ترجمة وتحرير: نون بوست
خلُصت لجنة تحقيق في سرقة 2.5 مليار دولار من حساب مصرفي حكومي عراقي إلى أن مكتب رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي كان له دور فعّال في المؤامرة، وذلك حسب ما كشفه تقرير اطلع عليه موقع “ميدل إيست آي” حصريًا.
تشكلت لجنة تقصي الحقائق البرلمانية في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر بعد أن أصبحت الجريمة التي تصفها وسائل الإعلام العراقية بـ “سرقة القرن” علنيةً، وهي تضم نوابًا من مختلف الفصائل السياسية ومكلّفة باكتشاف حيثيات هذه السرقة والمتورطين فيها.
قدّمت اللجنة تقريرها النهائي في نهاية الأسبوع حيث كشفت أن عددًا من أعضاء فريق رئيس الوزراء السابق “سهّلوا السرقة” أثناء توليهم مناصبهم وساعدوا في تهريب الأموال المنهوبة إلى خارج البلاد. ومن أبرز المتورطين ثلاثة أعضاء من مكتب الكاظمي، وهم مدير المكتب ورئيس المخابرات رائد جوحي، والسكرتير الخاص أحمد نجاتي، والمستشار السياسي مشرق عباس، إلى جانب وزير المالية السابق علي علاوي، الذين نفوا جميعهم الاتهامات الموجهة إليهم.
يوم الجمعة، صدرت مذكرات اعتقال بحق المسؤولين الأربعة بتهمة “تسهيل اختلاس أموال الودائع الضريبية”، وتلقت السلطات تعليمات بمصادرة أصولهم. وقد صدرت هذه المذكرات “بعد ظهور أدلة جديدة تشير إلى تورط مسؤولين آخرين في الحكومة السابقة”، حسب بيان صادر عن هيئة النزاهة الاتحادية التي أنشأت اللجنة. كما يجري البحث عن تاجرين كويتيين من أصل عراقي كانا مقربين من علاوي.
ندد الكاظمي، الذي كان رئيسا للوزراء بين أيار/ مايو 2020 وتشرين الأول/ أكتوبر 2022 قبل أن يحل محله محمد شياع السوداني، بهذه الاتهامات. وقال إن التحقيق “يفتقر إلى حدود الاستقلالية المقبولة ويشير إلى نهج سياسي منفتح في استهداف وإنهاء كل من له علاقة بالعمل مع الحكومة السابقة”. واتهم الكاظمي التحقيق باستهداف بعض الأشخاص قصد التستر على “المجرمين الحقيقيين”.
تجاهل التحذيرات
مع أن بيان هيئة النزاهة الاتحادية الصادر يوم الجمعة لم يكشف عن أي تفاصيل عن أدلة جديدة، إلا أن تقرير لجنة التحقيق يفعل ذلك. وقد وجدت اللجنة أنه تم سحب ما مجموعه أربعة تريليونات دينار عراقي “أو ما يعادل 3 مليارات دولار” من مصرف الرافدين المملوك للدولة، وذلك من خلال 260 شيكًا موزعةً على سبع شركات خاصة بين أيلول/ سبتمبر 2021 وآب/ أغسطس 2022.
ووجدت اللجنة أن خمس من الشركات السبع تأسست حديثا وليس لديها سجلات ضريبية، وتم شراء الشركتين المتبقيتين من قبل المتهمين “بهدف استكمال السرقة”. وورد في التقرير “لم يكن لدى أي من الشركات إذن قانوني من المالكين الفعليين للودائع لسحبها، رغم مطالبتهم بذلك”.
وكانت الأموال المسروقة عبارة عن أموال دفعتها الشركات مقدمًا مقابل الالتزامات الضريبية المستقبلية. في السابق، كان ديوان الرقابة المالية الاتحادي، وهو هيئة مراقبة الإنفاق العام في العراق، يشرف على طلبات استرداد الودائع الضريبية. لكن قبل أسابيع قليلة من بدء عملية السرقة، تم إجراء تغيير للسماح بسحب الأموال دون إذن ديوان الرقابة المالية الاتحادي.
جميع المعلومات التي كشفت عنها التحقيقات حتى الآن تشير إلى أن التخطيط للسرقة بدأ في وقت ما بين سنتي 2018 و2020
قالت لجنة التحقيق إن “المراسلات الرسمية” المحيطة بهذا التغيير وصفت بأنها مفتاح السرقة. ويذكر التقرير أسماء رئيس اللجنة المالية النيابية السابق والمستشار المالي لرئيس الحكومة السابق هيثم الجبوري، والمدير العام السابق للهيئة العامة للضرائب سامر عبد الهادي، والمدير السابق لمكتب التحقيقات في هيئة الضرائب كريم بدر الغازي، وكذلك جوحي وعلاوي، اللذان شاركا في هذه المناقشات.
تتوافق استنتاجات التحقيق مع تقرير موقع “ميدل إيست آي” في تشرين الثاني/ نوفمبر حول كيفية تنفيذ السرقة والمتورطين المشتبه بهم. وقال مسؤول كبير بوزارة المالية إن ديوان الرقابة المالية الاتحادي سبق أن أفاد بأن الودائع الضريبية في الحساب معرضة للخطر وحاول التحذير من أن الناس قد يحاولون استخراج هذه الأموال بشكل غير قانوني. ومع ذلك، لا يبدو أن أحدا قد أخذ هذه التحذيرات على محمل الجد.
وبدلاً من ذلك، أصبحت تقارير ديوان الرقابة المالية الاتحادي “المفتاح الرئيسي” الذي سمح للمؤامرة بالتطور – على حد تعبير المسؤول الذي أضاف أن “الوحيدين الذين استجابوا للتحذيرات هم اللصوص الذين استرشدوا بهذه التحذيرات إلى موقع الأموال وآليات الوصول إليها وسرقتها”.
تبديل الحسابات
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، أرسل ديوان الرقابة المالية الاتحادي نتائج المراجعة التي أجراها على الودائع الضريبية لسنة 2015 و2016 والأشهر الأربعة الأولى من سنة 2017 إلى مكتب رئيس الوزراء والهيئة العامة للضرائب.
وتضمنت المراجعة العديد من الملاحظات أبرزها كيفية تراكم عدد كبير من الودائع الضريبية في حساب واحد، وأن إجراءات رد الودائع كانت معيبة ويمكن التلاعب بها. ووجد ديوان الرقابة المالية الاتحادي أن أكثر من 4.9 تريليون دينار (حوالي 4 مليارات دولار) من الودائع الضريبية متراكمة في حساب مصرفي مملوك للهيئة العامة للضرائب في فرع الأحرار ببنك الرافدين.
طالب ديوان الرقابة المالية الاتحادي دائرة المحاسبة بوزارة المالية بمعالجة مواطن الضعف. وفي أيلول/ سبتمبر 2018، فيما بدا أنه محاولة لحل المشكلة، أنشأت الهيئة العامة للضرائب حسابًا مصرفيًا جديدًا في فرع الضرائب في مصرف الرافدين “لإيداع المبالغ المستلمة كإيداعات ضريبية”. وأطلق على الحساب الجديد اسم “إدارة كبار دافعي الضرائب”.
كشف التقرير أن الخطة كانت تهدف إلى تجميد الحساب القديم تمهيدًا لإغلاقه نهائيًا بعد ستة أشهر، “وهو أمر لم يتم التقيد به خلافًا لما حددته توجيهات دائرة المحاسبة”. وقامت الهيئة العامة للضرائب بتحويل أكثر من أربعة تريليونات دينار من الحساب القديم إلى الحساب الجديد، الذي كان يديره مدير هيئة الضرائب عبد الهادي، حيث تم التحويل على شكل مدفوعات بدأت في آب/أغسطس 2018 وانتهت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. وأشارت اللجنة إلى أن الأموال تدفقت مرة أخرى إلى هذا الحساب الجديد حيث تمت سرقتها.
أخبر مسؤول عراقي رفيع مطلع على التحقيقات موقع “ميدل إيست آي” بأن “جميع المعلومات التي كشفت عنها التحقيقات حتى الآن تشير إلى أن التخطيط للسرقة بدأ في وقت ما بين سنتي 2018 و2020″، مشيرًا إلى أن “شبكة المتورطين واسعة وتضم قادة سياسيين وقادة فصائل مسلحة ومسؤولين كبار سابقين وحاليين، لكن الاسم الذي تكرر في كل مرحلة من مراحل التحقيق هو رائد جوحي”، وأضاف بأنه “من الغريب أن جميع الأسماء الأخرى إما تؤدي إليه أو ترتبط به بطريقة أو بأخرى”.
صلاحيات واسعة
لم يحدد تقرير اللجنة بالضبط الدور الذي يُزعم أن جوحي لعبه في هذه العملية، لكنه وصف مكتب رئيس الوزراء بأنه أحد الأطراف الرئيسية المتورطة في السرقة. كما أورد أن المكتب اتصل بمسؤولي وزارة المالية ومديري هيئة الضرائب وفروع البنوك ذات الصلة دون الرجوع إلى وزير المالية علاوي، وأصدر تعليمات “للجهات المعنية بشطب ديوان الرقابة المالي الاتحادي من طلبات التدقيق الخاصة برد الودائع الضريبية”. وورد اسم جوحي في التقرير على عدة مراحل.
عُيِّن جوحي، الذي اشتهر كرئيس لقضاة التحقيق خلال محاكمة صدام حسين، مفتشًا عامًا لوزارة المالية في أيار/ مايو 2019 من قِبل رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي، وشغل المنصب حتى ألغاه البرلمان العراقي في تشرين الأول/أكتوبر. لكن الكاظمي أعاده إلى الواجهة بعد تسعة أشهر بتعيينه مديراً لمكتبه. وقال عضو سابق في فريق الكاظمي لموقع “ميدل إيست آي” إنه مُنح صلاحيات “واسعة جدًا”.
لم يتمكن المحققون من الوصول إلى الموسوي أو جوحي
يفصّل التقرير كيف وجدت التحقيقات أن علاء خلف مران، السكرتير الخاص لجوحي، كان يرافق بانتظام رجل الأعمال نور زهير جاسم، المشتبه به الرئيسي بالسرقة، في رحلاته الخارجية على متن طائرة زهير الخاصة على مدار العامين الماضيين. وكشفت سجلات هيئة الطيران المدني، التي اطّلعت عليها لجنة تقصي الحقائق، أن مران وزهير كانا في الغالب برفقة شخص ثالث وهو اللواء ضياء الموسوي، مدير العمليات في جهاز المخابرات.
عيّن الكاظمي، الذي ظل رئيسًا للمخابرات خلال السنتين الأوليتين من رئاسته للوزراء، جوحي خلفًا له في الوكالة في تموز/ يوليو 2022. ولم يكن لدى جوحي خلفية ملحوظة في المخابرات. ووجدت اللجنة أن مران كان أيضًا صديقًا لمدير قسم التحقيقات في هيئة النزاهة كريم بدر الغازي، وقال غازي للجنة إن مران دعاه وزهير في عدة رحلات.
صدرت مذكرة توقيف بحق الموسوي في تشرين الثاني/ نوفمبر “لتورطه في تسهيل تهريب أموال مسروقة إلى خارج العراق”. ولم يتمكن المحققون من الوصول إلى الموسوي أو جوحي، وأبلغهم جهاز المخابرات الوطني أن الأول “هرب من العراق” وأن الأخير “تم نقله”. وقالت اللجنة إنه رغم مطالبتها المتكررة بالحصول على أي تفاصيل عن جوحي، لم تكشف المخابرات عن مكانه الجديد أو سبب صدور أمر إداري بنقله.
نكتة القرن
وجدت لجنة تقصي الحقائق أن زهير كان يحمل جواز سفر دبلوماسيًا صادرًا عن الخارجية العراقية يحمل لقب “رجل أعمال”، كما قالت إنه تم إصدار مذكرتي توقيف وحظر سفر بحقه في تشرين الأول/أكتوبر 2019 وكانون الأول/ ديسمبر 2020 بزعم إصدار شيكات من دون رصيد. وذكر التقرير أنه “مع ذلك، فهو غير مسجل في قاعدة بيانات المطلوبين”، الأمر الذي سمح له بإجراء 21 رحلة جوية أجنبية على متن طائرته الخاصة في سنتي 2021 و2022.
نور زهير المطلوب كان يحمل جواز سفر دبلوماسيًا وكان يرافقه ضابط مخابرات رفيع المستوى أو مسؤول من مكتب رئيس الوزراء في كل رحلة
قال مسؤول عراقي بارز مطلع على التحقيقات لموقع “ميدل إيست آي” إن السلطات العراقية ألقت القبض على زهير في مطار بغداد الدولي في تشرين الأول/أكتوبر، وصادرت منه فيما بعد نحو 182 مليار دينار (125 مليون دولار)، لكن قاضي التحقيق أفرج عنه بكفالة بعد إبرام صفقة لإعادة الأموال التي في حوزته وتسمية مشتبه بهم آخرين. وتجدر الإشارة إلى أن الموقع قد حاول سابقًا الاتصال بزهير.
وقال المسؤول العراقي “صُدمتُ عندما قرأتُ نتائج التحقيقات، هذه نكتة القرن وليست سرقة القرن”. وأضاف أن “نور زهير المطلوب كان يحمل جواز سفر دبلوماسيًا وكان يرافقه ضابط مخابرات رفيع المستوى أو مسؤول من مكتب رئيس الوزراء في كل رحلة”، مشيرًا إلى أن “التفسير الوحيد لذلك هو أنه حوّل الأموال بهذه الطريقة باستخدام طائرته الخاصة. لا يوجد تفسير آخر”.
المصدر: ميدل إيست آي