كثرت في السودان مؤخرًا المخاوف من احتمالية اندلاع مواجهة مسلحة بين الجيش ومليشيات الدعم السريع شبه العسكرية، عززت تلك المخاوف تصريحات تصعيدية أطلقها كلا الطرفين، وبشكلٍ خاص قادة الجيش، رغم أنهم كانوا يزعمون على مدى سنوات أن قوات الدعم السريع خرجت من رحم القوات المسلحة.
ويُلاحظ أيضًا أن قائد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، الجنرال عبد الفتاح البرهان، دخل في شبه تحالف مع جماعات مقربة من حزب المؤتمر الوطني المنحل، بينما يتخذ نائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي” موقفًا متماهيًا بشكلٍ واضحٍ مع قوى الحرية والتغيير، زاعمًا أنه يدعم التحول الديمقراطي.
ونقلت “سودان تربيون” عن مصادر متعددة، تأكيدها اشتداد الخلافات بين القيادات العسكرية للجيش والدعم السريع في بعض المناطق بدارفور بعد توجيهات بنشر القوات المشتركة السودانية التشادية عقب ساعات من زيارة البرهان لإنجمينا هذا الشهر.
وأكدت مصادر الصحيفة أن قوات الدعم السريع التي كانت منتشرة على الحدود خاصة في ولاية غرب دارفور، تلقت توجيهات بالانسحاب وإزالة مناطق ارتكازها.
الاتفاق الإطاري فجر الخلافات
يرجح العديد من المراقبين أن تفاقم الخلافات بين الرجلين يعود إلى مواقفهما المتباينة من الاتفاق الإطاري الموقع بين المجلس العسكري الحاكم وقوى مدنية في مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وينص الاتفاق في أحد بنوده على دمج الدعم السريع في الجيش، وهو ما وافق عليه قائد المليشيا حميدتي، لكن حرب التصريحات بين الرجلين اشتعلت في الفترة الأخيرة، أحيانًا بشكلٍ مباشرٍ وأحيانًا أخرى بشكلٍ غير مباشر، ما جعل كثيرين يتوجسون من أن تتحول إلى صدامات مسلحة، خاصة أن الجنرال ياسر العطا، أحد قادة الجيش، ألمح إلى ذلك الأسبوع الماضي عندما شدد في خطاب جماهيري على قدرة القوات المسلحة على بسط الأمن والسيطرة على أي أعمال تفلت غير مسؤولة “لا قدر الله”.
رسالة نارية من الفريق أول ياسر العطا pic.twitter.com/8cPWEYsGfa
— ﮼معمر ﮼السوداني (@MUAMMAR_963) February 25, 2023
الحرب الكلامية بدأت تزداد وتيرتها منذ إعلان حميدتي في خطابه خلال حفل توقيع الاتفاق الإطاري فشل الانقلاب الذي قاده البرهان بمشاركة حميدتي نفسه، كما أظهر الأخير في خطابه حماسًا مزعومًا لدعم الانتقال المدني، مؤكدًا موافقته على دمج قواته في الجيش وفق برنامج زمني يتم الاتفاق عليه ضمن عملية التحول المدني.
حديث حميدتي يبدو أنه جاء كرد على قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان الذي قال إن قيادة القوات المسلحة دعمت الاتفاق الإطاري عن قناعة لأنه يعالج مشاكل السودان، لكنه اشترط للمضي قدمًا في الاتفاق دمج قوات الدعم السريع في الجيش، قائلًا: “قبلناه لأن فيه بندًا مهمًا جدًا يهمنا كعسكريين، وهو دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، هذا هو الفيصل بيننا وبين الحل الجاري الآن”.
وأضاف البرهان خلال حديثه أمام حشدٍ جماهيريٍ في ولاية نهر النيل (شمال): “الاتفاق تضمن كلامًا واضحًا ومنصفًا عن دمج الدعم السريع، ودمج الحركات المسلحة في القوات المسلحة، وقطعًا سنذهب فيه، ليكون هناك جيش وطني واحد يدافع عن السودان ويحمي أهل السودان، لكن أي كلام غير هذا لن يكون مقبولًا، ولن يذهب أحد في الاتفاق للأمام من دونه”.
مطالب الدمج قديمة
منذ رحيل الرئيس المخلوع عمر البشير عن السلطة في أبريل/نيسان 2019، ظل مطلب حل قوات الدعم السريع أو إدماجها في الجيش السوداني من أهم المطالب التي نادت بها الحركة الاحتجاجية، وكذلك نص اتفاق جوبا لسلام السودان الموقع في 2020 على دمج الدعم السريع في المؤسسة العسكرية.
ووفقًا لمصادر عسكرية تحدثت إلى “الجزيرة نت” فإن قيادات عسكرية بارزة طالبت البرهان بوضع شروط قبل توقيع الاتفاق النهائي، تشمل وضع مصفوفة زمنية لدمج قوات الدعم السريع بنهاية المرحلة الانتقالية ووقف تسليحها واستيعاب أي قوات جديدة خلال الفترة الانتقالية.
الاتفاق الإطاري منح قوات الدعم السريع وضعًا مستقلًا خلافًا لما كان عليه الوضع قبل انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول، حيث نصت الوثيقة الدستورية المنقلب عليها على تبعية قوات الدعم السريع للجيش، لكن الاتفاق الإطاري حدد القوات النظامية في “الجيش والشرطة والمخابرات العامة والدعم السريع”، ما أثار قلقًا داخل المؤسسة العسكرية التي تطالب بجيش موحد.
وأفادت مصادر الجزيرة نت، بأنه عند مغادرة البرهان رئاسة مجلس السيادة، ستكون قوات الدعم السريع تحت إمرة رأس الدولة الجديد بحسب قانونها، وبالتالي لن تكون لديه أي سلطة عليها، ما يتيح لها الاستقلالية بشكل كامل وبإمكانها إبرام صفقات تسليح والتوسع في التجنيد، وهو ما لا تقبله المؤسسة العسكرية.
قوى الحرية أبرمت صفقة مع الدعم السريع
كثيرًا ما يوجه أمجد فريد – مستشار سابق بمكتب رئيس الوزراء السوداني المستقيل عبد الله حمدوك – انتقادات لاذعة لقوى الحرية والتغيير بسبب توقيعها على الاتفاق الإطاري الذي نص على إبقاء قادة الجيش والدعم السريع في مناصبهم العسكرية.
واتهم فريد في فبراير/شباط الماضي قوى الحرية والتغيير بإبرام صفقة مع الدعم السريع تتضمن إعادة التكتل إلى السلطة مقابل الحفاظ على استقلالية الدعم السريع من الدولة والجيش في الوقت نفسه.
أمجد فريد: الحرية والتغيير أبرمت صفقة مع الدعم السريع لإعادة” المجلس المركزي” للسلطة – اخبار السودان https://t.co/RMO0THX71e
— Amgad (@Amjedfarid) February 11, 2023
كما اتهم من أسماهم بـ”بعض السماسرة” بالسعي لإنجاح الاتفاق بين “قحت” وحميدتي منذ وقت مبكر، ما جعل قائد الدعم السريع داعمًا لموقف الحرية والتغيير والاتفاق الإطاري.
تراهن قوى الحرية والتغيير على مليشيا الدعم السريع المملوكة لحميدتي، اعتقادًا منها بأن الأخير يمكن أن يكون حليفًا لها لمواجهة الإسلاميين الذين لديهم صلات واسعة مع البرهان، لكن تلك الرؤية تثير الاستغراب، فحمديتي معروف بغدره كما فعلت قواته من قبل بالمعتصمين في محيط القيادة العامة، وكما هدد سكان العاصمة الخرطوم بتكرار سيناريو مجزرة القيادة لعدة أيام حتى تصير مدينة مهجورة لا تسكنها إلا القطط.
الشيء الآخر المثير للدهشة أن قوى الحرية والتغيير متحالفة مع المؤتمر الشعبي (الحزب الإسلامي الأكثر راديكالية الذي أسسه الراحل حسن الترابي بعد “قرارات الرابع من رمضان“، عندما قام المخلوع عام 1999 بحل البرلمان وإعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد، وإقالة الدكتور حسن الترابي من كل مناصبه).
فإذا كانت قوى الحرية متفقة ومتفاهمة مع الجناح الأكثر راديكالية في الحركة الإسلامية، فما مشكلتها مع أنصار البشير؟
بالعودة إلى الحرب الكلامية بين قادة الجيش والدعم السريع نجد أن كل المؤشرات تؤكد وجود خلافات حقيقية بين الطرفين هذه المرة، آخرها يتعلق بالاتفاق الإطاري والموقف منه، إلى جانب الخلافات المكتومة سابقًا والمتعلقة بالصراع على النفوذ والسلطة.
في العام 2019، كانت التقديرات تشير إلى أن عدد قوات الدعم السريع يبلغ نحو 40 ألفًا، بعد ذلك بنحو عامين، قال اثنان من الحقوقيين السودانيين، إن حجم قوات الدعم السريع تضاعف خلال ثلاث سنوات إلى ما لا يقل عن 100 ألف مقاتل، ما يجعلها قريبة في الحجم من قوات الجيش (البالغ عددها نحو 109 آلاف جندي)، وقد يعني ذلك غالبًا أنها قد تفوق القوات البرية السودانية في الحجم.
وأضاف الحقوقيان أن قوات الدعم السريع اشترت أسلحة عالية التقنية، علمًا بأن المجموعة لا تنشر أرقام الموظفين الرسمية، حسبما نقلت عنهما وكالة أسوشييتد برس الأمريكية.
وسبق أن كشفت مصادر قريبة من موظفين يعملون مع حميدتي، أن الأخير يوظف بين 5-8 آلاف شخص، في تخصصات مختلفة ويعملون في شركات تجارية وصناعية وإعلامية ومنظمات مرتبطة بالمليشيا المملوكة لعائلته، وينال هؤلاء الموظفون بحسب المصادر نحو 600 ألف دولار، تتلقاها المؤسسات الإعلامية التابعة للدعم السريع.
ومع هذه القدرات المتزايدة، يقول الباحثون الحقوقيون إن القوات شبه العسكرية تمكنت من ترسيخ سيطرتها على الحدود الغربية والشمالية، المليئة بالثغرات في السودان، ما سمح لها بالاستفادة من تهريب الأسلحة والمخدرات والمهاجرين مع تقلص نفوذ الجيش، وفق التقرير.
كما يجب ملاحظة أن قوات الدعم السريع التي قامت بالأساس على مليشيا الجنجويد سيئة السمعة، أثبتت مرونة وقدرة كبيرة خلال صراع دارفور وإن قامت إستراتيجيتها هناك على حرق القرى وقتل المدنيين وفق منظمات حقوقية، فيما يعاني الجيش من تداعيات عقود من الحروب والتسييس ونقص الأموال وقلة الأسلحة، خاصة في ظل الحصار الغربي.
تفيد تقديرات عسكريين بأن الجيش السوداني لن يستطيع حسم المعركة مع قوات حميدتي سريعًا في حال نشوب مواجهة، لأن الأخير نسج تحالفات مع الحركات المسلحة.
الاستخبارات الأمريكية تدقق في أنشطة حمديتي
حتى الآن ينفي قادة الجيش وقادة الدعم السريع فرضية تطور الخلاف إلى نزاع مسلح بين القوتين، لكن إذا وقع فإن نتائجه ستكون كارثية، وقد لا يستطيع أي من الجانبين حسمها عسكريًا، خاصة إذا تذكرنا دموية النزاعات التي شهدتها وتشهدها المنطقة من حولنا وكيف أن الحسم العسكري أصبح رهانًا عالي المخاطر.
ويبدو كذلك أن الإدارة الأمريكية قد التفتت أخيرًا إلى خطورة مليشيا الدعم السريع وتمددها عبر دول الجوار، فقد قال تقرير حديث لموقع “أفريكا إنتلجنس” الاستخباراتي إن وكالات وأجهزة الاستخبارات الأمريكية تتابع عن كثب أنشطة حميدتي في تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وفي السودان.
يضيف التقرير أن عملاء الاستخبارات الأمريكية يشككون في صلة حميدتي بمؤامرة مزعومة للإطاحة بالرئيس المؤقت لتشاد ويدققون في مصالحه في التعدين وتعاملاته مع كيانات روسية بما في ذلك مجموعة فاغنر شبه العسكرية.