تحدثنا في تقارير سابقة ضمن ملفنا “روسيا تتسلل إلى إفريقيا“، عن سعي الروس خلال العقد الأخير للتغلغل في القارة الإفريقية واستعادة الإرث السوفيتي هناك، بهدف العودة إلى ساحة الفعل الدولية والتصدي لمحاولة عزلهم من الغرب.
اعتمد نظام الرئيس فلاديمير بوتين العديد من الآليات لتحقيق أهدافه، منها العسكري والدبلوماسي فضلًا عن جوانب من القوى الناعمة، لكن المنافسة الشرسة من القوى التقليدية النافذة هناك عرقلت خطواته وحدت من تأثيره في الكثير من المناطق.
فضلًا عن المنافسة الغربية، هناك نقطة مهمة مثلت عقبة أمام توسع روسيا في القارة السمراء، وهي القوة المالية، التي تعد محددًا أساسيًا للعلاقات الدولية، وأبرز نقاط تفوق الغرب على حساب الروس في القارة الإفريقية.
هذه النقطة، ستكون محور هذا التقرير، ومن خلالها سنتعرف على القوة المالية الروسية ومدى تأثيرها على خطط موسكو للتغلغل في القارة الإفريقية والمساعي الروسية لتجاوز هذه المشكلة ومدى قدرتها على ذلك.
القوة المالية.. محدد أساسي للعلاقات الدولية
يُعرف كارل فريدريك، القوة على أنها “إنشاء علاقة تبعية بين طرفين يستطيع من خلالها الطرف الأول أن يجعل الطرف الثاني يفعل ما يريد، أي التصرف بطريقة تضيف إلى مصالح مالك القوة”، وتُعتبر قوة الدولة من العوامل التي يعلق عليها أهمية كبرى خاصة في ميدان العلاقات الدولية.
كانت القوة الصلبة الطاغية على العلاقات بين الدول، فاستعمال القوة العسكرية أو التهديد باستعمالها هو الأساس للتأثير في سلوك الدول والحصول على النتائج المرغوب فيها أو القدرة على فرض السيطرة على الآخرين.
نتيجة الأضرار الكبيرة لهذه القوة، توجهت العديد من الدول إلى استعمال القوة الناعمة التي أصبحت المعيار الأساسي للعلاقات بين الدول، والقوة الناعمة هي مفهوم صاغه جوزيف ناي من جامعة هارفرد لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع.
يوجد العديد من الأدوات للقوة الناعمة منها الثقافية والتعليمية والدبلوماسية أيضًا، فضلًا عن الاقتصادية التي تتمثل أساسًا في المنح والمساعدات والمشاريع التنموية التي تشرف عليها الدول بهدف تحقيق مصالحها لدى دول أخرى.
في السنوات الأخيرة، أصبحت القوة المالية أو الاقتصادية هي الطاغية في العلاقات بين الدول، إذ ترسم أبعاد الدور الذي تقوم به الدول القوية في المجتمع الدولي وتحدد إطار علاقاتها بالقوى الخارجية في البيئة الدولية.
استثمرت الدول الغربية كثيرًا في هذه القوة، وجعلتها الأداة الأبرز لـ”غزو” مستعمراتها السابقة – خاصة الإفريقية منها – بعد خروجها عسكريًا من هناك، تحت شعار المساعدات المالية لدعم الدول الفقيرة في جهود التنمية والنهوض باقتصاداتها.
تكون هذه المساعدات إما على هيئة منح وإما قروض ميسرة وإما استثمارات، ويدعي المانحون أن دوافعهم إنسانية، لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك، فالهدف من هذه المساعدات التحكم في الدول وقرارها السيادي.
تقدم هذه المساعدات بهدف خدمة المانحين واستثماراتهم كذلك، وليس خدمة مصالح الدول المتلقية، ودائمًا ما تكون المساعدات مرتبطة بشروط تُفرض على الدول المتلقية، فلا توجد مساعدات دون شروط مسبقة.
كما أشرنا، ركزت القوى الغربية على تقديم المساعدات للأفارقة رغم الثروات الباطنية الكثيرة التي تزخر بها القارة السمراء، ما جعل العديد من الدول الإفريقية مثل بوركينا فاسو ورواندا والصومال ومالي وتشاد وموريتانيا وسيراليون يعتمدون في تغطية نحو 70% من إجمالي نفقاتهم العامة على المساعدات الخارجية.
وتعاني العديد من الدول الإفريقية، خاصة منطقة القرن الإفريقي وغرب القارة، أزمات اجتماعية وصحية وغذائية وخطر المجاعة نتيجة أسباب عدة، ما يجعلها دائمًا بحاجة إلى المساعدات الدولية، فالملايين يواجهون خطر الموت.
تُمنح هذه المساعدات مباشرة عن طريق الحكومات إلى الحكومات الإفريقية، أو من خلال الهيئات التي تخدم مصالح دولها، كالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والوكالة الفرنسية للتنمية والمؤسسة الألمانية للتعاون الدولي والوكالة اليابانية للتعاون الدولي.
لا ننسى أيضًا تحكم الدول الغربية في البنوك العالمية كالبنك الدولي وصندوق النقد والبنك الأوروبي، وكلها أدوات للتحكم في القرار السيادي للدول عن طريق القروض والمنح التي يتم تقديمها لها.
لا توجد أرقام رسمية محيّنة لقيمة المساعدات الغربية المقدمة للدول الإفريقية، لكن تعد الولايات المتحدة الأمريكية أبرز المانحين للأفارقة، تليها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ومؤخرًا دخلت الصين واليابان وتركيا وبعض الدول الخليجية على الخط.
ضعف القوة المالية الروسية
أرادت موسكو مجاراة الدول الغربية في هذه النقطة، واستعمال القوة المالية لدعم جهود نظام بوتين الرامية إلى التغلغل في القارة الإفريقية، لكن أغلب جهودها باءت بالفشل، فالعديد من الوعود ما زالت معلقة، نظرًا لضعف الاقتصاد الروسي.
قدم الروس بعض المساعدات وأشرفوا على عدد من المشاريع التنموية التي تستهدف دولًا وجهات بعينها من أجل مد نفوذهم في إفريقيا، من ذلك المشاريع الاستثمارية في السودان وجنوبها وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتشاد وإثيوبيا وصولًا إلى مدغشقر.
وتمتلك شركة “رينوفا” الروسية استثمارات في مجال المعادن في الغابون وجنوب إفريقيا وموزمبيق بأكثر من مليار دولار، فيما تملك شركة “لوك أويل” استثمارات تبلغ مليار دولار في إنتاج النفط في غرب إفريقيا، أما شركة “غاز بروم” فتستثمر في مشروعات للغاز وبناء الأنابيب والبنية التحتية بمبلغ 500 مليون دولار في مختلف الدول الإفريقية.
رغم أهمية هذه الاستثمارات فإنها تبقى ضعيفة مقارنة بالاستثمارات الغربية في القارة الإفريقية، وعائداتها المالية لصالح موسكو، أي أن الأفارقة لا مصلحة عظمى لهم في أغلب هذه الاستثمارات، رغم أنها على أرضهم.
وفق تقرير الاستثمار العالمي لسنة 2020 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، فإن أكبر 5 مستثمرين في القارة الإفريقية هم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين، كما تسجل دول الخليج وتركيا حضورها بالقارة.
ضعف القوة المالية الروسية يظهر أيضًا في تواضع حجم الحضور الاقتصادي الروسي في القارة السمراء مقارنة بالدول الأخرى، إذ بلغ حجم التبادل التجاري ذروته سنة 2018 حين تجاوز 20 مليار دولار بقليل، وهو ما يعادل التعاملات التجارية لدولة مثل تركيا تجاه إفريقيا.
ولم تستغل روسيا بالدرجة الكافية إطلاق منطقة التجارة الحرة للقارة الإفريقية، التي توفر الكثير من العروض إلى جانب حقيقة أنها تخلق سوقًا موحدة تضم نحو 1.3 مليار شخص، كما مثلت هذه السوق إشارة إضافية للاعبين الأجانب للاستفادة من هذه الفرصة الجديدة في إفريقيا.
نتيجة ضعف قوتها المالية، ظلت العديد من الالتزامات التي أعلنت عنها روسيا تجاه دول القارة من أجل تنميتها، بما قيمته 11.2 مليار دولار، خلال القمة الروسية – الإفريقية الأولى، مجرد وعود ليس أكثر، إذ لم تشهد النور بعد.
في تلك القمة الأولى من نوعها، تم تحديد مجالات التعاون الاقتصادي ذات الأولوية التي يمكن من خلالها تحقيق نتائج ملموسة في وقت وجيز، وتشمل الطاقة وتطوير البنية التحتية والتعدين الحديث ومعالجة المعادن والزراعة والتكنولوجيا الرقمية والاستكشاف والعلوم والتعليم، لكن لم يحصل التقدم المطلوب.
تؤكد هذه المؤشرات أن روسيا تفتقر إلى القوة الاقتصادية للمنافسة وجهًا لوجه مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين، ووفقًا لبيانات البنك الدولي فالاقتصاد الروسي أصغر 9 مرات من اقتصاد الصين وأكبر قليلًا من اقتصاد إسبانيا.
رغم بلوغ الناتج المحلي نحو 1.7 تريليون دولار في عام 2021 و1.5 تريليون وفقًا لتقديرات البنك الدولي، وباحتياطي من النقد الأجنبي والذهب يبلغ نحو 630 مليار دولار، فإن روسيا ليست من الدول العشرة الأكبر عالميًا.
من المهم الإشارة إلى أن إجمالي الدين الخارجي الروسي الحكومي والخاص بلغ نحو 796 مليار دولار من بينها 489.2 مليار دولار ديونًا حكومية، وهو ما يحد من حركة الروس في القارة الإفريقية ويضعف خطواتها الاقتصادية هناك.
صعوبات التغلغل في إفريقيا نتيجة الضعف المالي
نتيجة ضعف إمكاناتها المالية، وجدت موسكو صعوبة في التغلغل في القارة الإفريقية، صحيح أنها تمتلك القوة الصلبة اللازمة لتدعيم نفوذها في دول القارة، خاصة مرتزقة فاغنر والأسلحة الرخيصة والتكنولوجيات الأمنية والعسكرية المتطورة إلا أن ذلك لا يكفي وحده.
الدول الكبرى تقرن قوتها الصلبة بالقوة الناعمة للتغلغل في الدول، الأمر الذي يفتقده الروس، لذلك نجدهم يركزون فقط على الدول التي تملك ثورات باطنية خاصة مناجم الذهب والألماس واليورانيوم للعمل فيها.
أي أنهم يبحثون عن مصالحهم فقط دون تقديم أي مصلحة للأفارقة، الأمر الذي يتصاعد رفضه في القارة، ما يعني أن الترحيب بموسكو الذي شهدته شوارع بعض العواصم الإفريقية، أمر مؤقت سرعان ما سينتهي إذا لم تجد الشعوب مصلحتها مع الروس.
لم يستطع الروس تقديم المنح ولا القروض الميسرة والمساعدات، وهو ما لا يحبذه الأفارقة، فاقتصادات العديد من الدول الإفريقية مبنية على المساعدات والقروض، ما يجعل الكفة تميل لصالح الدول الغربية في هذا الخصوص.
وتعاني روسيا من مشكلات عديدة نتيجة حرمانها من الاستفادة من نظام سويفت للتحويلات المالية، فضلًا عن العقوبات المفروضة على بنوكها المالية وشركاتها الدولية، التي بدأت سنة 2014 عقب ضم شبه جزيرة القرم وازدادت قوتها عقب شن موسكو حربًا على كييف في فبراير/شباط 2022.
كما فرضت وزارة الخزانة الأمريكية بالتنسيق مع شركائها الأوروبيين عقوبات على من تعدهم متورطين في زعزعة الاستقرار في إفريقيا، وعقوبات على البنوك الروسية الرسمية وشبه الرسمية والمستثمرين الأفارقة الذين يتعاملون معها، وهي خطوات أضعفت الروس.
المساعي الروسية لتجاوز هذا الضعف
لم يستسلم الروس لهذا الضعف، إذ يعكفون حاليًّا مع شركائهم الأفارقة على إعداد خطوات عدة لتدارك الأمر، أبرزها قمة ثانية على مستوى القادة تجمع الروس والأفارقة في يوليو/تموز المقبل لترسيم التوجهات الجديدة والدخول في المجال العملي.
وتتفاوض موسكو حاليًّا مع عدد من البلدان الإفريقية بشأن التجارة بالعملات الوطنية، وفق رئيس أمانة منتدى الشراكة الروسية الإفريقية أوليغ أزوروف، لكن هذه العملية تتطلب اتخاذ قرارات من الأطراف المعنية، وفق أوليغ أزوروف.
تأتي هذه الخطوة، في وقت تدرك فيه روسيا أهمية تحقيق مكانة لعملتها المحلية “الروبل” في الاقتصاد العالمي، خاصة في ظل تصاعد العقوبات الغربية المسلطة ضدها في السنوات الأخيرة، نتيجة انتهاكاتها المتكررة لحقوق الإنسان.
وتخطط روسيا من خلال هذه الخطوة إلى تخفيف العقوبات الغربية وخلق نظام تدرج فيه عملات أخرى غير الدولار، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تسهيل المعاملات التجارية الثنائية باستخدام العملات المحلية بدلًا من الاعتماد على الدولار.
يأمل الروس من خلال ذلك إلى تهيئة الطريق أمام شركاتهم للتغلغل في الأسواق الإفريقية، واستهداف قطاعات الطاقة والمال في القارة، خاصة أن القارة تحتوي على ثروات باطنية كثيرة تسيل لعاب أبرز القوى العالمية.
ترحب الكثير من الدول الإفريقية بالخطوات الروسية، في ظل التضخم والعجز الكبير الذي تعانيه جراء التغيرات المناخية وآثار جائحة كورونا المتواصلة منذ سنوات، ورغبتهم في الإفلات من الدول الغربية، وحاجتهم إلى حليف قوي.
الإمكانات المالية المتواضعة لروسيا مقارنة بالغرب، جعلها تركز في الفترة الحاليّة على قوتها الصلبة، لكن الطريق لم يُعبد لها إلى الآن، فالمنافسة قوية في القارة الإفريقية، ما يجعل موقفها متقهقرًا.