تحاول فرنسا في الفترة الأخيرة الرمي بكل الطرق من أجل استعادة نفوذها بالقارة الإفريقية الذي يتقلص يومًا بعد يومٍ لصالح قوى جديدة، وهو الواقع الذي أصبح يشكل هاجسًا للرئيس إيمانويل ماكرون الذي بدأ هذا الأسبوع جولة في القارة السمراء للترويج إلى نظرة باريس الجديدة التي يؤكد أنها تنهي عصر “فرنسا الإفريقية”.
وبالنظر إلى تجارب الأفارقة مع المستعمر السابق الذي يرفض حتى اليوم الاعتراف والاعتذار عن ماضيه المصنف ضمن الجرائم ضد الإنسانية، يبقى الخطاب الجديد لباريس مشوبًا بكثير من الريبة، كونه قد لا يشكل تحولًا في النظرة الفرنسية للأفارقة، إنما خطة مضادة لاستعادة النفوذ الذي يضيع من قصر الإليزيه يومًا بعد يومٍ، وبالخصوص في منطقة الساحل وشمال وغرب إفريقيا.
نهاية عصر؟
بدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأربعاء الماضي، جولة إلى أربع دول إفريقية هي: الغابون وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأنغولا والكونغو برازافيل، حيث حل بداية بليبرفيل (عاصمة الغابون) التي ستكون بعد أشهر على موعد مع انتخابات رئاسية كانت فرنسا على الدوام اللاعب الأساسي فيها، لأنها التي تحدد من يفشل ومن يصل إلى كرسي الرجل الأول في البلاد.
وحسب الرئاسة الفرنسية، فإن هذه الزيارة تأتي في سياق رغبة ماكرون بتكثيف العلاقات مع البلدان الإفريقية الناطقة باللغة الإنجليزية والبرتغالية، ولتعميق العلاقات الفرنسية مع هذه الدول في مجالات التعليم والصحة والبحث العلمي والثقافة والدفاع.
وكان ماكرون قد وعد بجعل وسط إفريقيا من أولويات ولايته الثانية، وسبق له في يوليو/تموز الماضي أن نفذ جولة شملت الكاميرون وبنين وغينيا بيساو، كما زار في أغسطس/آب الماضي الجزائر، وشارك بعدها في قمة الفرانكفونية بتونس، لكنه لم يقم حتى اليوم بزيارة كانت مبرمجة إلى المغرب شهر فبراير/شباط المنقضي.
يوم الخميس، ألقى ماكرون خطابًا أمام الجالية الفرنسية في الغابون قال فيه: “انتهى عصر فرنسا الإفريقية هذا، وأحيانًا يتكون لدي شعور بأن الذهنيات لا تتطور بوتيرة تطورنا نفسها، عندما أقرأ وأسمع وأرى أن ما زالت تُنسب لفرنسا نوايا ليست لديها، لم تعد لديها”.
وأضاف “يبدو أيضًا أنه ما زال مُتوقعًا منها أن تتخذ مواقف ترفض اتخاذها وأنا أؤيد ذلك تمامًا، في الغابون كما في أي مكان آخر، فرنسا محاور محايد يتحدث إلى الجميع ولا يتمثل دوره في التدخل في المنازعات السياسية الداخلية”.
أكد ماكرون أن القوات الفرنسية لن تنسحب مطلقًا من إفريقيا، ولن تفك ارتباطها بها، إنما كل ما في الأمر أنها ستعيد تنظيم تموضعها
وجاء تصريح ماكرون ردًا على أصوات المعارضة الغاضبة من زيارته ومن توقيتها، لأنها ترى فيها إعلانًا رسميًا من باريس لدعم الرئيس علي بونغو في الرئاسيات القادمة، وهو الذي يحكم البلاد منذ 2009، لكن الرئيس الفرنسي حاول تبديد التحرك المعتاد لبلاده في تعيين الرؤساء الأفارقة، بالقول: “لم آت لتنصيب أي شخص، لقد جئت فقط لإظهار صداقتي واحترامي لبلد وشعب شقيق”.
وتعد هذه الجولة أول اختبار لماكرون للترويج للشراكة الجديدة مع إفريقيا التي كان قد أعلنها الإثنين الماضي بباريس، وزعم فيها أن المربع الخلفي الفرنسي في غرب إفريقيا انتهى، ودعا إلى شراكات جديدة في القارة بعيدًا عن العلاقات المبهمة وعن دعم القادة الحاليّين.
لكن ما يعاب على الخطة الجديدة لماكرون أنها تحمل الكثير من التناقضات، إذ إن أكبر أوجه للتدخل الفرنسي في إفريقيا يتمثل في قواتها العسكرية المنتشرة في عدة دول، بمسميات مختلفة ذات هدف واحد هو الحفاظ على النفوذ والتدخل في شؤون الدول الإفريقية.
وفي هذا الإطار، أكد ماكرون أن القوات الفرنسية لن تنسحب مطلقًا من إفريقيا ولن تفك ارتباطها بها، إنما كل ما في الأمر أنها ستعيد تنظيم تموضعها، حيث ينتشر نحو 3 آلاف عسكري فرنسي في إفريقيا، وهو العدد الذي كان يبلغ 5500 عنصر قبل أن يتم طرد الفرنسيين من عدة دول أبرزها مالي وبوركينا فاسو.
علاقات متوترة
لا تبدو مهمة ماكرون في استعادة النفوذ الفرنسي أو بناء نموذج الشراكة الجديدة مع إفريقيا الذي تحدث عنه سهلة، بالنظر إلى الخلافات التي تصاعدت بين باريس وعدد من الدول الإفريقية، وبالخصوص تلك التي كانت يومًا ساحة لجرائم فرنسا الاستعمارية.
رسالة الغضب الإفريقي من السياسات الفرنسية، وجهت لماكرون من جمهورية الكونغو الديمقراطية التي زارها يومي 3 و5 مارس/آذار في نهاية هذه الجولة، فقد خرجت الأربعاء الماضي مظاهرة احتجاجًا على زيارة ماكرون المتوقعة، واحتشد المتظاهرون أمام السفارة الفرنسية في العاصمة كينشاسا حاملين الأعلام الروسية، واتهموا فرنسا بدعم الجماعات المتمردة في البلاد والتعاون مع رواندا المتهمة بإيواء هؤلاء المتمردين.
ويعد ماكرون الأقل حظًا بين الرؤساء الفرنسيين في علاقات بلاده بإفريقيا، رغم خطابه المنفتح نوعًا ما نحو القارة السمراء وإقراره بمآسي الاستعمار في الدول التي احتلت بلاده، فالعلاقات اليوم متوترة مع دول الساحل الإفريقي، إذ طُرد الجيش الفرنسي منذ أغسطس/آب 2022 من مالي وبوركينا فاسو من المجلس العسكري الحاكم في كلا البلدين.
وأعلنت بوركينا فاسو الثلاثاء الماضي وقف العمل بـ”اتفاق المساعدة العسكرية” المبرم مع فرنسا غداة استقلالها عام 1961، وانعكس هذا الانسحاب على أداء مجموعة دول الساحل التي ترأسها فرنسا وتضم مالي والنيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا وتشاد، التي أصبحت هيكلًا دون روح بعد أن فشلت في تحقيق الأمن والسلم بالمنطقة، خاصة بعد إعادة الجزائر تفعيل اللجنة العملياتية لقادة أركان جيوش الساحل التي تضم أيضًا موريتانيا والنيجر ومالي.
زاد التوتر بين فرنسا والمغرب بعد فضيحة “مروكو غايت” في قضية التنصت على البرلمان الأوروبي، التي جعلت باريس تؤجل زيارة ماكرون إلى الرباط
وعلاقات فرنسا متوترة اليوم أيضًا مع الجزائر، بسبب تهريب باريس الفرانكوجزائرية أميرة بوراوي من الجزائر إلى تونس ثم إلى فرنسا، ما عكر العلاقات بين البلدين من جديد بعد تحسن جاء عقب زيارة ماكرون التي أداها إلى البلد المغاربي في أغسطس/آب الماضي.
وبسبب قضية بوراوي، استدعت الجزائر سفيرها لدى فرنسا “للتشاور” في 8 فبراير/شباط للاحتجاج على السلوك الفرنسي، خاصة بعد مشاركة دبلوماسيين وأمنيين فرنسيين في تهريب هذه الرعية الجزائرية إلى باريس، لكن ماكرون قال إن بلاده ستمضي قدمًا في علاقاتها مع الجزائر، وذلك في محاولة لعدم إلغاء الجزائر زيارة مرتقبة للرئيس تبون إلى فرنسا شهر ماير/أيار الماضي.
وإن كانت العلاقات المتوترة مع الجزائر، ليست بالأمر الجديد بالنظر إلى الماضي التاريخي بين البلدين الذي يجعل علاقاتهما محل صعود ونزول على الدوام، إلا أن التوتر الحاصل مع المغرب هو الأمر الجديد، فالعلاقة التي كانت تجمع القصر الملكي المغربي بالإليزيه تزعزعت في السنوات الأخيرة بعد تجسس المخابرات المغربية على ماكرون ومسؤولين فرنسيين باستخدام نظام بيغاسوس المصنوع من الصهاينة.
وزاد التوتر بين فرنسا والمغرب بعد فضيحة “مروكو غايت” في قضية التنصت على البرلمان الأوروبي، التي جعلت باريس تؤجل زيارة ماكرون إلى الرباط.
منافسون جدد
من المؤكد أن الهدف الأساسي للشراكة الفرنسية الإفريقية الجديدة التي أطلقها ماكرون هو البحث بكل الطرق عن استعادة النفوذ الفرنسي المترنح في القارة الإفريقية التي يقول الخبراء إنها ستعرف في السنوات المقبلة أكبر معدلات النمو الاقتصادية.
وتلقت باريس أكبر صفعة العام الماضي، عندما طردت شر طردة من مالي بعد تراجع نفوذها لصالح روسيا التي استطاعت أن تضع مجلسًا عسكريًّا حاكمًا مواليًا لها.
وتعزز موسكو وجودها ببماكو أمام مرأى الفرنسيين، إذ كانت البداية بالاحتجاجات التي رفع فيها العلم الروسي وسط هتافات منددة بالوجود الفرنسي، وتبعها الحديث الجاري اليوم بشأن تعاقد الحكومة المالية مع شركة “فاغنر” الروسية الأمنية التي استطاعت أن تقلب سابقًا الموازين لصالحها في شرق ليبيا، ورغم الاتهامات الموجهة لها بأنها جماعة مرتزقة، فإن هذه التُّهم بين الدول الاستعمارية السابقة لا تهم بقدر ما يهم توسيع النفوذ والتحكم بزمام الأحداث بالبلد الموجودة به.
وعلى الصعيد الاقتصادي، لا تبشر الأمور أيضًا بخير بالنسبة إلى الفرنسيين، فقد ساهم توترها مع الجزائر بفقدانها عدة صفقات، بعد عدم تجديد صفقة مؤسسة “طراتيبي باريس” التي كانت تشرف على مترو الجزائر، وإنهاء الشراكة بين مجمع “سياز” الفرنسي وشركة تطهير مياه العاصمة، التي كانت تشرف على تسيير عملية توزيع المياه في العاصمة الجزائر وولايتَي تيبازة ووهران.
وكانت الجزائر قد رفضت أيضًا بيع أصول شركة “أنداركو” الأمريكية في الجزائر لصالح “توتال” الفرنسية بتطبيق حق الشفعة، كما سحبت رخصة الاعتماد لبنك “كريدي أغريكول” الذي ينشط في السوق الجزائرية منذ عام 2007، ولم تحقق الزيارة التي قادها ماكرون إلى الجزائر في أغسطس/آب الماضي، وزيارة رئيسة حكومته إليزابيث بورن في أكتوبر/تشرين الأول الماضي أي مكاسب اقتصادية ملموسة.
وفي الجانب الاقتصادي، كانت 8 دول إفريقية، منها كوت ديفوار وبنين، قد أعلنت عام 2019 التخلي عن عملة الفرنك الإفريقي الموروثة عن الفرنك الفرنسي، التي لا تزال إلى اليوم تحدد قيمتها من البنك المركزي الفرنسي، وذلك باستبدالها بعملة الإيكو المستقلة عن باريس، وحتى إن لم تنجح هذه الدول حتى الآن في تحقيق مبتغاها بسبب الضغوط الفرنسية الرافضة لذلك، فإن كل المعطيات تشير إلى أن جعل الفرنك الإفريقي مأساة من الماضي أصبح أمرًا وشيكًا، وبات على ماكرون اليوم العمل على إنهاء وجود هذه العملة ليعطي إشارة على صدق خطبه بانتهاء عصر فرنسا الإفريقية.
لا تعد الصين المنافس الجديد الوحيد لفرنسا اقتصاديًا في إفريقيا، فبالإضافة إلى الأمريكيين والروس توجد تركيا التي تنوي رفع مبادلاتها التجارية مع القارة السمراء من 25 مليار دولار حاليًّا إلى 50 مليار دولار في أقرب وقت
وإذا كانت أوجه التراجع الاقتصادي الفرنسي في إفريقيا عديدة، فإن فقدان باريس لنفوذها في بعض القطاعات يعدّ أكثر وجعًا من قطاعات أخرى، ولعل المجال الدفاعي أبرزه، ففرنسا التي كانت بالأمس القريب من تشعل التوترات والحرب في القارة السمراء عبر بيعها الأسلحة للجماعات المتنازعة، بدأت تفقد هذه السوق، ولعل عقد النيجر العام الماضي صفقة دفاع مع تركيا أكبر دليل على ذلك.
واقتنت نيامي عددًا من الطائرة المسيرة “تي بي 2” وطائرة التدريب “هوركوش” التركية الصنع، إضافة إلى أن عدة دول إفريقية كالمغرب ونيجيريا وإثيوبيا اشترت أو تنوي اقتناء الطائرات المسيرة التركية.
واقتصاديًا، لم تعد باريس قادرة على مجاراة المد الصيني نحو القارة السمراء الذي جعل حجم التبادل التجارى بين بكين والدول الإفريقية يبلغ 208 مليارات دولار عام 2019، وهو الذي كان قبل عام من ذلك عند 190 مليار دولار، وهو حجم يفوق التبادل التجاري للقارة السمراء مع الولايات المتحدة الأمريكية والهند وفرنسا مجتمعة.
وتشير إحصاءات عام 2018 إلى أن الصين المستثمر الأول في إفريقيا بقيمة 36 مليار دولار سنويًّا، حيث يبلغ مجموع الاستثمارات الصينية بالقارة السمراء ما يزيد على 400 مليار دولار، ولا تعد الصين المنافس الجديد الوحيد لفرنسا اقتصاديًا في إفريقيا، فبالإضافة إلى الأمريكيين والروس توجد تركيا التي تنوي رفع مبادلاتها التجارية مع القارة السمراء من 25 مليار دولار حاليًّا إلى 50 مليار دولار في أقرب وقت.
من المؤكد أن تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا بات واضحًا للجميع، إلا أن التخلص منه بصفة كلية ما زال يحتاج إلى جهد يصنعه الأفارقة أنفسهم لا الدول المنافسة لباريس، الذي يكون ليس بإنهاء عصر فرنسا الإفريقية فقط، إنما أيضًا بالتخلص بصفة كلية من مشروع إفريقيا الفرنسية التي تحاول باريس تنفيذه بشتى الطرق.