لم يكن يخطر على بال أحد من جيلنا أنه ستقترب الذكرى الثانية عشر لثورته، وهو ناجٍ مؤقتًا ممّا حلَّ بأصدقاء هتافاته الذين تعاهدوا يومًا في الساحات أنها “ثورة حتى النصر”، من اختفاء أو اعتقال أو استشهاد أو غرق في بحر المنفى.
12 عامًا تبدّلت الرايات وتلوّنت وأصبحت سوريا وجهةً لمقاتلين من كل صوب وغاية، ومرتزقة فارّين من حكوماتهم، أو مرسلين منها ليقاتلوا ويقتلوا، ودول وجدت في الشام مرتعًا لتوسيع نفوذها في خضم الفوضى، فتقاسم الجَمعُ كعكتنا وبالكاد بقي لنا منها الفتات.
أما أبناء الثورة؛ فما زالوا يبحثون عن صدى صوتهم ويوسّعوا مداه بدمائهم وتهجيرهم وحصارهم، ويبقى السؤال مطروحًا بينهم وعليهم: بعد 12 عامًا.. هل ما زالت ثورة؟
حرب أهلية أم ثورة؟
مع بدايات الثورة، لم يكن مصطلح الحرب الأهلية موجودًا إلا في رواية نظام الأسد، عند تسويق مزاعمه أنه يخشى من استغلال المطالب المشروعة للمتظاهرين وتحويلها إلى حرب أهلية، لكن تلك الرواية كانت موجهة للجمهور الخارجي بهدف التلويح أمام الدول الغربية التي تفاعلت سريعًا مع ذلك الحراك، حتى أن سفراءها في دمشق شاركوا في المظاهرات وحضروا خيم عزاء الشهداء الذين سقطوا برصاص قوات الأسد.
بدأ النظام بالتسويق خارجيًّا على أنه الضامن الوحيد لاستمرار التعايش في البلاد، حتى لا تتكرر دموية أحداث لبنان والعراق ودول أخرى، أما الرواية الداخلية فهي محاربة “العصابات المسلحة” التي تستغل المظاهرات لتدمير النسيج الاجتماعي وتهاجم قوى الأمن والجيش، وكلتا الروايتَين نُسفتا أمام اتساع رقعة المظاهرات المطالبة بإسقاط الأسد، ومقتل عدد كبير من المتظاهرين من مختلف الطوائف العرقية والإثنية.
بقيَ مستوى المجابهة في الأشهر الأولى بين متظاهرين سلميين أو عسكريين رفضوا إطلاق الرصاص على المدنيين والنظام بترسانته العسكرية، لكن سرعان ما استعان النظام بالميليشيات الأجنبية، وبدأت بالمشاركة في قمع المظاهرات، ما أضاف مستوى جديدًا من الصراع.
كلا التعريفَين لـ الحرب الأهلية لا ينطبقان على الحالة السورية، كون موارد الدولة أو الصراع على السلطة من قبل جماعة إثنية أو عرقية كان غائبًا
كان الحراك بين الشعب والنظام هو ثورة ضد نظام من بني جلدته، لكن تحول لاحقًا إلى ثورة ضد نظام وانتفاضة ضد الميليشيات المستجلَبة، ما أعطى الحراك ثنائية لم تشهدها الثورات سابقًا، بأن تكون الثورة ضد مستبد داخلي ومحتل خارجي يساهم في تهجير الناس من بيوتهم وتغيير ديموغرافية المدن.
تعرَّف الحرب الأهلية، حسب الباحثَين كريستوفر بلاتمان وإدوار ميغل، على أنها “تندلع بين مجموعات عرقية أو إثنية تهدف للسيطرة على السلطة، وفرض قوة الجماعة المنتصرة وهويتها على باقي مكونات المجتمع”، بينما يرى الباحث الاقتصادي باول كولر أن أهم أسباب الحرب الأهلية وصفاتها هي الصراع على الموارد الاقتصادية للبلاد، والسعي للسيطرة عليها من قبل جماعة وحرمان باقي الشعب منها.
كلا التعريفَين لا ينطبقان على الحالة السورية، كون موارد الدولة أو الصراع على السلطة من قبل جماعة إثنية أو عرقية كان غائبًا، لكن بعد مرور سنوات الثورة أُضيفت على الحراك السوري مستويات صراع جديدة، فدخلت فكرة “الحرب بالوكالة” حين بدأت إيران تجنّد الشباب من الدول المجاورة ليقاتلوا بجانب قوات الأسد، وينشئوا ميليشيات تمنح لها ميزات ضمن الدولة السورية، مثل المنح في الجامعات السورية وغيرها.
كما أصبح هناك “حرب بين الدول” ضمن الجغرافية السورية، ولذلك أصبح التواجد العسكري الإيراني هدفًا للطيران الإسرائيلي بشكل مستمر، إضافة إلى مشاريع انفصالية مستوردة من الماضي، ما أضاف فكرة تدخُّل دول أخرى للحفاظ على أمنها القومي، ويضاف إلى كل تلك المسمّيات المشاريع المكررة المهاجرة من بلاد أخرى، مثل تحويل سوريا إلى إمارة إسلامية أو إلى نماذج لا تشبه التركيبة المجتمعية السورية.
رغم مستويات الصراع المتنوّعة والمتسارعة خلال 12 عامًا، والتي حاصرت أو حاولت تشويه مستوى الصراع الأساسي بين الشعب المطالب بحريته والساعي لدولة ينتخب فيها من يمثله، ونظام الأسد؛ بقيَ عدد كبير من الأكاديميين يميزون بين جوهر الحراك وما أحيط به لاحقًا، ويفنّدون سلوكيات الأسد في حرْف بوصلة الثورة أو تشويه صورة الحراك المدني المرتبط بالأفراد والمنظمات المتبنّين للثورة، مثل البحث الذي صدر عن جامعة لانشستر البريطانية عام 2021.
وبذلك، مهما اختلفت المسميات لتوصيف الحالة السورية وتعقيدها، تتلاشى كل تلك المسميات ويبقى مسمّى وحيد لها، عندما نتكلم عن مستوى صراع بين نظام استولى على السلطة منذ 60 عامًا وشعب طالب بأساسيات الحياة الإنسانية والمدنية، وهو ثورة.
هل تنتهي الثورات؟ وكيف تنجح؟
عند الوصول إلى توصيف الثورة السورية، تثار الأسئلة المتكررة عن ماهية الثورة وكيف يقاس نجاحها، أو حتى متى يقال عن ثورة إنها انتهت، وكل تلك الأسئلة تحاصر السوري سواء كان مهجّرًا أو نازحًا أو محاصرًا أو محتلًّا، أو حتى تطرح عليه تلك الأسئلة للاستفسار أو لتشكيكه بجدوى ما قدّمَ.
يعود استخدام مصطلح “الثورة” إلى عام 1688، عندما استخدمه جون هامبدن لتوصيف عزل الملك الإنكليزي عن الحكم وتولية ابنته بدلًا عنه بعد مظاهرات ضده، ومنذ ذلك الحين اقترنت بكل فعل هدفه التغيير في السلطة الحاكمة بمختلف أشكاله.
وتأتي فكرة الثورة في حالة التمرد ضد الوضع الحالي وإسقاطه والسعي لتغييره، فعبر التاريخ لم تتأطّر أدوات الثورات بسلوكيات محددة، بل توسّعت لتشمل كل الأفعال السلمية والمسلحة والعنيفة التي تهدف إلى إسقاط الواقع المفروض وفتح الفرص لتغييره.
ويقاس نجاح الثورة بما تفتحه من مساحات جديدة كانت مغيَّبة في عهد الاستبداد، وبما استفادت من التاريخ بحراكها عبر استجلاب التجارب السابقة من الحركات الشعبية ضد المستبد عينه أو قرائنه في تاريخ البلاد.
تفكيك الأسد يكمن في إنشاء كيانات مدنية ونقابية حقيقية تأخذ مكانها الوطني والدولي، وتكون أساسًا لسورية الحرة والديمقراطية
وبالعودة إلى الحالة السورية، تصاعدت الثورة بالتزامن مع عمليات البناء وتعويض غياب النظام بعد إخراجه من عدة مناطق ومدن في سوريا، حيث بدأ الحراك ينتقل إلى مرحلة التنظيم من أجل تنسيق المظاهرات بدايةً، لينتقل لاحقًا إلى التنسيق الإغاثي والعسكري مع تزايُد أعداد المنشقين وإدارة المدن المحررة في مراحل متقدمة، ما جعل أبناء الثورة يسيرون في مسارات متعددة وتحديات متزايدة، أولها إيجاد آليات لحماية حراكهم من الاختراق، وثانيها إدارة المناطق التي غابت فيها الدولة خدميًّا، وثالثها تنسيق حراكهم الخارجي من أجل مواكبة التفاصيل المتسارعة وإيصالها إلى العالم الخارجي.
دائمًا ما تكون الثورات تراكمية ولو تباعدت السنين بينها، لأنه على الجانب المقابل يراكم المستبد خبراته ويطوّر أدواته في ضبط المجتمع ومكوناته، فنجد أن رموز القمع تتكرر أسماؤها وإن مضى عشرات السنين على ذلك، كضباط الأمن والجيش الذين شاركوا أو خطّطوا لمجازر حماة في الثمانينيات ومجابهة حراك الطليعة المقاتلة، واستمروا في مناصبهم الرسمية أو الإشرافية حتى سنين الثورة.
وبالتالي لا تنتهي الثورات مهما قوبلت بالعنف، بل يخفت وميضها وتبقى في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، وكلما طال أمد خفوتها كلما أصبحت فاتورة اتقادها مجددًا تزداد من دماء أبناء الأجيال الذين ولدوا في خفوتها، ودائمًا ما تخفت الثورات في القلوب قبل أن تسكت في الساحات، لذلك يسعى المستبد دائمًا لأن يجعل الشعب يائسًا من التغيير، حتى يفقد ثقته بقدراته فيبقى ساكنًا خاضعًا ويجعل صمته هو الإرث الوحيد للأجيال القادمة.
تفكيك الأسد
كان مطلب إسقاط النظام المتمثل بالأسد أساسيًّا في الحراك الشعبي، لكن مع مرور السنوات وزيادة مستويات الصراعات أدّى ذلك إلى تجميد العديد من الأدوات التي امتلكتها الثورة والنظام على حد سواء، مثل فعالية الكيانات السياسية والمعارك الصفرية الهادفة للسيطرة على مساحات جديدة أو حتى العمليات النوعية، ما أدّى إلى لجوء أبناء الثورة إلى مساحات أخرى يصارعون فيها لسحب الشرعية من الأسد بالتدريج، بعد استحالة فكرة إسقاطه ككتلة واحدة على غرار السقوط السريع لبن علي وتنحّي مبارك وحرق صالح وقتل القذافي، والفكرة الأقرب للممكن هي تفكيك الأسد عبر إنهاء فعالية أجهزته ومؤسساته.
دائمًا ما يسلَّط الضوء على القوى العسكرية والأمنية للأسد، بينما هي أقل أدواته فعالية على الصعيد الدولي والعلاقات الخارجية، حيث تنشط مؤسسات الأسد الأمنية بقناع مدني تحت المجموعات طلابية أو المبادرات التطوعية التابعة له، وحتى على صعيد العمل النقابي الذي بعثنه الأسد قانونيًّا منذ عام 1966.
وبالتالي تفكيك الأسد يكمن في إنشاء كيانات مدنية ونقابية حقيقية تأخذ مكانها الوطني والدولي، وتكون أساسًا لسورية الحرة والديمقراطية، لأن كل العقوبات التي استهدفت نظام الأسد لن تحدّ من حراكه المدني، كونها ركّزت على مؤسساته العسكرية والأمنية وبعض وزرائه، بالإضافة إلى أسماء متورطة في المجازر.
بعد 100 عام من عمر شعب عاش خلال احتلالًا و4 انقلابات ثم استبدادًا دمويًا متجذرًا، لن تكون 12 عامًا كافية لنصر ثورة مؤزرة على طاغية وحشيّ وشبكة محتلين، في آن.
وأغلب المعاقبين لا يغادرون المناطق المحتلة من قبل الأسد، ولا يملكون دورًا خارجيًّا فاعلًا، ويعتمدون على شبكات تصنيع وتجارة المخدرات لتمويل نشاطاتهم، بينما يأتي حراك الأسد الدولي الحقيقي عبر مؤسسات أخرى مثل الاتحاد الرياضي العام والاتحاد الوطني لطلبة سورية والأمانة السورية للتنمية، التي لم تطلها العقوبات الغربية رغم احتوائها على شخصيات فُرضت عليها العقوبات مثل عمار ساعاتي.
ختامًا، تقوم فكرة الثورة على إنهاء نظام الاستبداد بشكل كامل وليس تغيير الصف الأول من الوجوه فيه، أو إحلال أنواع أخرى من الاستبداد، لأنه من الممكن أن يبدّل النظام الديكتاتوري عددًا من الوجوه ليبقى محافظًا على وجوده، ويعود بعد أن يظنَّ الجميع أن الحرية قد حصلت، وأن المستبد قد هرب أو سُجن أو قُتل، وينقلب على أبناء الثورة بعد أن آمنوا بأن ثورتهم انتصرت وبدأوا ببناء دولتهم فيعيدهم الديكتاتور إلى السجون أو يجعل القبور المخفية هي مثواهم الأخير.
لذلك يطول عمر الثورة أو يقصر بشكل طردي مع بقاء النظام في السلطة، ويضاف إليها عوامل متعلقة بالنظام الأمني وتشابكه مع مؤسسات الدولة وأجهزتها، فقد تستمرّ الثورات لعشرات السنين، والثورة السورية كذلك لأنها حالة من بناء الهوية وبناء الدولة وتحرير البلد.
بعد 100 عام من عمر شعب عاش خلال احتلالًا و4 انقلابات ثم استبدادًا دمويًا متجذرًا، لن تكون 12 عامًا كافية لنصر ثورة مؤزرة على طاغية وحشيّ وشبكة محتلين، في آن.