ترجمة حفصة جودة
بينما تمشي في شوارع سنغافورة، ذلك المركز المالي العالمي المعروف بثقافته الغنية وناطحات السحاب الحديثة، ستمر في طريقك بحي يتميز عن البقية، حي “كامبونج جلام” المعروف باسم منطقة شارع العرب.
في تلك الشوارع، تصطف المتاجر الملونة في مبان من طابقين، تضم مطاعم تقليدية ومتاجر قماش ومشغولات يدوية، وفي قلب تلك الوجهة السياحية الكبرى الممتلئة بفن الشوارع، يقع مسجد سلطان بتصميمه الهندي القوطي وقبته الذهبية البارزة.
كمنطقة ثقافية إسلامية رئيسية، كانت لأكثر من قرن مركزًا للتجار العرب، واليوم تضم شوارع بأسماء عربية مثل “العرب” و”مسقط” و”شارع البصرة”، عاش المجتمع العربي هنا لأكثر من 200 عام، وكان واحدًا من أكثر الجماعات المهاجرة ثراءً في المدينة، حيث امتلك مساحات شاسعة من الأراضي.
كانت مساهماتهم في التجارة وغيرها من الصناعات المختلفة قد ساعدت سنغافورة على النمو، لتصبح المدينة الكبرى المزدهرة التي هي عليها اليوم، يمكنك أن ترى تأثير العرب في طعام المدينة بالإضافة إلى أماكن العبادة والترفيه.
لنلق نظرة أقرب على المجتمع الذي كان لعقود مركزًا للتجار العرب، وكيف يُحافظ عليه اليوم.
أصول المجتمع العربي
يُعتقد أن أول عرب وصلوا إلى سنغافورة عام 1819، في نفس العام الذي اعتُبر فيه المسؤول الاستعماري البريطاني ستامفورد رافليز، المؤسس الحديث للدولة المدنية.
جاء العديد منهم من وادي حضرموت جنوب اليمن، ويُعتقد أنهم كانوا من الأسياد، أي ينحدرون من نسل النبي محمد “صلى الله عليه وسلم”، عبر هؤلاء الأسياد المحيطات للهجرة إلى جنوب شرق آسيا في القرن الـ18 حيث تاجروا في عدد من البضائع من بينها التوابل والأقمشة.
تقول خديجة العطاس رئيسة الشبكة العربية في سنغافورة “AN@S“: “كان رافليز قد دعاهم إلى سنغافورة التي كانت آنذاك ميناءً مزدحمًا، حتى يستثمروا هناك، خُصص مكان للعرب في كامبونج جلام قرب مقر إقامة سلطان ملاي، لأن السكان العرب – بحسب رافلز – يستحقون كل اعتبار”.
كان التاجران السيد محمد بن هارون الجنيد وابن اخيه السيد عمر بن علي أول من استوطن سنغافورة، ثم تبعتهما عائلتا السقاف وآل كاف – وهما عائلتان حضرميتان ثريتان -.
مجتمع مزدهر
بحلول عام 1930، كان هناك 1200 عربي في سنغافورة، تقول العطاس: “على مر السنين، استحوذوا على مساحات كبيرة من الأراضي حتى أصبحوا يمتلكون أكثر من نصف المنطقة”.
لم يترك العرب أراضيهم تضيع هباءً، فقد طوروا المزارع وبنوا المتاجر وامتلكوا عددًا من أفخم المباني مثل قصر “آل كاف” أو فندق “رافلز” المميز.
يعد الفندق أثرًا وطنيًا ويُعرف بأنه أُسس عام 1887 على يد الأخوة سركيس، تلك العائلة الأرمينية الثرية التي تعود أصولها إلى إيران، لكن ما ليس معروفًا هو أن العقار كان مملوكًا لعائلة السقاف التي أجرته لعائلة سركيس.
استولت الحكومة على كامل أملاكهم بتعويض متدنٍ للغاية، ومع ذلك تمكن المجتمع العربي بمرور الوقت من التكيف بالاستثمار في قطاعات أخرى
وفقًا للمؤلفة جريتشن ليو، فإن عائلة السقاف لم تشارك في إدارة الفندق، لكنها استثمرت في العقار ودفعت أموالًا للتوسع.
تقول ليو: “كان لهم دور داعم، فقد استخدموا أفضل المعماريين، وكان أول مبنى في سنغافورة تدخله الكهرباء”، كانت العائلة مشهورة جدًا، حتى إنه في زيارة أحد أفراد العائلة لمصر عام 1938، استقبله الملك فاروق الأول.
تضيف ليو “لا يزال أحفاد العائلات العربية فخورين بتراثهم ولهم كل الحق في ذلك، فقد كانوا أثرياءً للغاية ومعروفين عالميًا في ذلك الوقت”.
تفكك الثروة العربية
هذا النفوذ لم يدم للأبد، ففي عام 1939 طبقت الحكومة الاستعمارية ضوابط على الإيجار، وبعد استقلال سنغافورة عام 1965، سمح قانون الاستحواذ على الأراضي للحكومة بامتلاك الأرض من أجل مشاريع الإسكان والتنمية وذلك بشرائها من أصحابها بقيمة أقل من السوق كثيرًا.
بنهاية الثمانينيات، أصبحت الحكومة أكبر مالك للأرض بينما رأى العرب قيمة أراضيهم تتلاشى، شهدت العطاس – سليلة عائلة السقاف من جهة والدتها – تلك الخسارة مباشرة، فقد وُلدت قرب حي العربي في مجمع يضم 8 إلى 10 أكواخ عاشت فيها عائلتها الممتدة.
عندما بلغت الـ13 من عمرها، كانت الحكومة قد استولت على كامل أملاكهم بتعويض متدني للغاية، ومع ذلك تمكن المجتمع بمرور الوقت من التكيف بالاستثمار في قطاعات أخرى.
تقول هدى الجنيد – سليلة أول عائلة تضع أقدامها في سنغافورة -، إن جدها امتلك متاجر في شارع العرب لبيع العطور الشرقية والأقمشة الملونة المزخرفة من إندونيسيا، تسلم أعمامها التجارة واليوم تشتهر متاجر “توكو الجنيد” بجودة خاماتها وتصميماتها، حتى إن والدة لي كوان يو – أول رئيس وزراء لسنغافورة – كانت إحدى عميلاتهم.
كانت جدة الجنيد رائدة أعمال أيضًا، حيث تقول الجنيد إنها اعتادت صنع الأدوية العشبية بسحق الأعشاب وتحويلها إلى مسحوق، وصنع المعكرونة التي يمكن لفها لتصبح كرات سهلة البلع، وتضيف “كانت تعبئ تلك الكرات في حاويات بلاستيكية وتضع عليها اسمها باللغة العربية”.
الاندماج بالطعام والمساهمات
قدمت العديد من العائلات العربية مساهمات بارزة أيضًا مثل بناء مسجد عمر كامبونج ميلاكا – أقدم مسجد في الجزيرة – والمستشفيات والجسور والآبار العامة، كانت عائلة آل كاف مسؤولة عن بناء مسجدين وحدائق يابانية و”Arcade” وهو أول مركز تسوق في سنغافورة.
اليوم يبلغ تعداد السكان العرب في سنغافورة ما بين 8 إلى 10 آلاف شخص، تقول العطاس متحدثة عن فخر العديد من السنغافوريين بتراثهم العربي والإسلامي: “إننا نعيش في مكان آمن للغاية حيث نمارس ثقافتنا وتقاليدنا وديننا دون قيود”.
ساهم العرب في سنغافورة أيضًا في الطعام، ما خلق الاندماج بمرور الوقت، تقول العطاس: “أحد الأمثلة على ذلك القهوة العربية بالهيل، التي يخلطها السنغافوريون العرب بالزنجبيل وأوراق الباندان بدلًا من ذلك، ثُقدم هذه القهوة للترحيب بالضيوف أو لكسر الصيام”.
هناك أيضًا نسخة سنغافورية من الفول المدمس – الفول المطبوخ – الذي يتناوله الشرق أوسطيين في وجبة الأفطار، ويُسمى “Kacang Pool“، أما “Kuih Makmur” فهو النسخة المحلية للمعمول الحلو الذي يُؤكل في العيد، لكنه في سنغافورة أصغر ومحشو بالفول السوداني بدلًا من التمر والفستق أو الجوز.
يمكنك أيضًا أن تجد “المندي” – وهو طبق حضرمي تقليدي يُصنع من اللحم والأرز – في قوائم طعام المطاعم الحلال، تقول الجنيد: “النسخة المحلية من المندي تختلف تمامًا عن الطبق الأصلي الذي كانت تصنعه أمي الراحلة، ففي سنغافورة يتخطون أهم خطوة وهي تدخين الأرز المطبوخ عدة دقائق ليمنح الطبق طعمه المميز”.
خلق إرث جديد
اليوم، لا يرغب العرب في سنغافورة في الاستمتاع فقط بماضيهم، لكنهم يكافحون لخلق إرث جديد من العطاء للمجتمع، تقول الجنيد: “بما أن معظمنا لم يعودوا أثرياءً مثل أجدادنا، فربما لن نستطيع أن نقدم مساهمات إنسانية مؤثرة، مثلما تبرعوا بالأراضي لبناء المدارس والمستشفيات، لكننا نستطيع بناء إرث جديد بالمساهمة بمهاراتنا وخبرتنا”.
وتضيف “لدينا الآن – ما شاء الله – مجموعة متزايدة من الأطباء الممارسين والخبراء الموهوبين في مجالات الفن والموضة والموسيقى”، ووفقًا للعطاس، فالوقت مناسب جدًا للمجتمع العربي حيث تعمل الحكومة على تعزيز التنوع، بما في ذلك بين مجموعات الأقليات العرقية.
اتخذت منظمات مثل “AN@S” خطوات استباقية بتنظيم معارض طعام ومنح دراسية للطلاب الجامعيين المحليين العرب وحفلات موسيقى عربية ومعارض، وبذلت جهودًا لتوفير المساعدات للاجئين في ماليزيا وسوريا واليمن.
يطمح المجتمع لتأسيس “المركز العربي في سنغافورة” بمنطقة كامبونج جلام، حيث بدأ كل شيء، وتأمل العطاس أن تشاركهم الحكومة في إدارته كمركز مجتمعي وكشريك تقني للمساعدة في تحمل نفقاته كذلك، حيث تقول: “إنه أفضل ما نفعله نظرًا لمساهمات المجتمع العربي الممتدة في سنغافورة”.
المصدر: ميدل إيست آي