاقي كما ينظّر لها كانط، بل هي رفض المفهوم المعاصر حول السعادة، باعتبارها حالة من “الإشباع”.
الأفكار الكونية لا تسقط بالتقادم ضد احتضان الفاشيات وفخاخ العولمة والتسليع العالمي
في عالمنا المعاصر، المحمل بتخمة البضائع والتسليع، لا يمكن أن نجد غير سعادة الإشباع، إشباع رغباتنا تجاه الشراء، التطلّع الطبقي، والاستهلاك اللامتناهي، وهنا يكون إنتاج السعادة، حسب باديو، إنتاج لسعادة مغلوطة.
ربما، نتوقف في الأخير بعد التتبع التاريخي لتناول مفهوم السعادة، على أننا نبحث عن مسمار في حزمة من القش الكثير، لكننا في نفس السياق، نجد مفهومًا مغلوطًا يمكننا البدء من رفضه، وهو ما تمليه علينا السياسات المعاصرة من سعادة تحددها الوصفات المطبخية والتجميلية الجاهزة، وضرورة الاستهلاك لتحديد القيمة، إضافة إلى وحشية الأسواق التجارية العالمية.
ثمة تداخل بين البدائل التي يطرحها باديو، وبين قدرتنا على العيش أفضل، حتى إن كانت هذه البدائل في شكلها النظري، لا تزال جدالًا فلسفيًا، فالعالم الذي نعيشه لم يعد يحمل إلا مسكنات للتعاسة، وبوسع الفيلسوف أن يتدخل لخلق مفهوم جديد عن البهجة: بهجة الحب ومتعة الفن وحماسة السياسة.
خلال الحراك الرافض لاستهلاكية السعادة، هناك ضرورة تالية تشير إلى عدم التسليم بمفردات العالم كما هي، وأن يكون هناك سعي ضروري نحو الحقيقة الغائبة، أي طلب ما هو غير موجود، من خلال القناعة بأن الأفكار الكونية لا تسقط بالتقادم ضد احتضان الفاشيات وفخاخ العولمة والتسليع العالمي.