“أجرينا اختبارات طبية ونفسية ولياقة بدنية للمهندسين المتقدمين لوزارة النقل في الكلية الحربية، إضافة إلى كشف الهيئة الذي حضره الرئيس السيسي، لا نلتفت لمن يقولون إن الدولة تعسكر وزارة النقل والوظائف المدنية، وإذا كانت آلية الاختيار هذه عكسرة، فأهلًا وسهلًا بنعسكرها”، بتلك التصريحات دافع وزير النقل المصري الفريق كامل الوزير، عن الآلية الجديدة لاختيار مهندسي وزارة النقل التي يتولى حقيبتها في مواجهة الانتقادات الموجهة إليها والاتهام بعسكرة الوظائف المدنية في مصر.
وأضاف الوزير خلال مداخلة هاتفية مع الإعلامي المقرب من النظام أحمد موسى، عبر برنامجه المقدم على قناة “صدى البلد” في 2 مارس/آذار الحاليّ: “ملناش دعوة بقى بالناس التانيين لو عملنا عينة من 1000 واحد هنلاقي 900 مقتنعين بالفكرة و100 هيقولك إشمعنى مهندسين وزارة النقل بيروحوا الكلية الحربية أصل علشان وزير النقل كان ضابط”، وتابع “المتقدمون تم اختبارهم كشف هيئة في الكلية الحربية قبل حصولهم على دورة تدريبية لمدة 6 أشهر سواء مهندسين أو فنيين وأن الرئيس السيسي عندما علم باختبار المتقدمين كشف الهيئة، أراد الاطمئنان على الفكرة التي أرسى مبدأها بانتقاء المهندسين بشكل جيد جدًا وحضر الاختبار”.
أن يخضع مهندسون مدنيون لاختبارات كشف الهيئة الخاصة بكليات الحربية والشرطة، وأن يحضر رئيس الدولة بذاته طقوس هذا الكشف، سابقة هي الأولى من نوعها على الساحة المصرية، وسط جدل كبير بين مؤيد لها بزعم اختيار المتميزين وتأهيلهم بشكل يعزز من قدراتهم الإنتاجية ومعارضين لما أسموه بالعسكرة التي يخشى أن تتغول على بقية مجالات الدولة، الأمر الذي يحمل الكثير من التداعيات الخطيرة على المشهد المصري.
يذكر أن اختبار “كشف الهيئة” عبارة عن عرض الطالب المتقدم في كلية الشرطة أو الكليات الحربية لنفسه أمام لجنة مكونة من كبار الجنرالات، وتنحصر الأسئلة خلال هذا الاختبار في الحديث عن عائلة المتقدم ومستواها المادي والمجتمعي وخلفياته الأسرية وخريطة العائلة ومدى احتوائها على أي من أصحاب الأفكار والتيارات السياسية والدينية، ويطلق عليه المصريون مسمى “كشف الواسطة”، فالمرور منه في الغالب يتم عبر واسطة من بين الجنرالات.
عسكرة صريحة
بينما يدافع وزير النقل عن تلك الآلية الجديدة في تقييم واختبار المتقدمين لشغل وظائف المهندسين في وزارته المدنية، وأن ذلك أمر ضروري ومثمن من أكثر من 90% من الشعب المصري على حد قوله، هناك آخرون يرون أن ما يحدث عسكرة صريحة لا شك فيها، كما جاء على لسان الكاتب السياسي يحيى حسين عبد الهادي، مؤسس الحركة المدنية الديمقراطية الذي حذر من أن انتهاج تلك السياسات سيقود حتمًا إلى “تَفَسُّخِ وانهيار الدول” على حد قوله.
عبد الهادي المفرج عنه مؤخرًا بعد 3 سنوات قضاها داخل السجون المصرية بسبب منشورات له على منصات الواصل الاجتماعي، يرى في مقال نشره على صفحته على فيسبوك أن “موضوع كشف الهيئة العسكري للموظفين المدنيين ليس إلا حلقة في سلسلةٍ من التصرفات المستفزة التي تخلط بين قيادة كتيبةٍ وقيادة دولة.. الكتيبةُ تُحكَمُ بقانون الأحكام العسكرية، أما الدولة فمرجعيتها الدستور والقانون.. الكتيبة تُدار (كما في كل جيوش العالم) بالسمع والطاعة.. أما الدولة فتدار بوسائل أخرى غير السمع والطاعة، من بينها الإقناع والاقتناع وحرية الانتقاد والتصويب بعد المتابعة والمحاسبة”.
محاولة إرساء قواعد العمل العسكري في اختيار الموظفين المدنيين ومساهمة رئيس الدولة بشخصه في ذلك بل حثه على المضي قدمًا في تعزيز هذا المسار وتعميمه، منعطف خطير ستدفع الدولة والمجتمع ثمنه فادحًا
وعلى عكس ما يروج له الوزير الجنرال، يعتبر الناشط السياسي المعارض أن العكس هو المطلوب “أي أن العسكري الذي لم يخلع بذلته العسكرية مطلقًا لا بد من تأهيله قبل الانخراط في الحياة المدنية”، لافتًا إلى أنه كان عسكريًا بداية حياته فهو خريج الكلية الفنية العسكرية واحتاج قرابة 12 عامًا للتأقلم من أجل تولي المناصب القيادية.
وردًا على مزاعم البعض بأن الجنرالات هم الأجدر على تولي المناصب القيادية المدنية بحكم نشأتهم الصارمة وحزمهم في الإدارة، يرى عبد الهادي أن هذا قول بعيد تمامًا عن الحقيقة والواقع، “فالعسكريون الذين يُقَّدِسُهُم المصريون مثل عبد المنعم رياض والشاذلي والرفاعي والجمسي وغيرهم، نالوا مكانتهم لكفاءتهم في مناصبهم العسكرية لا المدنية، والعسكريون الذين برزوا فى قطاعات الإنتاج والإبداع مثل ثروت عكاشة وصدقي سليمان والبارودي، أو كمحافظين مثل سمير فرج والمحجوب ووجيه أباظة وغيرهم، برزوا لأنهم أكفاء لديهم مَلَكات إبداعية وإدارية، لا لأنهم عسكريون، بدليل أن كثيرين غيرهم من العسكريين فشلوا”.
ويتفق آخرون مع هذا الطرح، محذرين من أن اعتماد تلك الإستراتيجية في كل القطاعات سيخلق فتنة جديدة داخل الشارع المصري وتقسمه إلى ثنائيات الانقسام والاحتقان، فالضخ بالعسكريين إلى المواقع المدنية من جانب، وتحويل المدنيين إلى جنود في ساحاتهم المدنية من جانب آخر، سيقود البلاد إلى منزلق خطير، هذا المنزلق الذي يتسم بالعديد من السمات أبرزها ألا يرى المسؤول أو الحكام إلا فئته فقط، متجاهلًا بقية أطياف المجتمع.
يذكر أن وزارة النقل التي يرأس حقيبتها كامل الوزير، رئيس القطاع الهندسي السابق بالجيش المصري، تعد واحدة من أكثر الوزارات المدنية التي تمت عسكرتها خلال السنوات الأخيرة، ففي مقال أقرب للشكوى للكاتب الصحفي عبد الناصر سلامة (كان قد تم اعتقاله بسبب مقالاته وأفرج عنه مؤخرًا)، رئيس تحرير صحيفة “الأهرام” الأسبق لرئيس الجمهورية في 14 أغسطس/آب 2017، استعرض أسماء 22 مسؤولًا تم تعيينهم مؤخرًا بوزارة النقل قادمين من المؤسسة العسكرية لإدارة المواقع القيادية العليا بالوزارة، لافتًا أن هناك أضعاف هذا الرقم وفي وزارات أخرى لكنه اكتفى بهم على سبيل الاستشهاد لا الحصر.
#الشروق كامل الوزير: الرئيس السيسي كان سعيدا بمستوى المهندسين المتقدمين لوظائف الوزارةhttps://t.co/pERUsL65Eh pic.twitter.com/QcyfYtMhAl
— Shorouk News (@Shorouk_News) March 1, 2023
ثمن فادح
محاولة إرساء قواعد العمل العسكري في اختيار الموظفين المدنيين ومساهمة رئيس الدولة بشخصه في ذلك بل حثه على المضي قدمًا في تعزيز هذا المسار وتعميمه، منعطف خطير ستدفع الدولة والمجتمع ثمنه فادحًا، إذ تشير كل التجارب التاريخية أن انتهاج تلك الإستراتيجية محكوم عليها بالفشل وتحول البلدان إلى ثكنات عسكرية، ومن أبرز تلك التجارب السيناريو العراقي بعد 2003 وما آل إليه الآن جراء تلك الإستراتيجية التي فرضها المحتل وأذرعه السياسية داخل العراق.
ويأتي على قائمة الأثمان المتوقع أن يدفعها المصريون جراء هذا النوع من العسكرة المدنية التوجه إلى عسكرة المجتمع وتحويله إلى دولة بوليسية من الطراز الأول وهو ما يتناغم مع التصريحات التي أدلى بها الرئيس المصري قبل أيام في سيناء على هامش حضوره افتتاح بعض المشروعات التنموية هناك، حين طلب من الأهالي التعاون مع الأمن بشكل أو بآخر مثل الإبلاغ عن أبنائهم الذين تبدو عليهم علامات التأثر بالأفكار المتطرفة أو كما وصفه السيسي بـ”المتلخبط”.
مثل هذا الطلب حتى إن كان الهدف منه لعب دور مجتمعي في احتواء الأفكار المتطرفة والسيطرة عليها قبل تحويلها إلى ممارسات عنف، لكنه يحول المجتمع إلى مجتمع بوليسي، الناس تبلغ عن بعضها البعض وحتى عن أبنائها، في انتكاسة فجة لعصر الستينيات، بما تحتويه تلك الأجواء من معاني الكيد والتربص والانتقام التي تحول المجتمع المصري إلى ثكنة عسكرية لا مجال فيها إلا للمحظيين من أصحاب الكاب والنجوم فوق الأكتاف.
القاعدة تقول إن الجميع متشاركون في البناء، وأي خلل في تلك المعادلة، من أي نوع من الأنواع، كفيل بهدم المعبد فوق رأس الجميع
ومن الموبقات الناجمة عن ذلك أيضًا زيادة معدلات هجرة العقول، فالبيئة التي تقبض عليها العقلية العسكرية بيئة طاردة للمواهب بطبيعة الحال، حيث فقدان التنافس وقتل الإبداع وتحويل الشباب المفعم بالأمل إلى جنود داخل ثكنات عسكرية، كل مؤهلاتهم السمع والطاعة للقادة، ووأد النقاش والجدال والمكاشفة، وكلها معاول هدم لأي نشاط اقتصادي أو إداري.
وعلى المستوى الأمني فالتداعيات كثيرة، على رأسها زيادة الاحتقان ضد المؤسسات العسكرية بكل أطيافها، وهو ما يخلق حالة عداء وخصومة كبيرة بين المدنيين الذين يمثلون السواد الأعظم من الشعب وحفنة الجنرالات داخل الكيانات العسكرية والأمنية، ما قد يهدد الأمن والسلم والاستقرار المجتمعي ويضع الدولة فوق فوهة بركان قابل للانفجار في أي وقت.
اقتصاديًا.. فإن عسكرة المجال المدني عبر تلك الإستراتيجيات بزعم التأهيل الجيد تعد شهادة وفاة رسمية للقطاع الخاص بكل أنواعه، هذا القطاع الذي عانى خلال السنوات الماضية من هيمنة الجيش على كبرى المجالات الاقتصادية وسحب البساط من تحت أقدامه في ظل افتقاد المنافسة الشريفة ومنح المؤسسة العسكرية الميزات والمنح والتسهيلات التي تؤهلها للهيمنة على المشهد الاقتصادي برمته، بما دفعه للتقلص والانحسار بشكل حوله من لاعب رئيسي في الميدان إلى خارج التشكيل الرسمي لاقتصاد الدولة، هذا بخلاف فتح باب كبير للفساد وإهدار المال العام في ظل انتفاء أدوات المحاسبة والرقابة، فمن ذا الذي يملك صلاحية الرقابة على الجنرالات في مصر.
في الأخير.. لا يمكن لبلد، أي بلد، أن ينهض بتيار أو فئة واحدة دون الأخرى، مهما بلغت قوة ونفوذ تلك الفئة، فالتاريخ يشير إلى سقوط تلك البلدان التي تعتمد على أحادية السلطة والهيمنة، خاصة تلك التي منحت لعسكرها كل الصلاحيات على حساب البقية الباقية من التيارات المدنية، فالقاعدة تقول إن الجميع متشاركون في البناء، وأي خلل في تلك المعادلة، من أي نوع من الأنواع، كفيل بهدم المعبد فوق رأس الجميع.