لم يزل الأرمن في مصر منذ القرن التاسع عشر متميزين اجتماعيًا وسياسيًا، ورغم أنهم من أصغر الجاليات، فقد شغلوا مناصب رفيعة في الجهاز الحكومي، لذا أطلق الأوروبيون على وزارتي الخارجية والتجارة المصرية اسم “قصر الأرمن – Armenian Palace” نتيجة نفوذ وتوغل الأرمن فيهما.
كذلك نشط الأرمن إلى حد كبير في الكثير من الصناعات المصرية مثل المجوهرات والصابون والخياطة والأحذية والطباعة، واحتكروا صناعة الملح والخمور والدخان، وبرزوا أيضًا في ميادين البنوك والتصوير والصحافة والمسرح والسينما والموسيقى والترجمة، ووصل بهم الحال إلى إقراض كبار رجالات الدولة، إضافة إلى أن العديد منهم كانوا من كبار ملاك الأراضي المصرية، وكان للكنيسة الأرمنية نصيبها الأكبر من الأراضي.
في خدمة الاحتلال
“إن الأهمية السياسية للأرمن، ترجع إلى شغل كثير منهم المناصب العليا في الحكومة المصرية منذ عهد محمد علي، لقد وصل الأرمن إلى أعلى المناصب، وكان لهم في بعض الأحيان نفوذ حاسم على سير الشؤون العامة في مصر”.
اللورد كرومر.. الحاكم الفعلي لمصر من عام 1883 إلى 1907
تعد أيام الاحتلال البريطاني لمصر هي العصر الذهبي للأرمن، إذ وجد المحتل في الأقلية الأرمنية الخيار الأفضل لتثبيت أقدامه وتحقيق غاياته الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية، فشرع بتوظيف ووضع الأرمن في مواجهة مباشرة ضد المجتمع المصري الذي كان يطالب بحريته واستقلال بلاده، كما ترك الاحتلال الباب مفتوحًا أمام هجرة الأرمن التي تكاثرت في عهده.
لكن كيف تعامل الأرمن مع الاحتلال البريطاني لمصر؟ في الواقع، كان موقف الأرمن مؤيدًا بشدة للاحتلال، فروجوا لوجوده، وسوغوا ما اعتبروه “مزايا الاحتلال”، فكتبت “صحيفة الزمان” الأرمنية بمصر عن الازدهار الذي تعيشه البلاد بسبب السياسة الحكيمة للإدارة البريطانية، ودعت المصريين إلى قبول الاحتلال.
لقد رأى الأرمن بمصر أن نفوذهم يرتكز على الاحتلال، لذا انتهج معظمهم سياسة الدفاع والترحيب البالغ عن كل ما يصدر عن الاحتلال، وبالفعل عمل العديد من الأرمن في خدمة المشروعات الاستعمارية مثل رئيس الوزراء الأرمني نوبار باشا الذي كان مكروهًا من المصريين بسبب تفانيه في خدمة المصالح البريطانية على حساب دماء وآلام المجتمع المصري، وقد أنعمت عليه ملكة بريطانيا بنيشان النجمة الهندية من الدرجة الأولى، نتيجة جهوده في تثبيت أركان الاحتلال على الأراضي المصرية.
كراهية المصريين للأرمن تصاعدت عندما ثاروا ضد الدولة العثمانية، وانبرت الصحف المعاصرة تهاجم الأرمن القاطنين بمصر، لأنهم يتمتعون بالرفاهية والراحة في ظل الدولة العثمانية ويأكلون عيش المصريين، ثم يساعدون أعداء دار خلافتهم على ما هم عليه من الثروات
ويشير أنطوان كلوت في كتابه “لمحة عامة إلى مصر” إلى أن العلاقات بين الأرمن والمصريين خلال أواخر القرن التاسع عشر، لم تكن ودية، فقد كان الأرمن ينظرون إلى المجتمع المصري بعين العجرفة ويتظاهرون بالكبرياء عليهم، كما كانوا يتحاشون مخالطتهم ويتقون لقاءهم.
ويذكر الدكتور سامى عزيز في كتابه “الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الأجنبي” أن كراهية المصريين للأرمن تصاعدت عندما ثاروا ضد الدولة العثمانية، وانبرت الصحف المعاصرة تهاجم الأرمن القاطنين بمصر، لأنهم يتمتعون بالرفاهية والراحة في ظل الدولة العثمانية ويأكلون عيش المصريين، ثم يساعدون أعداء دار خلافتهم على ما هم عليه من الثروات.
وأيضًا وصفت الصحف المصرية الأرمن بأنهم قوم حضروا إلى مصر صائعين لا يملكون درهمًا ولا دينارًا، ثم هم الآن يعيثون فسادًا في جميع أنحاء القطر، يستنزفون الخيرات ويستحوذون على أموال المصريين كغنيمة باردة.
وبحسب ما يذكر الدكتور محمد الإمام في كتابه “تاريخ الجالية الأرمنية في مصر” فقد ناشدت بعض الجرائد المصرية المواطنين إلى مقاطعة المحلات والمنتجات الأرمنية بمصر، نتيجة ثورة الأرمن ضد السلطان العثماني الذي كان يحتل مكانًا بارزًا في نفوس المسلمين المصريين.
في المجمل، ألقى الأرمن بكامل أنفسهم في أحضان الاحتلال البريطاني بمصر، اعتقادًا منهم أن بريطانيا ستحل قضيتهم، فساروا على خطها السياسي، لذا كانت معظم الصحف الأرمنية بمصر تهاجم الدولة العثمانية وتحض بريطانيا على احتلال الأستانة، الأمر الذي استفز الباب العالي، فأصدر فرمانًا بمنع دخول بعض الصحف الأرمنية الصادرة من مصر إلى الأستانة أو أي منطقة تابعة له، وجدير بالذكر أن العديد من الأرمن العاملين في الصحافة المصرية قاموا بدور كبير في الحملة الدعائية لإنشاء وطن قومي لليهود.
وحتى مع كثرة الاحتجاجات الشعبية ضد الاحتلال عام 1919، لم يقف الأرمن في مصر على الحياد، بل تواطؤا بشكل فج مع الاحتلال البريطاني، ووصفت بعض الأقلام الأرمنية في مصر، مثل الكاتب يرفانت أوديان، الحركة الوطنية المصرية بأنها “حركة أصولية متطرفة ضد المسيحيين والأرمن”، أي أنه رأى في استقلال مصر تهديدًا لمصالح الاحتلال والأرمن معًا.
الصدمة الأولى
عندما اشتعلت ثورة 1919 ضد المحتل البريطاني، حاول الأخير إيقافها عبر فرض عدد من الإجراءات، منها إعلان حظر التجول ومنع التجمعات في الشوارع والمقاهي والدكاكين، إضافة لتشجيع اليهود على الاندساس بين الثوار للقيام بعمليات التخريب والنهب، من أجل إظهار الثورة في لون غير لونها، ورمي المتظاهرين بالبلطجة.
وحين فشلت هذه المساعي لإجهاض الثورة، حاول الإنجليز إلصاق الثورة بوقوف الألمان خلفها وأنهم أصحاب اليد فيها، بل ذكر عبد الوهاب النجار في مذكراته “الأيام الحمراء” أن الإنجليز تحدثوا كثيرًا عن نقود ألمانية تمول الثوار.
ثم عندما فشل السيناريو الألماني، حاول الإنجليز إثارة الفتنة الطائفية بين المصريين، إذ زعم الإنجليز أن الثورة دينية ضد الأقباط، لكن فطن المسيحيون والمسلمون لهذا المسعى الخبيث، وتحولت منابر المساجد والكنائس إلى ساحات وطنية، بل وانعدمت الحوادث الطائفية خلال الثورة رغم محاولات إشعالها.
وبعد أن فشلت كل هذه المساعي، وجد الإنجليز في الأرمن ورقة رابحة لإخماد الثورة، وتفاجأ المجتمع المصري حينها بدورهم الجديد، حيث قال عبد الوهاب النجار في شهادته على أيام ثورة 1919: “راج في هذه الأيام أن الإنجليز لما أعيتهم الحيل في جعل الثورة المصرية ثورة دينية موجهة ضد الأجانب، ولم يوافقهم قناصل الدول الأجنبية على صبغ المسألة باللون الذي يريدونه، عمدوا إلى الأرمن يغرونهم بإحداث الشغب مع المصريين، حتى يتأتى لإنجلترا أن تتقول على المصريين بما تهوى لتبلغ حاجة في نفس رجالها المستعمرين”. صـ 45.
النجار: “ومن أعجب العجب، إذا اعتدى الأرمن على المصريين وبادأوهم بالعدوان والقتل، فرد المصريون عليهم بمثل ما صنعوا، سُمع دوي صوت الأمريكان يستنكرون على المصريين عملهم.. انقلب الوضع وانعكس الحق”
ثم يروي النجار أن العلاقة بين الأرمن والمصريين قبل ثورة 19، لم تكن بهذه الدموية التي ستظهر فيما بعد، فحتى مع كره الفريقين لبعضهما، كان ذلك يتجلى داخل حدود النشاط السلمي، كمقاطعة البضائع، فما الشرارة التي أججت الوضع؟ بحسب النجار، فعندما تجمع المتظاهرون في ميدان عابدين، اصطدموا بدورية إنجليزية، وبينما كان الثوار منشغلين بعدوان الإنجليز، إذ بشاب أرمني يُطل من أعلى بيوت ساحة عابدين، ويطلق الرصاص على المتظاهرين.
مات ثلاثة أشخاص برصاص ذلك الشاب الأرمني، ثم بعدها تفرق المتظاهرون في أنحاء ميدان عابدين، وكان من بينهم أطفال ونساء، حاول بعضهم الفرار إلى أحد بيوت ساحة عابدين، لكن الأرمن المتواطئين مع الإنجليز كانوا يقبضون على الثوار الفارين، ويسلمونهم إلى الإنجليز.
يقول النجار: “كان هناك شاب أرمني يقبض على الأولاد من البيت ويسلمهم للإنجليز يضعونهم في سيارة إلى أن امتلأت وذهب الإنجليز، وكان الناس قد حنقوا على ذلك الشاب فبطشوا به حتى مات”. صـ 132
لكن هذا الشاب الأرمني الذي كُشف أمره، لم يمت تحديدًا في الساعة التي بطبش به الثوار، فقد حاولت القوات البريطانية أن تنجده من قبضة الثوار، فذهبت إليه ونقلته إلى المستشفى العباسي دون سواه من بقية الجرحى، لذا علق النجار بالقول: “هذه العناية تلفت النظر وتعتبر ذات معنى” صـ 133.
كانت هذه الحادثة السبب الأبرز في بداية انقلاب العلاقة بين الأرمن والمصريين، فمن هنا تحديدًا بدأ موقف المتظاهرين يتغير إزاء الأرمن، ثم مع تكرار الاعتداءات الأرمنية على امتداد أيام ثورة 1919، أيقن الثوار خيانة الأرمن وخدمتهم للاحتلال البريطاني ضد ثورتهم المطالبة بالاستقلال.
الطعنات الأرمنية
تذكر “جريدة النيل” في عددها 2881، يوم السبت 15 مارس/آذار 1919، أي بعد أقل من أسبوع واحد على نشوب الثورة: “ومن الحوادث التي تدعو للأسف، أن بعض رعاع اليهود والأرمن، أطلقوا النار على بعض الوطنيين، فأصيب رجال منهم بالعاصمة”.
في شهادته على الثورة، يروي عبد الوهاب النجار في أثناء مظاهرات ميدان الأوبرا، أن رجلًا أرمنيًا أطلق الرصاص على المتظاهرين في الميدان، ولما أراد الناس أن يقبضوا عليه، لجأ إلى أجزخانة إنجليزية – ملك الكونت دي زغيب – فحماه صاحبها وحال بين المتظاهرين وبين الوصول إليه، فهجم الثوار على الأجزخانة وحطموا كل شيء فيها، وقتلوا الأرمني.
أيضًا في نفس اليوم، يروي النجار أن شابًا أرمنيًا قتل رجلًا في ميدان عابدين بإطلاق الرصاص عليه، وكذلك قامت فتاة أرمنية بإطلاق الرصاص من شباك بيتها على المتظاهرين بآخر شارع عابدين، فأخذ المتظاهرون بعض أثاث بيتها إلى الشارع وأشعلوا فيه النار، وبحسب النجار، حين تفحص المتظاهرون الرصاص الذي ضربهم به الأرمن، وجدوا أنه خاص بالجيش البريطاني.
ثم في يوم الثلاثاء 8 أبريل/نيسان، أطلق اثنان من الأرمن في باب الخلق الرصاص على المارة، فأصابوا العديد منهم، الأمر الذي اضطر الناس إلى الهجوم على الرجلين، لكن جاء الإنجليز على الفور وأطلقوا النار على الناس، فأصابوا منهم الكثير من القتلى والجرحى، ويبدو أن الاحتلال البريطاني، أراد هنا أن يخلق عذرًا للانتقام من الثوار، فلجأ إلى الأرمن.
أصدرت “مطرانية الأرمن الأرثوذكس في القاهرة” نيابة عن أرمن مصر بيانًا في 24 أبريل/نيسان، أنكروا فيه اشتراكهم مع المصريين في المطالبة بالاستقلال والجلاء
ويلاحظ من شهادة النجار أن هجمات الأرمن على المظاهرات، لم تكن عشوائية، بل اتسمت بالتنظيم، كما تركزت معظم حالات القتلى والجرحى من الثوار في أنحاء منطقة عابدين وباب الخلق والموسكي، وهي أكثر أماكن الثورة اشتعالًا.
كذلك يسرد النجار هجوم الأرمن المتكرر على مواكب جنازات الشهداء، واللافت أن اعتداءات الأرمن شغلت الثوار عن كفاحهم ضد الإنجليز، إذ يذكر النجار أن الشيخ عبد الرازق القاضي المحامي الشرعي، لم يستطع الذهاب لميدان عابدين لتشييع جنازة سيشارك فيها رفاقه المحامون، حيث رد عليهم بأنه لا يستطيع الخروج من منزله بسبب قيام الأرمن على المصريين والمصريين على الأرمن، وأنه قد أغلق بابه والحال سيئة ولا يعلم إلى الآن عدد القتلى والجرحى من الفريقين.
ثم يروي النجار أن أحد الأرمن المعتدين على المظاهرات، واسمه موريس بنيامين جولد ششبن قد فتش الثوار بيته، فوجدوا فيه بندقية ومسدس و133 طلقة للبندقية و28 للمسدس، وسيف ضابط، و4 عصي، ونظارة مكبرة وصفارة، وكل ذلك من متعلقات الجيش الإنجليزي، وكان هذا الشاب الأرمني يسكن بشارع درب المناصرة بالموسكي، وقد تم تسليمه بهذه المضبوطات إلى سلطات الاحتلال، لكن الأخيرة أفرجت عنه وعن باقي الأرمن المتهمين بقتل الثوار، لذا علق النجار بالقول: “والذي يُلاحَظ هنا، ثبوت التهمة على المصريين في كل ما يُتَّهمون به، وأما الأرمن واليهود فإنهم برئوا من كل ما نسب إليهم”. صـ 312.
لكن رغم ذلك، يذكر النجار الجهود المبذولة لأجل الصلح بين الأرمن والمصريين، فقد حضر اجتماعًا في الأزهر يوم 10 أبريل/نيسان بين عقلاء الأرمن وحاخام اليهود وعلماء الأزهر، وبعد أن أبان علماء الأزهر لقيادات الأرمن اعتداء طائفتهم على المتظاهرين، رحبوا بهم وردوا عليهم ردًا جميلًا، وسكنوا روعهم وصافح المشايخ الحاخام والبطريرك الأرمني وعانقوهما وانتهى الاجتماع بسلام، وتمنى النجار أن يكون هذا صلحًا لا يعقبه خصام، لكن خاب رجاؤه.
تحريف الحقائق
بعد أن فشل الأرمن في إخماد الثورة، أرادت سلطات الاحتلال البريطاني أن تستخدمهم لتشويه الثورة المصرية بالخارج، إذ صورتهم على أنهم مضطهدين يتعرضون لمذابح المصريين، من أجل استثمارهم في مؤتمر الصلح بباريس.
وبالفعل وصفت الصحف الأمريكية والأوروبية المصريين بأنهم يريدون أن ينالوا استقلالهم على أشلاء أمة أخرى نجت بقاياها من وحشية الأتراك والأكراد، ونشطت الدعاية الغربية في إنقاذ أخوة الدين الأرمن من همجية المصريين أصدقاء الترك.
لذا يقول النجار: “ومن أعجب العجب، إذا اعتدى الأرمن على المصريين وبادأوهم بالعدوان والقتل، فرد المصريون عليهم بمثل ما صنعوا، سُمع دوي صوت الأمريكان يستنكرون على المصريين عملهم.. انقلب الوضع وانعكس الحق، وصار المظلوم المهضومُ الجانب جانيًا أثيمًا”. صـ 224.
نقل الاحتلال البريطاني آلاف الأرمن القاطنين بالقاهرة، وخصص لهم عدة أماكن، منها مخيم أمام معسكر الجيش الإنجليزي بالعباسية، كما وضع الاحتلال جنوده أمام الأماكن الدينية الأرمنية لحراستها، وبالتالي زاد هذا الأمر من كراهية المصريين للأرمن، لأنهم ظهروا كأنهم صفًا واحدًا مع الاحتلال ضد الثوار.
الأزهر لم ينجح في استمالة الأرمن، فحاول الوفد المصري عقد جلسات صلح مع الأرمن، ويبدو أن موقف الوفد في مؤتمر الصلح كان ضعيفًا جدًا بسبب الأرمن
كما أوجد الإنجليز مخيمًا آخر ناحية “مصر الجديدة” المنشأة حديثًا آنذاك، حيث خصص للأرمن مكانًا كبيرًا حمل اسم “المخيم البريطاني للأرمن اللاجئين” وتكون من نحو 500 خيمة، ونقل إليه 4500 أرمني، وبحسب ما يروي النجار، فبعدما تم نقل الأرمن إلى المخيمات، جاءت الوفود الغربية إليهم، من ضمنها وفد أمريكي، ويقول النجار: “في هذا اليوم – 18 أبريل 1919 – علمتُ من بعض أعضاء لجنة الوفد أن جماعة من الضباط الأمريكان نزلوا بورسعيد ثم حضروا إلى مصر، فرويت لهم حوادث الأرمن على غير وجهها”. صـ 201.
في الواقع، غدت مخيمات الأرمن صورة دعائية لبريطانيا ودليلها في مؤتمر الصلح على أن المصريين سيذبحون الأرمن إذا حصلوا على استقلال بلادهم، لذا رد الوفد المصري عدة مرات على هذا الاتهام الذي استخدم بكثرة ضدهم، وحاولوا إيضاح أن الأرمن هم من أطلقوا النيران على المظاهرات، وأن سلوك المتظاهرين هو رد فعل على اعتداءات الأرمن، وجاء في أحد ردود الوفد:
“إن المصريين جميعًا قد جردوا من السلاح، ويعاقب بأقسى العقوبات من حمل أو أخفى سلاحًا، فمن العجب والشيء الذي لا يمكن تفسيره، هو أن الأرمن وحدهم من يمتلكون أسلحة يستخدمونها ضد المتظاهرين، لذا من السهل إثارة مشاعر المتظاهرين عندما استخدم الأرمن أسلحتهم ضدهم.. والحقيقة أن استخدام الأرمن للأسلحة كان يتزامن مع وصول القوات البريطانية برشاشاتهم إلى أماكن المظاهرات لقمعها”.
وهنا أدرك الجميع هذه الخدعة الإنجليزية الجديدة، فحاول عبد الوهاب النجار مع بعض علماء الأزهر تطييب خاطر الأرمن ومحاولة كسبهم في صف الثورة المصرية، لأن بريطانيا تستخدمهم في مؤتمر الصلح ضد استقلال مصر.
وزارت عدة وفود من الأزهر كنيسة الأرمن، وطافوا على منازل أعيانهم لطمأنتهم على حياتهم وأموالهم، وتعويضهم عما لحق بهم من خسائر، بل كان النجار يطوف بنفسه على المتظاهرين ويمنعهم من رد عدوان الأرمن عليهم، لأن هذا برأيه سيعرقل قضية الأمة.
أرسل بطريرك الأرمن بمصر احتجاجًا إلى ويلسون – الرئيس الأمريكي – مدعيًا أن الأرمن يُقتَلون بمصر على نفس الطريقة التركية، وطلب حماية طائفته من المصريين
ويعقب النجار: “صرتُ أعظ الناس في الطرق وأحذرهم عواقب هذا الأمر، وأبين للجماهير أن قصد الإضرار بالأرمن ولو على سبيل دفع الضرر بمثله، ضارٌّ بأهل البلاد وقضيتهم.. وقمتُ خطيبًا في الحاضرين بالمسجد الحنفي، وشرحت دقة الحال في هذا البلد وحرجها وما يقصد به الأرمن من الضرر، وإن مكافأتنا لهم بعملهم، هو المقصد الأعظم لمن يريدون تشويه أعمالنا وإظهارنا بمظهر الوحوش الفتاكة، حتى يشوه جمال حركتنا نحو حريتنا واستقلالنا”. صـ 170.
لكن الأزهر لم ينجح في استمالة الأرمن، فحاول الوفد المصري عقد جلسات صلح مع الأرمن، ويبدو أن موقف الوفد في مؤتمر الصلح كان ضعيفًا جدًا بسبب الأرمن، لذا كان أحد البنود العجيبة التي عرضها الوفد على الأرمن، هي “وضع أبناء أعيان المصريين رهائن في أيدي الأرمن كي يشعروا بالاطمئنان”! ثم طالب الوفد من الأرمن عدم الانحياز إلى الجانب البريطاني والوقوف بصف الثورة المصرية.
لكن مع ذلك، رفض الأرمن كل مطالب الوفد المصري، وحتى لم يعلنوا حيادهم، بل أعلنوا عن رغبتهم في بقاء الاحتلال، ثم أرسل بطريرك الأرمن بمصر احتجاجًا إلى ويلسون – الرئيس الأمريكي – مدعيًا أن الأرمن يُقتَلون بمصر على نفس الطريقة التركية، وطلب حماية طائفته من المصريين، لذلك علق النجار بالقول: “لم يذكر بطريرك الأرمن لـ ويلسون ما يتبرع به أبناء طائفته من الفتك بالمصريين لينالوا من الإنجليز ما لا يُسمن ولا يغني من الأجر”. صـ 169.
وبحسب الوثائق التي أوردها الدكتور مكي الطيب شبيكة في كتابه “بريطانيا وثورة 1919 المصرية” فقد أصدرت “مطرانية الأرمن الأرثوذكس في القاهرة” نيابة عن أرمن مصر بيانًا في 24 أبريل/نيسان، أنكروا فيه اشتراكهم مع المصريين في المطالبة بالاستقلال والجلاء، بل إنهم اعترفوا علانية بالحماية البريطانية على مصر.
وبالتالي كان من الطبيعي بعد كل هذه الأشياء، أن تتغيير نظرة المصريين للأرمن، وقد يفسر هذا الأمر لماذا بعد ثورة 1919 والمحاولات المبذولة لأجل الصلح، لم تلتئم الجروح بين الأرمن والمصريين، وعاش الأرمن في مصر وسط حالة منغلقة نوعًا ما، دون أن ينصهروا في بوتقة المجتمع المصري، فلا يتزوجون إلا من طائفتهم، ولديهم كنائسهم ولغتهم ومؤسساتهم التعليمية الخاصة التي لا يدخلها أحد غيرهم، حتى إن المصريين إلى اليوم نادرًا ما عرفوا عادات الأرمن القاطنين بمصر.