لم يعد موسم الكمأة الذي ينتظره كثير من الفقراء في البادية السورية يمرُّ دون مآسٍ، إذ بات البحث عن هذا الفطر اليوم أشبه برحلة الموت، فالكثير من المدنيين فقدوا أرواحهم دون معرفة الجهة التي تقوم بتصفيتهم في عمق البادية، والتي تبتلع كل داخل إليها وتتركه جثة هامدة، ولا يزال الموت يتربّص بروّاد البادية السورية الباحثين عن فطر الكمأة والراغبين ببيعها لسدّ بعض احتياجاتهم، في ظلّ الأوضاع المعيشية المتردية يومًا بعد يوم.
يبدأ موسم الكمأة مع حلول الشتاء في يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط، ويتهافت سكان البادية والمناطق القريبة منها على جمعها مستغلين هذين الشهرَين، قبل أن يعودوا إلى منازلهم لمواجهة الظروف القاسية في بلاد توقفت فيها كل أسباب الحياة، ويكونون بذلك قد تجاوزوا الصحاري ومخاطر الألغام المزروعة في البادية وذخائر المخلفات الحربية، ومواقع الميليشيات الإيرانية وقوات النظام التي لا تتوانى عن استهداف أي عابر هناك.
شباط الدامي
ارتفعت حصيلة القتلى والجرحى منذ بدء حلول الشتاء وهطول الأمطار هذا العام، ففي شهر فبراير/ شباط الفائت، وخلال رحلة مدنيين باحثين عن الكمأة في عمق البادية، تمَّ تسجيل مقتل العشرات في عدة مناطق متفرّقة بالبادية السورية، وكان ذلك متنوّعًا ما بين انفجار ألغام ومخلفات حربية وقتل ممنهَج بسلاح الميليشيات الإيرانية، ومن تلك الحوادث التي تمَّ توثيقها في شهر فبراير/ شباط الفائت:
– 6 فبراير/ شباط: إصابة شاب بانفجار لغم أرضي قرب منطقة حليحلة بريف السخنة في بادية حمص.
– 11 فبراير/ شباط: مقتل 53 مدنيًّا على الأقل وفقدان العشرات بهجوم جنوب شرق مدينة السخنة بريف حمص الشرقي، إضافة إلى إصابة طفل في بادية الشعفة شرقي دير الزور.
– 14 فبراير/ شباط: مقتل 3 شبّان بانفجار لغم في بادية الكشمة شرقي دير الزور.
– 25 فبراير/ شباط: مقتل طفل وإصابة رجل بانفجار لغم في منطقة الشولا جنوبي دير الزور.
– 26 فبراير/ شباط: مقتل 3 شبّان بانفجار لغم في بادية الكشمة شرقي دير الزور.
27 فبراير/ شباط: مقتل 10 مدنيين بينهم امرأة وإصابة 14 آخرين بانفجار لغم أرضي بسيارة بمنطقة تل سلمة بريف سلمية شرقي حماة.
فيما سجّل الشهر الجاري، مارس/ آذار، منذ بدايته حتى إعداد هذا التقرير مقتل 5 مدنيين وإصابة أكثر من 40 آخرين، إثر انفجار لغم بشاحنة كانت تقلّهم لجمع فطر الكمأة بمنطقة كباجب بدير الزور.
إذ نشرت قناة “مراسل البادية 24” على تلغرام (شبكة إخبارية محلية) أسماء قتلى الانفجار شرقي سوريا، مشيرة إلى أن سيارة من نوع “إنتر” كانت تقلهم على الطريق الواصل بين منطقتَي كباجب وأبو حية في بادية دير الزور الجنوبية، وأن جميع القتلى والجرحى هم من أبناء بلدة عياش بريف دير الزور الغربي.
وسبقت الانفجار بساعات تأكيدات مدير الهيئة العامة لمشفى الأسد بدير الزور، خلال حديثه لإذاعة محلية موالية، أنه منذ بداية العام وحتى الآن بلغ عدد حالات الوفاة نتيجة البحث عن ثمرة الكمأة في محافظة دير الزور 18 حالة وفاة، و22 إصابة متعددة تراوحت بين المتوسطة والخفيفة إضافة إلى بتر في الأطراف، مضيفًا أن جميع هذه الإصابات تركّزت في مناطق الشولا وكباجب وهريبشة على الجهة الجنوبية لمحافظة دير الزور، وهي مناطق انتشار ثمرة الكمأة.
يرى الناشط الصحفي في ريف دير الزور الشرقي، إبراهيم الحسين، أن الإقبال على موسم الكمأة في ريف دير الزور متزايد هذا العام، رغم المخاطر التي تحيط به وحالات القتل، سواء بانفجار الألغام المزروعة أو قنابل من مخلفات الحرب أو بعمليات السلب من اللصوص وقطّاع الطرق وخلايا “داعش”، لافتًا إلى أن “الواقع الاقتصادي والظروف المعيشية باتت لا تحتمل، والناس بعد أن انعدمت خياراتها وسُدّت أمامها الآفاق باتت مستعدة للموت في سبيل إطعام أطفالها، فاللقمة كما يقال مغمّسة بالدم”.
ويشير الحسين إلى أن بعض الناس يعتبرون الموسم طقسًا خاصًّا بهم، فهم ينتشرون بالبادية برفقة أسرهم كاملة، ومنهم من يخرج برفقة مجموعات كبيرة، ومنهم من يمضي يومه فقط مقتنعًا بما رُزق، ومنهم من يبيت بالبادية 3 أو 4 أيام طمعًا بإنتاج أكثر.
وينتظر المدنيون الموسم بفارغ الصبر، لأنهم يعتمدون عليه في تحصيل رزق وفير، خاصة أن بوادي دير الزور غنية بالكمأة رغم تأخُّر الأمطار لهذا الموسم، كما أن أسعارها عالية مقارنةً بانعدام تكاليف استخراجها، بحسب الحسين.
مجزرة الكمأة ببادية حمص
تعدّ مجزرة الضبيات إحدى أبشع المجازر التي ارتكبتها الميليشيا الإيرانية “فاطميون” في بادية تدمر بريف السخنة الجنوبي شرق محافظة حمص، منتصف الشهر الفائت، إذ ذكرت صفحة “السخنة الحدث الإخبارية” على فيسبوك أن أهالي الضحايا الذين تجاوز عددهم 65 شخصًا من عشيرة العمور وبني خالد، وبينهم عسكريين، يؤكدون أن الميليشيات الإيرانية المسيطرة على بادية تدمر هي من ارتكب المجزرة بحقّ أبنائهم عبر إعدامات ميدانية.
يعني هذا تكذيب رواية النظام التي روّجتها وسائل إعلامه بأن تنظيم “داعش” هو المسؤول عن مقتلهم، لا سيما أن التنظيم لم يعلن مسؤوليته عبر معرّفاته الرسمية، كما انتشر مقطع مصوّر ظهر فيه أهالي القتلى المحتجون بالقرب من إحدى نقاط النظام وميليشياته شرقي السخنة، بسبب منعهم من الاقتراب من مكان المجزرة.
ونشرت حسابات إخبارية محلية، الأحد 19 فبراير/ شباط، صورًا تظهر صفًّا من الجثث خلال تأدية صلاة الجنازة، ضمن مراسم دفن أقامتها عشائر الفواعرة والموالي وبني خالد.
أبو هاجر، أحد المتحدرين من منطقة السخنة بريف حمص، أكّد خلال حديثه لـ”نون بوست” أن ميليشيات “فاطميون”، والتي تحوي عناصر سورية مجنّدة، قتلت قرابة 76 قتيلًا من أبناء بلدته بشكل بشع رميًا برصاصة واحدة فقط، إما في جبهة الرأس وإما في إحدى العينَين.
ولفت أبو هاجر (الذي طلب عدم ذكر اسمه كاملًا لأسباب أمنية) أن هناك تجّارًا متنفّذين من أهل السخنة يتبعون لميليشيا الدفاع الوطني، مثل مهنا السويف وفيصل القطران، يشاركون ضباط النظام تجاريًّا، حيث يرسلون مجموعات من العمال باتجاه البادية بحثًا عن هذه الثمرة مقابل نسبة لهم.
مضيفًا أن هؤلاء التجار أنفسهم حصلوا على موافقة الضباط لتوغُّل هؤلاء العمال أكثر في عمق البادية، إلا أنهم أُرسلوا دون أي حراسة أو حماية حتى وصلوا إلى نقاط يسيطر عليها لواء “فاطميون” وحصلت المجزرة.
وممّا يؤكد رواية أبو هاجر ما نشرته “شبكة تدمر الأخبارية” المهتمة بأخبار البادية السورية بعد الحادثة، حيث إن ورش العمال التي تعرضت للهجوم في بادية الضبيات والشاحنات التي أُحرقت تتبع لتاجر يُدعى مهنا السويف، إحدى أذرع النظام والميليشيات الإيرانية في البادية، مشيرةً إلى أن السويف قام مؤخرًا باستثمار جني الكمأة على العمال، فإما العمل لصالحه الخاص وإما شراؤها منهم بأسعار بخسة قبل أن يبيعوها في المدن السورية.
ويختم أبو هاجر حديثه بأن الناس تخرج إلى البادية بحثًا عن الكمأة بسبب الفقر والجوع، رغم ما يعترضهم من مخاطر البحث عنها، والتي قد تصل إلى القتل كما حصل في السخنة، فالناس تعاني من الموت فقرًا ويغامرون في سبيل لقمة عيشهم، إذ يفضّلون الموت في تحصيل قوتهم على الموت قهرًا في بيوتهم وهم ينظرون إلى أولادهم جوعى.
الكمأة تشعل الخلاف
يطلق على الكمأة محليًّا “جمة” أو “الفقع”، وتعدّ أغنى الفطريات بالعناصر الغذائية من البروتين والنشويات والدهون، ولا تحتاج بذورًا للنمو وتظهر غالبًا قرب جذور الأشجار أو بجانب النباتات الصحراوية بعمق 5 إلى 15 سنتيمترًا.
وتتميز بأسعارها العالية حسب النوع والجودة واللون والحجم، فمنها السمراء الصغيرة المسماة محليًّا بـ”الحرقة”، وهي أصغر الأنواع، و”الزبيدية” هي أكبر حجمًا وأفتح لونًا من الحرقة، و”الشيوخ” ذات الحجم الأكبر والأثمن، وينطلق روّاد البادية بعد كل ليلة ماطرة للبحث عنها، باعتبار أنها لا تظهر إلا في مواسم المطر لا سيما بعد حدوث البرق.
وتتنوع الكمّية التي يمكن تحصيلها، إذ يمكن العمل لمدة 5 ساعات وتحصيل ما بين 20 إلى 50 كيلو، فيما تتراوح الأسعار ما بين 30 ألف ليرة سورية إلى 150 ألف ليرة، أي ما يعادل 25 دولارًا، حسب النوع والجودة.
وتعدّ البادية السورية (بوادي الحسكة ودير الزور والرقة) والمحميات الطبيعية، كمنطقة جبل عبد العزيز، موطن لهذا الفطر، والذي بات مصدر تنافس ما بين الأهالي والميليشيات المهيمنة على المنطقة هناك، إذ تشير مواقع إخبارية إلى صدور تعميم من قيادة ميليشيا الدفاع الوطني، تمنع بموجبه أهالي وسكان ريف دير الزور الغربي من الخروج لجمع فطر الكمأة في بادية المنطقة.
إذ نشرت الميليشيا عدة حواجز عسكرية على أطراف بلدات المسرب والشميطية والخريطة في الريف الغربي لدير الزور، ما دفع البعض إلى تقديم رشاوى لعناصر الميليشيا للسماح لهم بدخول البادية وتقاسم ما يجمعونه معهم.
فيما يتهم الأهالي الميليشيات وقوات النظام بزراعة المئات من الألغام والعبوات الناسفة في البادية السورية، وفي محيط قرى وبلدات المنطقة، وعدم وضع أي لافتات تحذيرية فيها، ما يمنع الأهالي من الاستفادة من موسم جمع الكمأة الذي ينتظرونه من عام إلى آخر، وحرمانهم من دخل مادي إضافي يواجهون به الأوضاع الاقتصادية السيّئة التي يعانونها.
البادية بالنسبة إلى الرايات الصفراء والسوداء
يعتقد الباحث في الشؤون الإيرانية، مصطفى النعيمي، أن غاية النظام السوري في تنفيذ أي عملية قتل، ومن ضمنها الحادثة الأخيرة في السخنة، تأتي في سياق الذرائع المستخدَمة في مواجهة من يصفهم بالخصوم، وتحت بند محاربة تنظيم “داعش”، إذ يقوم بتمرير عملياته الإجرامية باستهداف المزارعين والعمال الذين ضاقت بهم السبل وخرجوا للبحث عن الكمأة في البادية السورية.
مضيفًا في حديثه لـ”نون بوست” أن النظام السوري مستمرّ في تلك المجازر، رغم ادّعائه عدم تنفيذها، بل ينسبها إلى ذراعه العسكرية “داعش”.
وبات الجميع اليوم يدرك أن السياسة المتّبعة من قبل أذرع نظام الأسد بشقَّيها (الأذرع الولائية وأدواته التي ترتدي عباءته الفوضوية “داعش”) تهدف إلى استمرار تلك المجازر، بما يساهم بشكل كبير في تفريغ ساحة البادية أمام النظام السوري، ومن ثم تصبح طريقًا آمنة لتلك الأذرع الولائية القادمة من إيران عبر العراق، عبر ما يُعرف بـ درب السبايا الذي يمر بالبادية السورية.
يؤكد النعيمي في معرض حديثه أن إيران تستنزف من تصفهم بالخصوم، فما زالت استراتيجيتها ذاتها منذ عام 2018 وحتى الآن في إنشاء جماعات متطرفة بشقَّيها الأصفر المتمثل بالأذرع الولائية أو الأسود المتمثل بـ”داعش”، لاستثمارهما بالهيمنة على المنطقة.
وحول تأكيد النظام ومواقع معارضة مقتل عسكريين إلى جانب المدنيين في مجزرة السخنة، اعتبر النعيمي أن الأذرع الإيرانية لا يهمّها تبعية هؤلاء العناصر، لأن النظام بين الفينة والأخرى يلجأ إلى سياسة استثمار مناوئة داخل مؤسساته العسكرية، وتحديدًا بعد انتقال جزء كبير من مقاتلي الفيلق الخامس العامل تحت الإدارة الروسية إلى سلطة المخابرات الجوية، وتحديدًا تحت إمرة العميد لؤي العلي.
ختامًا، يبدو أن كل العاملين ضمن نسق المشروع الإيراني لا يختلفون مطلقًا إلا على حجم النفوذ والهيمنة، إذ يعتبرون المنطقة العربية كلها أهدافًا حية بالنسبة إليهم، ويستخدمون المقاتلين المناوئين لنظام الأسد ضمن المحرقة الاستخباراتية التي تخدم الاستراتيجية الإيرانية، والمتمثلة بتأمين الطريق البرّي من معبر البوكمال على الحدود العراقية وصولًا إلى معبر المصنع في لبنان الذي تسيطر عليه ميليشيا “حزب الله” اللبنانية، وما عدا ذلك فهو تكتيك يتغيّر وفقًا للمصالح العليا الإيرانية.