قالت صحيفة The Financial Times البريطانية، في تقرير لها، السبت 4 مارس/آذار 2023، إن التصريحات التي أدلى بها وزير الاستثمار في السعودية خالد بن عبد العزيز الفالح، بشأن تطبيق إعفاءات ضريبية على الشركات متعددة الجنسيات التي تنقل مقارها للمملكة، يأتي في إطار رسائل الطمأنة التي تبعث بها الرياض لحث تلك الكيانات الاقتصادية الكبرى على توسيع نشاطها داخل السعودية وإزالة أي مخاوف بشأن فرض ضرائب متصاعدة.
يأتي هذا التصريح في وقت تهرول فيه السعودية لجذب أكبر عدد ممكن من الشركات متعددة الجنسيات قبل نهاية هذا العام، تنفيذًا للخطة الرامية إلى تقليل الاعتماد على عائدات النفط، من خلال التحول إلى مركز للتجارة والتمويل، وقد بلغ عدد الشركات التي أصدرت لها المملكة تراخيص لتدشين مقار لها في حي الملك عبد الله المالي بالرياض، نحو 80 شركة، بحسب الصحيفة البريطانية، منها: “يونيليفر” البريطانية و”سيمنز” الألمانية، ومؤخرًا شركة “بيبسي” التي نقلت مقرها الرئيسي خلال هذا الشهر.
ومنذ إعلان الدولة النفطية الخليجية عن هذا التوجه في عام 2021، دخلت العلاقات مع الجار الإماراتي نفقًا مطولًا من التوتر، حيث يتخوف أبناء زايد من سحب البساط من تحت أقدام دبي كمركز تجاري عالمي هو الأكبر في الشرق الأوسط، ما اعتبروه تهديدًا كبيرًا لثقلهم الإقليمي والدولي المبني في الأساس على هذا المرتكز الاقتصادي المهم.
ورغم جهود التكتيم على الخلافات المتصاعدة تباعًا بين المملكة والإمارات، إزاء العديد من الملفات، حفاظًا على وحدة الصف في مواجهة التحديات الراهنة، فإن التصريح الأخير لوزير الاستثمار السعودي وهرولة الشركات العالمية لنقل مقارها الإقليمية من دبي إلى الرياض، قد ينقل هذا التوتر الدفين من السرية إلى العلن في ضوء حزمة من المؤشرات الأخيرة التي وضعت هذا الملف على طاولة النقاش والبحث بعدما كان أمرًا غير قابل للنقاش.
مؤشرات وإرهاصات التباعد
في تحليل لهما منشور في صحيفة “وول سترتيب جورنال” في 3 مارس/آذار الحاليّ، كشف الصحفيان، سمر سعيد وستيفن كلين، عن تصاعد التوتر بين السعودية والإمارات، الذي كان من أبرز مؤشراته ما أسماه “الغياب الصارخ” لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، عن قمة قادة الشرق الأوسط التي احتضنتها أبو ظبي في 18 يناير/كانون الثاني الماضي، وشارك فيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والشيخ محمد بن زايد رئيس الإمارات والسلطان هيثم بن طارق سلطان عمان والملك حمد بن عيسى ملك البحرين والشيخ تميم بن حمد أمير قطر والملك عبد الله الثاني ملك الأردن.
وكان الغياب قد تكرر قبل ذلك في قمة العلمين التي استضافتها مصر في 23 أغسطس/آب 2022 وحضرها قادة الإمارات والبحرين والأردن، التي كان على رأس جدول أعمالها مناقشة الجهود الرامية لترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة، وكان ولي العهد السعودي على رأس الحضور وفق بعض وسائل الإعلام، لكنه لم يحضر.
المنافسة الاقتصادية وصراع الريادة بين الدولتين في المنطقة قد تكون المعركة الأشرس، التي لا تجدي معها شعارات التكتم والمداراة وغيرها من الاعتبارات التي حالت دون خروج المسكوت عنه في مسار التوتر بينهما خلال الفترات الماضية
وفي المقابل تغيب قادة الإمارات عن القمة الصينية العربية التي عقدت في الرياض 9 ديسمبر/كانون الأول 2022، بحضور الرئيس الصيني شي جين بينغ، ومشاركة واسعة من القادة والمسؤولين العرب، التي ترأسها محمد بن سلمان.
وترى الصحيفة أن ولي العهد السعودي وقادة الإمارات يحاولون الابتعاد عن قصد عن الأحداث التي يوجد فيها الطرف الآخر، لافتة أن مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد آل نهيان، وهو المقرب من ابن سلمان، سافر أكثر من مرة إلى المملكة للقائه من أجل تخفيف حدة التوتر، لكنه فشل في ذلك، حسبما نقل عن بعض الأشخاص.
ملفات الخلاف
هناك عدة ملفات فاقمت التوتر بين البلدين خلال الآونة الأخيرة على رأسها الملف اليمني، حيث بدأت أبو ظبي في التحرك منفردة في مسار الحرب المندلعة منذ عام 2015، منتصرة لمصالحها الخاصة على حساب أجندة قوات التحالف بقيادة السعودية، وهو ما أثار حفيظة الأخيرة التي ارتأت أن جارتها الخليجية تهدد أمنها القومي لحساب مصالح خاصة.
ثم تأتي المصالحة مع قطر التي تمت عكس عقارب الساعة الإماراتية بشكل أو بآخر، وتغريد كل طرف في مسار تحالفي مختلف، فبينما سارت الرياض باتجاه الدوحة وأنقرة، تحركت أبو ظبي صوب تل أبيب والقاهرة، وهو ما تم تفسيره في إطار الخلافات البينية ومحاولة كل فريق البحث عن مصالحه بمعزل عن الآخر في ظل صراع النفوذ على التمدد الإقليمي بين البلدين.
وانتقل الخلاف من بعده السياسي إلى الاقتصادي، متجاوزًا التباين في وجهات النظر إلى الصدام المقنن داخل منظمة “أوبك” بقيادة السعودية، حيث اختلاف الرؤى بشأن حجم الإنتاج، فبينما تميل المملكة إلى ضبط عملية الإنتاج وتخفيضه حفاظًا على توازن الأسعار السوقية تميل أبو ظبي إلى عكس ذلك، بدعوى أن خفض الإنتاج يؤثر على عائداتها النفطية، وتشير بعض المصادر إلى ضغوط عدة مارستها الإمارات لزيادة الإنتاج لكنها قوبلت برفض سعودي، وهو ما أدى إلى تصادم بين الجانبين مرتين في أقل من عامين، الأول في يوليو/تموز 2021 والثاني في أكتوبر/تشرين الأول 2022.
هذا بخلاف الفجوة الكبيرة بين البلدين في مسار التحالفات الإقليمية، فالتغريد المنفرد لأبو ظبي على أنغام تل أبيب وتعزيز العلاقات بين البلدين لم يرق للمملكة رغم عدم معارضتها لذلك، إلا أن مزيدًا من الانخراط والتغلغل الإسرائيلي في قلب الخليج يقلق الرياض ويهدد أمنها وأمن المنطقة القومي، وهو ما لم تضعه الإمارات صوب عينيها.
الريادة الاقتصادية.. المعركة الأشرس
رغم أهمية الملفات السابقة في تعميق التوتر بين الرياض وأبو ظبي، فإنهما وضعاها في إطار تباين وجهات النظر القابلة للنقاش والجدال، حتى لو غرد كل طرف بمعزل عن الآخر وفق أجندته الخاصة، في حدود ضيقة تحافظ على تلاحم الجدار الخليجي وتماسكه في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية الراهنة.
إلا أن المنافسة الاقتصادية وصراع الريادة بين الدولتين في المنطقة قد تكون المعركة الأشرس، التي لا تجدي معها شعارات التكتم والمداراة وغيرها من الاعتبارات التي حالت دون خروج المسكوت عنه في مسار التوتر بينهما خلال الفترات الماضية، فالريادة الاقتصادية إقليميًا ليست مسألة هامشية ولا ثانوية بالنسبة للإمارات، التي تنظر إليها على أنها مرتكز الثقل الأبرز الذي لا يمكن التنازل عنه بسهولة، وهو الذي خاضت لأجله العديد من المعارك لوأد أي محاولات منافسة في الإقليم، ولعل ما فعلته في مشروع إقليم قناة السويس المصري خير شاهد على تلك الحرب التي لا تتوانى عنها الدولة الخليجية دفاعًا عن ثقلها الاقتصادي والتجاري.
يوقن القائمون على أمور السعودية أن الارتكان إلى النفط كمرتكز اقتصادي وحيد فيه مقامرة تهدد مستقبل المملكة، وأن تنويع المصادر هو الحل الوحيد للقدرة على مواجهة القادم والإعداد له بشكل عملي
وظلت الخلافات السياسية القائمة بين البلدين في إطارها الدافئ وطي الكتمان حتى منتصف فبراير/شباط 2021 حين أعلنت السعودية نيتها إيقاف التعاقد مع أي شركة أو مؤسسة تجارية أجنبية لها مقر إقليمي في المنطقة خارج المملكة، بدءًا من مطلع العام 2024، وهو ما اعتبرته الإمارات إعلان حرب اقتصادية بشكل غير رسمي.
منذ ذلك الوقت شن إماراتيون محسوبون على النظام هجومًا لاذعًا على الرياض، متهمين إياها بعدم أهليتها للقيام بهذا الدور، وأنها تمارس ضغوطها على الشركات العالمية لنقل مقارها بينما ترفض تلك الشركات ذلك، وقاد تلك الحملة رموز سياسية وأمنية إماراتية منهم الأكاديمي عبد الخالق عبد الله ونائب رئيس الشرطة الأسبق في دبي ضاحي خلفان تميم.
قد تقبل أبو ظبي التحرشات السعودية على المسار السياسي، في اليمن وليبيا وغيرها من الملفات الإقليمية، كما تقبل الهجوم بين الحين والآخر عليها بسبب تعاطيها مع ملف التطبيع وبعض القوى الإقليمية، لكنها لن تقبل أبدًا تهديد ريادتها الإقليمية اقتصاديًا، وإنهاء عصر دبي كمركز تجاري عالمي هو الأكبر في المنطقة، فهي الأرضية التي تستند إليها الإمارات في تعزيز نفوذها الإقليمي والدولي.
وعلى الجانب الآخر، يوقن القائمون على أمور السعودية أن الارتكان إلى النفط كمرتكز اقتصادي وحيد فيه مقامرة تهدد مستقبل المملكة، وأن تنويع المصادر هو الحل الوحيد للقدرة على مواجهة القادم والإعداد له بشكل عملي، ومن ثم فلا تنازل عن الريادة والمنافسة في ظل الطموح الذي يسيطر على ابن سلمان الذي يريد تقديم نفسه في صورة المصلح، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، حتى لو كان ذلك على حساب الجيران والحلفاء.
ومن هنا قد يشعل تصريح وزير الاستثمار السعودي ومن قبله بعامين الإعلان عن إيقاف التعاقد مع أي شركة أو مؤسسة تجارية أجنبية لها مقر إقليمي في المنطقة خارج المملكة، الأجواء بين الجارتين، الأمر الذي قد ينذر بخروج التوتر بينهما إلى العلن بعد سنوات من التكتم، فهل يعي النظامان هنا وهناك خطورة هذا التحول وتهديده للعلاقات التاريخية التي تربطهما ومن ثم مخاطره على تماسك الجسد الخليجي وقدرته على مواجهة التحديات الراهنة؟