الآن، حانت لحظة الحقيقة، بعدما أصبح المشهد السياسي التركي أمام لحظة فارقة، على خلفية التطورات المتلاحقة في معسكر المعارضة، حتى مع اختيار رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، “مرشحًا توافقيًا” لخوض انتخابات الرئاسة التركية 14 مايو/أيار المقبل في مواجهة الرئيس رجب طيب أردوغان، كون عملية الاختيار العسيرة لم تنه الحسابات السياسية المعقدة داخل تحالف “الطاولة السداسية“، ومع عودة زعيمة حزب “الجيد” ميرال أكشنار، بعد انسحابها الدرامي من التحالف، لمدة 48 ساعة، يفكر قياداته، حاليًّا، في مدى تأثير انتقاداتها العلنية شديدة اللهجة، مؤخرًا، على فرص كليجدار أوغلو في الانتخابات المصيرية.
الحسابات المعقدة داخل تحالف الطاولة السداسية تعبر عنها حالة القلق من عدوى الخلافات السياسية، وكيف سيتم قطع الطريق على احتمال تكرارها مستقبلًا، خاصة خلال الترتيبات اللوجيستية للانتخابات التشريعية المتزامنة مع استحقاق رئاسة الدولة، وإذا كانت رئيسة حزب الجيد ميرال إكشنار قد فضلت – بعد شراكة سياسية حزبية، تمتد منذ فبراير/شباط 2022 – نقل الخلافات من غرف الاجتماعات المغلقة إلى الرأي العام على الهواء مباشرة، فإلى أي مدى ستنجح الأحزاب الـ6 في تعويم التحالف متعدد التيارات السياسية والطموحات الشخصية، قبل الانتخابات العامة في تركيا التي تحظى باهتمام محلي وترقب إقليمي ودولي.
حلم كليجدار أوغلو؟
قرار تحالف الطاولة الخماسية الخاص باختيار رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، مرشحًا رئاسيًا، حقق نصف الحلم المؤجل للسياسي الكبير (74 عامًا)، حيث لم يعد يصنف فقط كزعيم للمعارضة الحزبية، لكنه أصبح مرشحها الرئاسي الوحيد حتى الآن، في مواجهة أردوغان (69 عامًا).
بينما النصف الثاني من حلم كليجدار أوغلو، لا يزال متأرجحًا بين الأمل في معركة انتخابية لائقة، تتكتل خلالها قوى المعارضة خلفه والرجاء المتمثل في حسم المارثوان الانتخابي والجلوس على العرش التركي، معتمدًا على زعامته لأقدم حزب سياسي في البلاد والثاني من حيث الكتلة التصويتية، وسعيه المستميت لتوظيف أجواء ما بعد كارثة الزلزال وتوابعه، جنوب البلاد، في المعركة الانتخابية، فضلًا عن جمع الأحزاب المتناقضة والشاردة تحت راية واحدة!
وفيما أعلن زعيم حزب “السعادة” الإسلامي، تمل كاراملا أوغلو، من بهو مقر حزبه بأنقرة، أن “كمال كليجدار أوغلو مرشحنا الرئاسي”، فقد حدد كليجدار أوغلو أمام الجموع الحاشدة من أنصار الأحزاب الـ6 للتحالف رؤيته وقناعاته المختصرة للمرحلة المقبلة، قائلًا: “كنا سنقضي على أنفسنا لو انقسمنا.. سنرسخ، معًا، قوة الأخلاق والعدالة.. تحالف الأمة سيقود تركيا على أساس التشاور والتسوية، سننجح في الانتخابات باتفاقنا واتحادنا.. اتفقنا على العودة للنظام البرلماني.. بقية رؤساء أحزاب الطاولة السداسية سيكونون نوابًا للرئيس”.
مع مواربة الباب فيما يتعلق بتعيين رئيس بلدية أنقرة منصور يافاش، ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، نائبين للرئيس، حال فوز تحالف الطاولة السداسية في الانتخابات القادمة.
لماذا “وريث أتاتورك”؟
بالنظر إلى قائمة الأسماء المطروحة – على الأقل منذ الصيف الماضي – لخوض انتخابات الرئاسة التركية (الاستحقاق الأهم خلال الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية)، فقد كانت بعض الرهانات تسير في اتجاه تأييد كل من: أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان وكاراملا أوغلو، لترشيح الرئيس التركي السابق عبد الله غول لخوض الانتخابات الرئاسية، ورغبة ميرال أكشينار في الدفع بعمدة أنقرة أو عمدة إسطنبول في السباق نفسه، بينما كانت المناقشات الجارية في الاجتماعات المتواصلة لحزب الشعب الجمهوري، تسير في اتجاه آخر، عبر التمسك بخوض رئيس الحزب كليجدار أوغلو لماراثون الانتخابات الرئاسية التركية.
وتتعدد حسابات كليجدار أوغلو، فانتزاعه القرار الجماعي للتحالف الداعم لخوضه انتخابات الرئاسة التركية، لم يمنعه من التفكير في مستقبله الحزبي، ممثلًا في رئاسته لحزب الشعب الجمهوري، حيث لا يرغب في خسارة المقعدين، معًا، كون عدم نجاحه في الانتخابات الرئاسية للبلاد، سيؤثر على موقفه وموقعه الحزبي، علمًا بأنه لم ينجح منذ توليه رئاسة الحزب عام 2010، في إلحاق هزيمة كبيرة بحزب العدالة والتنمية الحاكم، باستثناء انتزاع رئاسة بعض البلديات (من بينها أنقرة وإسطنبول أزمير وأنطاكيا) خلال انتخابات عام 2019، ومن ثم فهو يرغب في تقديم نفسه للمشهد السياسي التركي بصورة أكثر وضوحًا.
تقاطعات معقدة جدًا
يحاول كليجدار أوغلو تبديد الصورة النمطية التي اتسعت خلال الفترة الماضية، بشأن عدم قدرته على خوض معركة مؤزرة ضد أردوغان، وأنه لن يكون قادرًا على إقناع الناخبين السنة في تركيا بأحقيته في الفوز بالانتخابات الرئاسية، في ضوء ما يتردد عن انتمائه للأقلية العلوية وتوجهاته التي يحاول خصومه السياسيين الإيحاء من خلالها بعدم قدرته على جذب شرائح من الكتل التصويتية لحزبي العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية.
السمات الشخصية والسياسية لرئيس بلدية أنقرة منصور يافاش، لم تكن كافية لحصوله، في هذا التوقيت، على بطاقة الترشح لانتخابات الرئاسة التركية
يراهن كليجدار أوغلو في المقابل، على جزء من الكتلة التصويتية الكردية في الانتخابات العامة (الرئاسية والبرلمانية)، لا سيما المناصرين لحزب “الشعوب الديمقراطي”، بحكم مسقط رأسه في ولاية تونجلي (بمنطقة شرق الأناضول ومعظم قاطنيها من الكرد العلويين، كما أنها مركز قوي للحركة القومية الكردية) وقناعته بأنه صاحب فضل على حزب الشعوب الديمقراطي، بل وحزب الجيد والسعادة والمستقبل، عبر دوره في تعزيز مكانة هذه الأحزاب سياسيًا وانتخابيًا وأنه ينتظر منها رد الجميل عبر تأييده في الانتخابات المقبلة.
وقد بارك حزب الشعوب الديمقراطي، ترشيح كليجدار أوغلو لرئاسة الجمهورية، فقال مدحت سانجار الرئيس المشارك: “ننتظره في مقر حزبنا” بعدما حدد، في وقت سابق، الموقف المشروط للحزب، قائلًا: “قد ندعم زعيم المعارضة كليجدار أوغلو، بعد محادثات واضحة وصريحة.. لن نقدم مرشحًا في حالة الاتفاق على ترشيحه”، بينما قال كليجدار أوغلو عبر حسابه على تويتر، الجمعة الماضية: “يجب أن ندعو كل أطياف تركيا إلى الطاولة السداسية.. يجب أن تتوسع هذه الطاولة”.
موقف منصور وأكرم
معطيات عدة جعلت كليجدار أوغلو يصبح الممثل الوحيد للمعارضة التركية خلال الانتخابات الرئاسية المرتقبة، على حساب أسماء أخرى لا سيما عمدتي: أنقرة منصور يافاش، وإسطنبول أكرم إمام أوغلو، أولها، تمسك الهيئات القيادية في حزب الشعب الجمهوري بترشيح زعيمها كليجدار أوغلو، آخرها الاجتماع الذي عقده السبت الماضي بمشاركة رؤساء 11 بلدية ينتمون للحزب، تمسكوا خلاله بترشيح كليجدار أوغلو لرئاسة الجمهورية، وهو القرار نفسه الذي أكده اجتماع المجلس التنفيذي لحزب الشعب الجمهوري.
ثانيًا، محاولة كليجدار أوغلو الاستفادة الثلاثية من رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، فعدم ترشحه لانتخابات الرئاسة وبقائه في منصبه، يمنع إجراء انتخابات جديدة على رئاسة البلدية، قد لا تضمن نتائجها استمرار حزب الشعب الجمهوري في السيطرة على رئاسة البلدية، كما هو حاصل منذ يونيو/حزيران 2019.
الاستفادة من الشعبية النسبية لإمام أوغلو، وهي وإن كانت لا تصل لما حققه أردوغان خلال رئاسته للبلدية نفسها، منتصف التسعينيات، إلا أن إمام أوغلو يمد الجسور مع كتل تصويتية سنية وعلوية وكردية وفئات عمرية مختلفة في إسطنبول التي يقطنها أكثر من 15 مليون نسمة.
خوف قيادة الحزب من تأثير قضية سجن إمام أوغلو، وفقًا لحكم غير نهائي صادر عن محكمة الجنايات الابتدائية السابعة بإسطنبول، في 14 ديسمبر/كانون الأول 2022، لمدة عامين و7 أشهر و15 يومًا، بتهمة إهانة أعضاء اللجنة العليا للانتخابات، ومطالبة المحكمة بتطبيق المادة 53 من القانون الجنائي التي تنص على الحرمان من ممارسة حقوق معينة!
ثالثًا، السمات الشخصية والسياسية لرئيس بلدية أنقرة منصور يافاش لم تكن كافية لحصوله، في هذا التوقيت، على بطاقة الترشح لانتخابات الرئاسة التركية، ممثلًا للمعارضة، ورغم الدعم الذي يحظى به في العاصمة التركية من كتل تصويتية قومية ويمينية، فإنه ليس محل إجماع كل القوى السياسية، لا سيما الأكراد، ربما بسبب خلفيته السياسية السابقة (حزب الحركة القومية) لذا، أكد يافاش قائلًا: “أن ملتزم بما تقرره الطاولة السداسية.. لم أتحدث مع أي شخص بشأن الترشح للرئاسة.. الطاولة السداسية، ستتخذ القرار الأنسب.. نحن في نفس الخط.. نأمل أن يستمر تحالف الأمة في طريقه مع جميع الأطراف الأخرى”، بينما قال إمام أوغلو: “ليس لدي أدنى شك في أن رئيس حزبنا كمال كليجدار أوغلو الذي يمثل موقف حزبنا على طاولة التحالف، بصفته قائد الحزب وتحالف الأمة، سيستمر في التقدم دون تراجع”.
رابعًا، النقاش الداخلي في حزب الشعب الجمهوري انحاز لخيار المزاوجة بين المصلحة العامة (ترشيح كليجدار أوغلو لانتخابات رئاسة الجمهورية) والخاصة (الإبقاء على عمدتي: أنقرة منصور يافاش وإسطنبول أكرم إمام أوغلو في منصبيهما، حتى لا تتم انتخابات جديدة ينجح خلالها حزب العدالة والتنمية في استرداد البلديتين، انتخابيًا)، حتى إن هذه الرؤية كانت محور لقاء المصالحة الذي قاده عمدتا البلديتين لإعادة زعيمة حزب الجيد، وتراجعها عن الاستقالة الشفوية من تحالف الطاولة السداسية، وسط تأكيدات منهما بأن “الأمة لا تتحمل الانقسام، وأن الحفاظ على التحالف مهم، خاصة خلال الأيام الصعبة التي تمر بها تركيا، بعد الزلزال”.
لماذا خرجت وعادت؟
عودة ميرال أكشينار لتحالف الطاولة السداسية، ليس مرجعها الوحيد القناعة بأبعاد وجهة النظر الداعمة لترشيح كليجدار أوغلو، وفق ما سمعته من عمدتي أنقرة وإسطنبول قبل الذهاب إلى لقاء التحالف وإعلان اسم مرشحه رسميًا، لكنها تعرضت أيضًا لضغوط داخل حزبها “الجيد” والتهديدات المباشرة بتقديم استقالات جماعية (وصلت وفق تقديرات إلى 70 ألف شخص من القواعد التصويتية)، حال إصرارها على الاستقالة من التحالف، التي “تضر بمصالح المعارضة، قبل شهرين فقط من الانتخابات”، فيما قال مستشار سياسات الشرق الأوسط في الحزب، بولنت غورصوي، قبل استقالته: “قرار أكشينار يقضى على آمال المجتمع قبل انتخابات تعد حاسمة لمستقبل تركيا”.
وقبل عودة ميرال أكشينار، أكد حزب “الديمقراطية والتقدم” بزعامة علي باباجان: “لم يضطر أي حزب إلى تبني موقف لا يقبله موقفه السياسي وقاعدته الحزبية، ومن الواضح أنه في مثل هذا الأسلوب القائم على الاحترام المتبادل، لن يكون هناك فرض للعبارات الاتهامية التي لا تعكس الحقيقة ولا تستند إلى الفطرة السليمة وتفتقد إلى اللياقة، لم تكن صحيحة”.
كما قال رئيس حزب “المستقبل” أحمد داود أوغلو: “مشروع السلام الاجتماعي لا يعرف الحسابات السياسية، وتحالف الأمة، فوق كل الحسابات السياسية، إذا فاز المرشح الرئاسي، فإن الفطرة السليمة ستسود.. تحالفنا هو للوطن وليس لرئاسة شخص، أو سلطة حزب أو تحالف مجموعة أحزاب، بل مشروع اجتماعي يستمد قوته من ضمير وطني عميق وتراكم وخبرة قرنين من التاريخ السياسي”.
المعركة ليست سهلة
عقّب أردوغان على تطورات تحالف الطاولة السداسية، قائلًا: “جلسوا وتحدثوا وتفرقوا.. ليفعل هؤلاء ما يفعلون، نحن، تحالف الشعب، حددنا هدفنا وطريقنا ونواصل السير في الطريق نحو تحقيق الهدف، نعيش كارثة حقيقية ونحن نعمل على إنقاذ حياة الناس وتأمين احتياجاتهم بينهما هؤلاء يتصارعون على المناصب، نحن نجري التقييمات اللازمة، وبعد هذه التقييمات سنتخذ قرارنا، ليست لدينا مشكلة في جمع الأحجار المتساقطة الآن، قلنا منذ شهور إن هذا سيحدث.. انظروا، نحن في كارثة حقيقية نعمل لإنقاذ حياة الناس، بينما هم يتصارعون على المناصب.. في لحظة التشتت هذه عقدت اجتماعات مع نحو 110 علماء ووزراء مفوضين من حزبنا لبحث عملية بناء المناطق المدمرة، لأننا في كارثة عميقة”.
الحسابات الانتخابية في معسكري السلطة والمعارضة التركية، لن تكون سهلة، ليس فقط للمؤثرات التي تتقاطع معها، أو لكونها أشد تعقيدًا من نتائج استطلاعات الرأي
ربما كانت مهمة أردوغان أكثر سهولة بعد انسحاب زعيمة حزب الجيد ميرال أكشينار من تحالف الطاولة السداسية، لكن بعد عودتها ومؤشرات التقارب التي يبديها حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، سيكثف حزب العدالة والتنمية جهوده، خلال الحملة الانتخابية، لتذكير الأتراك بالمكتسبات الداخلية والخارجية التي تمت خلال الـ20 عامًا الماضية ورؤيته للمستقبل، مع الاعتماد خلال الحملة الانتخابية على الشخصية الكاريزمية للرئيس أردوغان الذي سيصدر الجمعة المقبلة 10 مارس/آذار المرسوم الرئاسي لإجراء الانتخابات بعد 60 يومًا، حتى تبدأ اللجنة العليا للانتخابات مهامها، لاحقًا.
ويبقى أن الحسابات الانتخابية في معسكري السلطة والمعارضة التركية، لن تكون سهلة، ليس فقط للمؤثرات التي تتقاطع معها أو لكونها أشد تعقيدًا من نتائج استطلاعات الرأي (بغض النظر عن نسبة العينات التي تعتمد عليها) في ضوء تعدد خيارات الناخبين وأمزجتهم وتكتيكات الحملات الانتخابية وقدرة المرشحين على جذب شرائح أكبر من الناخبين، بحكم طبيعة الخطابين السياسي والإعلامي، والمؤكد أن ما بعد الانتخابات المقبلة، ليس كما بعدها، على كل الأصعدة.