قبل شهر من اليوم استيقظ سكان تركيا وسوريا على زلزال كارثي، بلغت قوته 7.7 درجة على مقياس ريختر، وامتدت هزاته إلى لبنان ومصر وقبرص واليونان، حصد في البلدين أكثر من 52 ألف روح، (46104 في تركيا و5914 في سوريا)، فيما شرد الملايين ما بين نازح ولاجئ ومهاجر، ليصبح بذلك أحد عنف الزلزال على مرّ التاريخ.
أحدث هذا الزلزال الذي وصُف بأنه أحد أقسى الكوارث التي شهدتها تركيا بحسب تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، جرحًا عميقًا في المجتمع التركي، فيما زاد من معاناة سكان الشمال السوري الذين يعانون في الأصل من تبعات النزاع مع نظام بشار الأسد الممتد طيلة 12 عامًا الماضية والانتهاكات الشنيعة التي تمارسها ميليشياته بحق أبناء الوطن.
وبعد مرور شهر على الكارثة، بدأت ملامح الصورة العامة تتضح أكثر فأكثر، عاكسة العديد من الرسائل والدلائل التي يمكن الاستناد إليها لبناء قاعدة راسخة في التعامل مع مثل تلك الأحداث التي خرجت في كثير من منحنياتها عن مسارها الإنساني البحت لتقدم عشرات الدروس المستفادة الواجب وضعها تحت مجهر الاهتمام فيما هو قادم.
الأرقام تعكس حجم المأساة
الإحصائيات الرسمية الصادرة بحق تداعيات الكارثة تعكس وبشكل كبير حجم المأساة التي لم يشهدها الأتراك منذ عقود طويلة، فمعظم العقارات في مدينتي هاتاي وكهرمان مرعش انهارت بالكامل، يصل عددها وفق بعض التقديرات 214 ألف مبنى وما زال العدد مرشحًا للزيادة في ظل استمرار النشاط الزلزالي وتصدع الكثير من البنايات، الوضع كذلك في الشمال السوري خاصة مناطق سلقين وجنديريس وحارم وبسينا والدانا التي أصبحت وفق المسميات الإغاثية “مناطق منكوبة”.
وأحدث الزلزال ضررًا بما يقارب 14 مليون شخص داخل الأراضي التركية، بما يمثلون قرابة سدس عدد السكان، نظير أكثر من 5 ملايين شخص في سوريا، ووفق تصريحات الرئيس التركي فإن 3.3 مليون شخص أجبروا حتى الآن على مغادرة منطقة الزلزال، بينما يقيم 1.4 مليون شخص في خيم ونحو 46 ألفًا في حاويات، فيما استقر الباقون في مهاجع ودور ضيافة.
الأطفال كذلك كان لهم نصيب الأسد من تداعيات الكارثة، فرغم عدم وجود تقديرات رسمية عن عدد الضحايا من صغار السن، فإن الآلاف منهم قتلوا تحت الأنقاض بحسب منظمة “اليونيسيف” التي حذرت في الوقت ذاته من أن أكثر من 7 ملايين طفل (4.6 مليون طفل في الولايات العشرة التي ضربها الزلزال في تركيا و2.5 مليون طفل في شمال سوريا) بحاجة إلى دعم إنساني عاجل.
وعلى المستوى الاقتصادي، أشار البنك الدولي في تقديراته إلى أن الزلزالين المدمرين كلفا 34.2 مليار دولار من الأضرار المادية، أو نحو 4%من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2021، فيما قدّر اتحاد الشركات والأعمال في تركيا حجم الأضرار بـ84 مليار دولار، أو ما يعادل 10% من الناتج الإجمالي للبلاد، ورفعت مجموعات أعمال وخبراء اقتصاديون تقديرات كلفة إعادة البناء إلى 100 مليار دولار.
وفي سوريا، قدر تقرير للبنك الدولي الأضرار المادية المباشرة في سوريا بنحو 5.1 مليارات دولار أميركي، أي حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي، مشيرًا إلى أن تقديرات إجمالي الأضرار المباشرة باستخدام تكاليف الاستبدال تتراوح بين 2.7 و 7.9 مليار دولار أميركي. فيما ذكرت “مجموعة عمل اقتصاد سوريا” أن الشمال السوري وحده يحتاج إلى 10 مليارات دولار أمريكي لإعادة الإعمار.
الصور والمقاطع المرئية التي نقلت ووثقت مشاهد الزلزال وتفاصيله الضيقة تكشف وبشكل لا يحتاج عناء التقييم عن كارثة مروعة أحلت بالشعبين التركي والسوري، وربما الوضع أكثر مأساوية على المستوى السوري الذي وقع بين فكي كماشة المواءمات والحسابات السياسية من جانب وانهيار البنية التحتية من جانب آخر.
التسييس.. آفة الكوارث الكبرى
في الوقت الذي توقع الجميع أنه لا صوت يعلو فوق صوت الإنسانية أمام هذا المصاب الجلل، كان التسييس حاضرًا في المشهد بقوة، وكعادة أصحاب الأجندات والتوجهات، أنظمة وحكومات وأفراد، فرض توظيف الحدث نفسه لخدمة توجهات وفئات وكيانات بعينها، حاولت قدر الإمكان الخروج بأكبر قدر من المكاسب.
فعلى المستوى التركي، وبعد ساعات قليلة من وقوع الزلزال، سلط قادة المعارضة سهام نقد لاذعة للحكومة التركية تحت ذريعة أن هناك أفضل مما كان، لتأخذ الأزمة مسارًا آخر، حتى قبل أن تجف دماء الضحايا، فها هو زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، كمال كيليجدار أوغلو (مرشح تحالف المعارضة لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة) سارع إلى تحميل أردوغان مسؤولية ما حدث، معلقًا بقوله: “إذا كان هناك شخص مسؤول عن هذا بشكل رئيسي، فهو أردوغان”، مضيفًا “خلال 20 عامًا، هذه الحكومة لم تعد البلاد لزلزال”، الموقف ذاته اتخذه رئيس حزب النصر المعارض أومت أوزداغ، ورئيس حزب الوطن محرم إنجة.
وتشير كل التقارير الإعلامية والسياسية، داخل تركيا وخارجها، إلى أن زلزال كهرمان مرعش سيكون ورقة انتخابية محورية في الانتخابات الرئاسية المزمعة في مايو/آيار المقبل، وهو ما بدأت إرهاصاته مبكرًا من خلال الحملة التي قادها كليجدار وطاولته السداسية مع الساعات الأولى من وقوع الكارثة، ويتوقع أن تستمر حتى إسدال الستار على هذا الماراثون، ويتوقف الأمر هنا على قدرة الحكومة الحاليّة على تقليل حجم الخسائر قدر الإمكان وسرعة معالجة الوضع وفق الإستراتيجية التي أعلنتها مؤخرًا والخاصة بحملة إعادة إعمار ربما تكون الأكبر في تاريخ تركيا.
وعلى المستوى السوري، لم يجد بشار الأسد فرصة كتلك لتوظيفها بما يخدم أجنداته ويكسر العزلة الدولية المفروضة عليه منذ سنوات، حيث مارس كل أنواع الابتزاز والضغوط على المجتمع الدولي والإقليمي لعبور المساعدات الإغاثية لمنكوبي الزلزال من خلاله فقط، محاولًا الخروج من شرنقة الحصار ولو على جثث وأشلاء السوريين في الشمال، وبالفعل نجح في تحقيق أهداف جيدة في هذا المسار، وساعدته في ذلك بعض الحكومات الإقليمية كمصر والجزائر والإمارات، سواء عن طريق إرسال مساعدات للنظام هناك أم القيام بزيارات لدمشق، وهو ما دفع بعض المحللين للإشارة إلى أن الزلزال قد يكون الجسر الأكبر والأنسب للأسد للعودة للحضن العربي مجددًا.
ازدواجية المجتمع الدولي
فضح الزلزال بعد أن هدأت العاصفة ازدواجية المجتمع الدولي إزاء التعاطي مع القضايا المختلفة، فالشعارات التي اعتاد رفعها في مثل تلك الكوارث والخاصة بضرورة تغليب البعد الإنساني وطي الخلافات السياسية وتنحية أي أبعاد أخرى جانبًا لم تكن إلا مغازلة دعائية لا تمت للواقع بصلة.
فبينما تُبكي مشاهد المنكوبين والضحايا تحت الأنقاض أعين الجميع، ويصم صراخ الأطفال الفارين من الموت آذان العالم، وتخلع مقاطع الهدم والتخريب ومعاناة المخيمات والخيمات والملاجئ قلوب القاسين، التزم المجتمع الدولي بشتى أطيافه وتياراته الصمت، معللًا ذلك بعرقلة نظام الأسد لمرور المساعدات الإغاثية.
هذا المجتمع الذي يشكل نخبة قوى العالم الاقتصادية والسياسية ونجح في إدخال الأسلحة والمعدات الثقيلة لأوكرانيا على مدار عام كامل رغم وقوعها تحت الاستهداف الروسي، يزعم أنه لم يستطع إدخال المساعدات العاجلة للمنكوبين في شمال السوري، هذا الإقليم الذي زاره رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي قبل أيام بكل أريحية دون عوائق.
ورغم اللوحة الإنسانية الرائعة التي قدمها العرب والمسلمون، حكومات وشعوب، يبدو أن الآثار المدمرة التي خلفها الزلزال في شمال سوريا تحديدًا (حيث تهدمت معظم الأبنية وتصدع الباقي، وتعطلت جل الأجهزة والخدمات، وتوقفت المرافق العامة ومعها المدارس والجامعات والمشاريع الخدمية، أي باختصار توقفت الحياة بشكل شبه كامل، ليجد أكثر من 5.5 مليون سوري (منهم 2.5 مليون طفل) من سكان الشمال مصيرهم المحتوم)، لم تحرك ساكنًا لدى الغرب الذي استنهض قواه ولملم أوراقه ورقع ثقوب الخلافات بين أعضائه نصرة لحليفه في خاصرته الشرقية، ليسقط القناع الذي ارتدته أوروبا وأمريكا طويلًا وخُدع به الكثيرون في البلاد العربية ومنطقة الشرق الأوسط.
دبلوماسية الكوارث.. رسالة إنذار إنسانية
حقق الزلزال ما لم تحققه الجهود الدبلوماسية والسياسية المبذولة من سنوات، ونجح في كتم الخلافات البينية وطي صفحات الخصومة بين الدول، حيث أسفر الدعم الدولي لأنقرة في مواجهة تلك الكارثة عن فتح صفحات جديدة في علاقاتها ببعض البلدان التي تعاني من توتر واضح في العلاقات معها، وعلى رأسها اليونان ومصر وألمانيا والولايات المتحدة، وهو ما تترجمه التصريحات الإيجابية بين مسؤولي تركيا ونظرائهم في تلك البلدان.
ومن رحم تلك الدبلوماسية، دبلوماسية الكوارث، لا بد أن يكون هناك طرح جديد، يقتضي إعادة نظر في التعامل الدولي مع الكوارث الطبيعية التي تتعرض لها الدول والمجتمعات، بحيث يتم تغليب البعد الإنساني على الأبعاد الأخرى كافة، وأن يتم الانتصار ولو بالقوة لإغاثة المنكوبين في مواجهة أي طرف يريد توظيف الكارثة لحسابات سياسية.
فما شهده الشمال السوري من ابتزاز رخيص وضغوط دولية متبادلة بين الغرب ونظام الأسد فضح بشكل واضح مزاعم الإنسانية، الأمر الذي أخرج العديد من الأصوات التي طلبت بأن يكون لتلك الأحداث خصوصية مختلفة في التعامل، فالانتصار هنا لحياة الإنسان قبل المناصب والمكاسب السياسية والخلافات بين الدول والكيانات.
فما بين فريق يصر على منح نظام الأسد قبلة الحياة من خلال كسر العزلة وآخر ينتظر موافقته لتقديم يد العون للمنوكبين، يقبع الملايين من المكلومين في الشمال السوري ضحايا هذا الجدل الذي إذا لم يحسم في أسرع وقت سيخرج الوضع عن إطاره الضيق وسط احتمالية تكرار السيناريو ذاته في مناطق أخرى تعاني من الوضعية ذاتها في آسيا وإفريقيا.