“الشهادة أو الحرية” هو العنوان الذي أطلقه الأسرى الفلسطينيون في السجون والمعتقلات الإسرائيلية على معركتهم التي شرعوا فيها في 14 فبراير/ شباط الماضي، رفضًا للواقع الذي يعيشونه منذ عشرات السنوات في السجون.
وجاءت هذه الخطوة نتاجًا للإجراءات التي اتّخذها وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، التي ضيّقت عليهم الخناق كثيرًا، رغم تحذيرات مصلحة السجون وجهاز الأمن “الشاباك” من التداعيات المترتّبة عن ذلك.
ومن الإجراءات التنكيلية التي جاءت بتوصية من الوزير المتطرف بن غفير، التحكُّم بكمية المياه في أقسام الأسرى، وقطع المياه الساخنة عنهم، ووضع أقفال على الحمامات المخصّصة للاستحمام، وتقليص المدة التي يمكن للأسرى الاستحمام فيها.
وتقوم وحدات تابعة لإدارة السجون الإسرائيلية يوميًّا بإزالة الأقفال صباحًا من الساعة السابعة إلى الثامنة، ثم تُعيد الأقفال إلى الحمامات بعد ساعة من فتحها، وهذا الإجراء طُبّق أساسًا على الأقسام الجديدة في سجن نفحة، وهي 3 أقسام يقبع فيها 360 أسيرًا.
شهد الخطاب الموجّه إلى الجبهة الداخلية رسائل تدعوها إلى تحرير الأسرى والعمل على إجبار الاحتلال على صفقة تبادل جديدة
ويبلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال حتى نهاية يناير/ كانون الثاني نحو 4 آلاف و780، منهم 29 أسيرة و160 طفلًا، في وقت تشهد فيه الضفة الغربية والقدس المحتلة توسُّعًا في معدلات الاعتقالات اليومية خلال العام الأخير.
ويستعدّ الأسرى لخوض معركة الإضراب المفتوح عن الطعام اعتبارًا من 1 رمضان المقبل، في ظلّ رفض مصلحة السجون ووزير الأمن القومي، بن غفير، التراجع عن الإجراءات الحالية التنكيلية المتخذة، وارتفاع أعداد المعتقلين إداريًّا لأكثر من 1000 لأول مرة منذ عقود.
والاعتقال الإداري هو اعتقال من دون تهمة أو محاكمة، يعتمد على ملف سرّي وأدلة سرّية لا يمكن للمعتقل أو محاميه الاطّلاع عليها، ويمكن حسب الأوامر العسكرية الإسرائيلية تجديد أمر الاعتقال الإداري مرات غير محدودة، إذ يتمّ استصدار أمر اعتقال إداري لفترة أقصاها 6 شهور قابلة للتجديد.
وجاءت خطوات الأسرى الأخيرة في ظل فشل كل المحاولات التي قادتها المقاومة خلال الفترة الأخيرة لإبرام صفقة تبادل، في ظل وجود 4 أسرى إسرائيليين لديها منذ عام 2014 في قطاع غزة، نتيجة للرفض الإسرائيلي الوصول إلى صفقة جديدة.
وشهد خطاب الأسرى رسائل للاحتلال وأخرى للمقاومة والجبهة الفلسطينية، حيث شهد الخطاب الموجّه إلى الجبهة الداخلية رسائل تدعوها إلى تحرير الأسرى والعمل على إجبار الاحتلال على صفقة تبادل جديدة، ما يحمل إشارة لمطالبة واضحة بخطف المزيد من الأسرى.
تاريخ الحركة الفلسطينية الأسيرة.. توثيق حديث
وثّق المؤرّخون الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة منذ عام 1967 في أعقاب هزيمة حزيران، واحتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية، وزجّ الآلاف من أبنائها في معتقلات الاحتلال وارتفاع عددهم بشكل كبير، بحيث أصبحت حياة المعتقل ظاهرة بارزة في حياة الشعب الفلسطيني ككُلّ، في أعقاب بلورة القواعد الأساسية وظهور الحركات والتنظيمات الفلسطينية، وبروز الأعمال الفدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وقع الآلاف من الفلسطينيين في أسر القوات الإسرائيلية لأسباب تتعلق بالمقاومة، وكذلك كانت هذه القوات تطارد العشرات الذين لم يسلّموا أنفسهم فقامت باعتقال ذويهم، وبرزت تساؤلات أين سيتمّ حجز هذه الأعداد الهائلة، وكيف سيتم ايجاد الوسائل القضائية لاحتجازها، فأقامت “إسرائيل” العديد من معسكرات الاحتجاز في سيناء.
وتوثيق الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة عام 1967 لا يعني غياب حالة النضال الفلسطيني ضد المحتل، فتعود فكرة إنشاء أماكن اعتقال إسرائيلية إلى ما قبل إعلان “إسرائيل” بعدة سنوات، ويبدو أن تصاعد حالة الصدام بين المنظمات الصهيونية ومجموعات المقاومة العربية والفلسطينية كانت وراء هذا التفكير.
جرت أول تجربة فلسطينية لخوض الإضراب عن الطعام في السجون الإسرائيلية في سجن نابلس أوائل عام 1968
والحركة الأسيرة هي مجموع الأسرى والأسيرات الفلسطينيين الذين تعرّضوا للاعتقال، منذ بداية الاحتلال العسكري الإنجليزي لفلسطين عام 1917 حتى الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة من قبل “إسرائيل” أيضًا عام 1967 إلى الآن.
تعود جذور الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة إلى مراحل الانتداب البريطاني لفلسطين، الذي سجن الثوار عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، وأعدمهم في سجن عكا عام 1933، والشيخ المجاهد فرحان السعدي والشيخ يوسف أبو دية عام 1939، واعتقل العشرات من المقاومين أمثالهم.
وهناك صعوبة كبيرة في تحديد عدد الأسرى الذين تمَّ اعتقالهم في السجون الإسرائيلية فترة 1948-1949 في أعقاب الحرب من الفلسطينيين والعرب، وكانت الإحصاءات المتوفرة جزئية في فترات محددة، وعليه تباينت المصادر بشأن العدد الدقيق الذي يتراوح ما بين 7 آلاف معتقل كحدٍّ أدنى و12 ألف معتقل كحدٍّ أقصى.
واقع الإضرابات في السجون.. بين الفشل والنجاح
الإضراب المفتوح عن الطعام، أو ما يعرَف بـ”معركة الأمعاء الخاوية”، هو امتناع المعتقل عن تناول كافة أصناف وأشكال المواد الغذائية الموجودة في متناول الأسرى، باستثناء الماء والقليل من الملح، وهي خطوة نادرًا ما يلجأ إليها الأسرى إذ إنها تعتبَر الأخطر والأقسى، لما يترتّب عنها من مخاطر جسيمة جسدية ونفسية على الأسرى.
إذ وصلت هذه المخاطر في بعض الأحيان إلى استشهاد عدد منهم، بدءًا بالشهيد عبد القادر أبو الفحم الذي استشهد بتاريخ 11 يونيو/ حزيران 1970 خلال إضراب سجن عسقلان، وهو بذلك أول شهداء الحركة الأسيرة خلال الإضراب عن الطعام، مرورًا بالشهيد راسم حلاوة وعلي الجعفري اللذين استشهدا بتاريخ 24 يونيو/ حزيران 1980 خلال إضراب سجن نفحة، والشهيد محمود فريتخ الذي استشهد إثر إضراب سجن جنيد عام 1984، والشهيد حسين نمر عبيدات الذي استشهد بتاريخ 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1992 في إضراب سجن عسقلان.
ولا يلجأ الأسرى الفلسطينيون عادة إلى مثل هذه الخطوة إلا بعد نفاد كافة الخطوات النضالية الأخرى، وعدم الاستجابة لمطالبهم عبر الحوار المفتوح بين السلطات الاحتلالية واللجنة النضالية التي تمثل المعتقلين، إذ إن الأسرى يعدّون الإضراب المفتوح عن الطعام وسيلة لتحقيق هدف وليس غايةً بحدّ ذاتها.
ولقد جرت أول تجربة فلسطينية لخوض الإضراب عن الطعام في السجون الإسرائيلية في سجن نابلس أوائل عام 1968، حيث خاض المعتقلون إضرابًا عن الطعام استمر لمدة 3 أيام احتجاجًا على سياسة الضرب والإذلال التي كانوا يتعرضون لها على يد الجنود الإسرائيليين، وللمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية والإنسانية، ثم توالت بعد ذلك الإضرابات عن الطعام.
فيما يلي قائمة بأبرز الإضرابات في تاريخ الحركة الأسيرة:
– عام 1969 خاض الأسرى إضرابَين أولهما في سجن الرملة (وسط “إسرائيل”) استمرَّ 11 يومًا، والثاني في معتقل كفار يونا لمدة 8 أيام، وتضمّنت المطالب تحسين كمية الطعام وزيادة وقت الفورة (الفسحة اليومية) وإدخال القرطاسية (الكتب والدفاتر والأقلام).
– عام 1970 خاضت الأسيرات في سجن نفي ترتسا إضرابًا عن الطعام استمرَّ لمدة 9 أيام.
– في العام ذاته (1970) خاض الأسرى في سجن عسقلان إضرابًا عن الطعام استمرَّ 7 أيام، وأسفر عن وفاة الأسير عبد القادر أبو الفحم.
– عام 1973 أضرب الأسرى في سجن بئر السبع عن الطعام لمدة 24 يومًا.
– عام 1976 أضرب الأسرى في سجن عسقلان لمدة 45 يومًا.
– عام 1977 أضرب الأسرى في سجن عسقلان لمدة 20 يومًا.
– عام 1980 أضرب الأسرى في سجن نفحة لمدة 33 يومًا، ما أسفر عن وفاة 3 منهم، راسم حلاوة وأنيس دولة وعلي الجعفري.
– عام 1984 خاض الأسرى في سجن جنيد بنابلس إضرابًا لمدة 13 يومًا، وتمَّ من خلاله تحقيق إنجاز بإدخال أجهزة الراديو وجهاز التلفاز.
– عام 1987 أضرب الأسرى في سجن جنيد لمدة 20 يومًا.
– عام 1988 خاض الأسرى في كل السجون إضرابًا ليوم واحد تزامنًا مع إضراب أعلنته القيادة الموحّدة للانتفاضة (انتفاضة الحجارة التي بدأت في ديسمبر/ كانون الأول 1987).
– عام 1991 خاض الأسرى في سجن نفحة إضرابًا استمرَّ لمدة 17 يومًا.
– عام 1992 خاض الأسرى في كل السجون إضرابًا عُرف بإضراب سبتمبر/ أيلول الشهير، واستمرَّ لمدة 22 يومًا، وشارك فيه 7 آلاف أسير.
– عام 1995 خاض الأسرى في كل السجون إضرابًا لمدة 18 يومًا، مطالبين بالإفراج عن كافة الأسرى والأسيرات.
– عام 1996 خاض الأسرى في كل السجون إضرابًا استمرَّ 18 يومًا.
– عام 1998 خاض الأسرى في كل السجون إضرابًا احتجاجًا على إفراج “إسرائيل” عن 150 سجينًا جنائيًّا فلسطينيًّا، ضمن صفقة الإفراج التي شملت 750 أسيرًا وفق اتفاقية واي ريفر بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”.
– عام 2000 خاض الأسرى في كل السجون إضرابًا لمدة شهر، احتجاجًا على سياسة العزل والقيود والشروط المذلّة على زيارات الأهالي.
– عام 2001 خاضت الأسيرات إضرابًا في سجن نيفي تريستا استمرَّ لمدة 8 أيام.
– عام 2004 خاض الأسرى في كل السجون إضرابًا استمرَّ لمدة 19 يومًا.
– في العام نفسه (2004) خاض الأسرى في سجن هداريم إضرابًا آخر استمرَّ لمدة شهرَين.
– عام 2006 أضرب الأسرى في سجن شطّة مدة 7 أيام.
– عام 2011 أضرب الأسرى لمدة 22 يومًا للمطالبة بوقف سياسة العزل الانفرادي.
– عام 2012 أضرب ما يقارب نحو 1500 أسير لمدة 28 يومًا، لعدة مطالب كان عنوانها إنهاء العزل الانفرادي.
– عام 2014 أضرب الأسرى الإداريون عن الطعام لمدة 62 يومًا، احتجاجًا على استمرار سياسة الاعتقال الإداري.
– عام 2017 أضرب نحو 1500 أسير يتبعون لحركة التحرير الوطني “فتح”، في سجون مختلفة، عن الطعام لمدة 42 يومًا.
– إضراب الأسرى في 8 أبريل/ نيسان 2019 (الكرامة 2): قرابة 150 أسيرًا فلسطينيًّا شرعوا بإضراب مفتوح عن الطعام والماء في سجنَي ريمون والنقب، في معركة أطلقوا عليها اسم “معركة الكرامة”.
– إضراب الأسرى فبراير/ شباط 2022: بدأ الإضراب بخوض الأسرى إضرابًا عن الطعام ليوم واحد في 14 شباط/ فبراير 2022، رفضًا لتعسف إدارة سجون الاحتلال الإسرائيلي المتمثلة بحرمانهم من زيارة الأهل لشهر كامل، ومحاولات إجراء تغيير واسع على نظام الفورة.
غياب الصفقات وعمليات الأسر.. هل فقدَ الأسرى الثقة؟
منذ عام 2011 لم يشهد الأسرى أي صفقات جديدة تعمل على إنهاء اعتقالهم من سجون الاحتلال، حيث كانت صفقة تبادل شاليط أو ما يعرَف بـ”وفاء الأحرار” هي الصفقة الأولى في القرن الحالي التي ينجح فيها الفلسطينيون بإبرام صفقة تبادل، بعد سنوات من أسر الجندي جلعاد شاليط.
ومنذ أن أسرت المقاومة عام 2014 الجندي هدار غولدين والجندي شاؤول أرون وأبراهام منغيستو وهشام السيد، والملف يراوح مكانه رغم التسريبات والرسائل العديدة التي أوصلتها المقاومة لعقد صفقة تبادل في هذا الملف.
من غير المستبعد أن تعمل المقاومة على افتتاح أي مواجهة جديدة مقبلة مع الاحتلال على أسر جنود إسرائيليين من حدود قطاع غزة
وعزّز عدم نشر المقاومة وتحديدًا كتائب القسام أي مقطع صوتية أو فيديوهات للجنديَّين غولدين وأرون من مخاوف الأسرى بأن يكونا جثتَين، وهو ما يعني أن الإسرائيليين لن يكونوا معنيين كثيرًا بعقد صفقة تبادل جديدة.
في المقابل، شهدت الفترة الأخيرة رسائل عديدة أرسلتها حركة حماس للوسطاء، بأنها قد وضعت سقفًا زمنيًّا لهذا الملف وإلا فإنها ستطويه للأبد وستبحث عن بدائل جديدة لتحرير الأسرى، ما يحمل ضمنيًّا إشارة لنيتها تنفيذ عملية أسر جديدة.
في المقابل، إن حالة من الخوف والقلق باتت تعصف بالأسرى نظرًا إلى قضاء عدد لا بأس منهم لما يزيد عن 20 إلى 30 عامًا في السجون الإسرائيلية، بالتزامن مع إقرار قوانين جديدة مثل الإعدام لمنفّذي العمليات وغيرها من القرارات.
هل يشكّل ما يجري في السجون صاعق تفجير المواجهة خارجها؟
لا يمكن القول إن الفصائل الفلسطينية ستكتفي بمنظر المشاهد لما يجري في السجون الإسرائيلية من إجراءات وتنكيل دون أن تردَّ عليه، إذ سبق وأن قامت بخطوات مماثلة في السابق حينما أطلقت صواريخ تجاه منطقة هشارون في تل أبيب بسبب الاعتداء على الأسرى.
وبالتالي إن ملف الأسرى وإقرار قانون إعدامهم سيشكّل صاعقًا للتفجير بين الأذرع العسكرية في قطاع غزة والاحتلال، مع إصرار الوزير المتطرف بن غفير على التضييق عليهم وفشل كل محاولات إبرام صفقة تبادل جديدة.
ومن غير المستبعد أن تعمل المقاومة على افتتاح أي مواجهة جديدة مقبلة مع الاحتلال على أسر جنود إسرائيليين من حدود قطاع غزة، كما حاولت عام 2021 خلال “سيف القدس”، أو أن تنجح الخلايا العسكرية بالضفة في ذلك، وإن كان السيناريو الثاني أقل احتمالًا نظرًا إلى الحالة الأمنية الصعبة بالضفة والقدس المحتلتَين.