(1)
خَرَّجنا م المحنة
لما الغيلان صرخت
غارزين في بعض الناب
فجأة اكتشفنا ف صوتنا
ريحة الدم..
وف وشنا أنياب
وإن الغيلان … إحنا!
لم يكن يومًا عاديًا قط !
خرجت كعادتى الأسبوعية للتمشية فى رحاب المعادي الهادئة أو بالأحرى التي كانت هادئة، وفى وسط الخضام لمحت من الأفق صديق قديم كان يبدو أكثر نحافةً عما كان، ومع الاقتراب ازدادت النحافة نحافة!
لم التقية مُنذ سنين كان يرافقه شابًا نحيفًا، ليس هذا فحسب فالاثنان مشتركان أيضًا في ربطة العنق الفلسطينية بألونها المختلفة والتي أصبحت رمزًا لثوارنا في التحرير، لم يكن العناق وحده دافئًا، بل كانت الذاكرة أكثر دفئًا بذكرياتنا الأليمة والسعيدة التي تزاملنا فيها كثيرًا.
كان صديقه يبدو صامتًا إلا من بعض الضحكات الكاتمة والهمهمات المألوفة، يصطحب معه جردل وبه فرشة صغيرة وورق مقوى أو “إستنسل” (كما يُطلقون عليه).
في لحظات بادرني صديقى بسوال: وراك حاجة؟
قلت: لا فقد نزلت للتمشية فقط!
نظر صديقي لرفيقة الغامض وكأنه يستأذنه في مرافقتي لهم، وكم شعرت بالراحة عندما هز رأسه بالموافقه رغم عدم علمي إلى أين سنذهب وما الذي سنفعله.
(2)
ودعت أصحابك كام مرة؟!
مين جنبك ومين سافر برة؟!
مين لسه مشارككش أسراره
مين دايمًا عارف أخبارك؟
مين مد إديه فـ جيب أيامك
مين خد من عمرك وقت كتير!
مين كان دخان فـ الشدة يطير
مين فيهم لسه ومين مبقاش
مين شاري ومين بايعك بـ بلاش
مين فاضل ليه أي معزّة
مين وقت ما مت مجاش عزّى
مين عيط فيهم انطق
مين فيهم مبكاش!!
في لحظات أخرج صديقه الجردل، كان به بعض الإسبراي النفاذ وفرشة وألوان وورق برسومات عديدة، نظرت لهم في صمت وبدأنا في التحرك، اختار أحد الشوارع الهادئة وضع “جردله” وتمركز وقال هنا، كان يشير لأحد الحوائط الفارغة إلا من بعض الأتربة وإعلانات الزواج وشتائم المراهقين على الحوائط.
وفي لحظات بدأ صديقي في تجهيز الحائط وتنظيفه، وانتهزت الفرصة لأتحدث إلى رفيقه الذي وقف ينتظر الحائط لبدء العملية.
– سالتة بود: اسمك إية بقى؟
– رد بحسم: موكا
– موكا؟؟
– هذا اسم الشهرة لا يمكن لنا أن نقول أسماءنا خوفًا من الاعتقال، كما أن الاسم بسيط وسهل الكتابة أسفل “الرسمة”.
كان صديقى قد بدأ “تبييض” الحائط عندما بادرتة قائلاً: تصرفون كثيرًا على التصميم والألوان والطبع؟
– نعم
– فمن يمولكم إذن؟
– ابتسم ثم قال لا أحد
– قلت: مستحيل بحسبة بسيطة “الرسمة” ُتكلف الكثير على شاب صغير فى سنك!
– قال: ببساطة نقوم “بتحويش” أموالنا نجمعها ونُقسمها بيننا ونشترى الأدوات جملةً وبأسعارٍ مخفضة.
كان صديقى قد بدا التعب عليه قليلاً وقد قارب على الانتهاء من الحائط، سألته مستعجبًا: ولماذا كل هذا التعب والإنفاق؟ هل هى هواية محببة لهذا الشك؟!
– رد بحزم ليست مُجرد هواية!!
ضغطتُ أكثر .. كنت أعلم أن لدية ما يُريد إخراجه.
– ولكن هذه مضيعة للوقت والمال، قد يزيلوها غدًا أو حتى اليوم.
– رد بهدوء: فليزيلوها سنرسمها مجددًا أفضل مما كانت.
وعندما هممت بسوال آخر كان صديقي قد انتهى من تنظيف الحائط فأثرت السكوت لما بعد الانتهاء.
(3)
ووقفنا زيّ الجثث
باصين على المدبحة
الدم على صدرنا
بننتصر؟ ولّا
فـ طابور الدبح؟
هل دا سؤال العار
ولا السكوت أقبح؟
ننزل نلمّ الغنايم
ولا نعدّ الجثث؟
أخرج من حقيبتة أوراق الإستنسل بأشكالها المختلفة من رسومات مبارك للمجلس العسكري للإخوان لشعارات الحرية …إلخ، وبعد مشورة بيننا؛ أخرج رسم كبير لأيقونات الثورة الخالدين الذكر: الشيخ “عماد عفت” والمناضل “مينا دانيال”، كانت الرسمة على الورق تبدو باردة وجافة.
وعاد تداعي أسئلتي الجافة عن مضيعة الوقت والمال والجهد … إلخ!
بعد فترة طلب مننا الابتعاد قليلاً ومشاهدته إذ ما حدث خطأ في الرسم وربما الاحتياط لمرور سيارة شرطة أو بعض من السادة المواطنين الشرفاء!
وبدأ فى الرسم ..
من الأذن للعين للفم للجبهة، كان الأمر في غاية الغرابة كأن روحًا أخرى تتسلل إليك فى صمتٍ وريبٍ، تدخل أنفاسك وذاكرتك لتستدعي ذكريات الغدر الأليمة من مشاهد الدهس أمام مدرعات الجيش لمشاهد القنص لمجلس الوزراء مرورًا بشهداء بورسعيد ومحمد محمود وذكرى الثورة الأولى بل وشهداء الثورة ذاتها… إلخ، “والقائمة مازالت تطول”!
بعد الانتهاء كانت الدموع تغلب عيني، ملامحمهم تبدو حية تحمل الكثير لمن يراها مع كلمة واحدة تجمعهما “حقنا فين” ذًيلت بها نظرتهما الحزينة.
وقتها – فقط – علمت لماذا الجرافيتي، ولماذا يُنفق هؤلاء أوقاتهم ومدخراتهم على سراب “حس” يحمل العار لكل ظالم ومعتد، يحمل الثأر من كل قاتل، يحمل الحق لكل مكان.
في كل مكان سيحملون أسلحة الألوان الفتاكة لفضح الظالم، في كل مكان سيواجهونهم بالخرطوش والاعتقال ليواجهوهم بمصدات “الإستنسل” وقنابل “الألوان” التى ستنفجر فى وجوههم أينما ارتحلوا حاملين العار لهم.
(4)
خَرَّجنا منها الآن
نجّينا م التجربة
المعركة مُرعبة .. مرعبة
بعد الانتهاء من الرسم نظرت للسماء، كان سرب الطيور يخفق في الأفق، تساءلت هل هي أرواحهم تُلقي علينا السلام؟!
صافحتهم وهنأتهم بفخر على ما فعلوه واستأذنتهم الرحيل، وفى نهاية الطريق آثرت أن انظر للرسم مجددًا ولكن هذه المرة “من بعيد”، كان “موكا” ينظر أيضًا وفي ذات اللحظة لهم، هل مجرد صدفة؟ لا أدري.
ومن بعيد شاهدت عينيّ عماد ومينا وعينىّ موكا تلمعان معًا فى آنٍ واحد، وأدركت من أعماقي أن هذا الشباب قادر على انتزاع حريته مهما طال الأمد .. ومهما طال الانتظار .. ومهما طال “الوصال”.
(5)
خلاص..
فتحنا الطريق؟
ولا الطريق اتهدم؟
الشهدا أخدوا القصاص؟
ولا بكوا م الألم؟
المجد للقنّاص؟
ولا اللي مخّه اتقسم؟
نبني جدار للفخر؟
ولا نافورة الدمّ؟
المعركة غايمة..
غربال ورا غربال
وف صفنّا الجنرال..
المعركة غايمة!
_____________
الأشعار من قصيدة “صلاة الخوف” لمحمود عزت ومحمد إبراهيم.