ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي مجزرة جديدة ظهر الثلاثاء 7 مارس/آذار 2023 حين داهمت قوات عسكرية كبيرة قدرت بنحو 40 آلية عسكرية، مدعومة بقوات خاصة ومروحيات وترتدي الزي المدني، شارع مهيوب بشرق مخيم جنين، وحاصرت بعض المنازل وقصفت الأخرى، ما أسفر عن ارتقاء 6 شهداء وجرح 26 آخرين بعضهم في حالة حرجة، حسبما أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية.
وتبرر حكومة الاحتلال على لسان رئيسها تلك المجزرة باستهداف منفذ عملية حوارة بنابلس التي أدت إلى مقتل مستوطنيين قبل 10 أيام، لافتة أنها نجحت في تصفيته ويدعى “عبد الفتاح حسين خروشة” (49 عامًا)، دون دليل قاطع على أنه صاحب تلك العملية التي أثارت حفيظة المستوطنين وحكومتهم المحتلة، فيما ارتقى معه من المواطنين: محمد وائل غزاوي (26 عامًا) وطارق زياد مصطفى ناطور (27 عامًا) وزياد أمين الزرعيني (29 عامًا) ومعتصم ناصر صباغ (22 عامًا) ومحمد أحمد سليم خلوف (22 عامًا).
لم تكن عملية جنين هي الأولى، فخلال الأيام القليلة الماضية ارتكب جيش الاحتلال العديد من المجازر على تلك الشاكلة، وفي تطور نوعي يعكس ملامح التغير في إستراتيجيات المواجهة، نفذت القوات الإسرائيلية تلك العمليات في وضح النهار ومن خلال اقتحامات بزي مدني معززة بالمروحيات، في مشهد لم يألفه الشارع الفلسطيني.
ورغم الضغوط الإقليمية والدولية، وإدانات حلفاء تل أبيب أنفسهم لمثل تلك الجرائم الوحشية، فإن هناك إصرارًا من حكومة بنيامين نتنياهو على المضي قدمًا في إشعال حرب شاملة داخل الأراضي الفلسطينية، هذا في الوقت الذي تعاني فيه من احتقان شعبي لافت وتصعيد واضح من المعارضة قد يهدد استمراريتها فترات أطول.. فما الذي يحملها على اللجوء إلى سياسة الأرض المحروقة مجددًا؟
#جنين .. ساحة معركة بين المقاومين وقوات الاحتلال .. شهداء واصابات pic.twitter.com/qsrIBheDhj
— Tamer Almisshal | تامر المسحال (@TamerMisshal) March 7, 2023
إصرار على حرب شاملة
السلطة الفلسطينية التي كانت قبل أيام على مائدة واحدة مع ممثلي حكومة الاحتلال قالت على لسان المتحدث باسمها: “عمليات القتل اليومية التي تنفذها قوات الاحتلال حرب شاملة وتدمير لجهود إعادة الاستقرار”، في حين اعتبرت الخارجية الفلسطينية أن الجرائم المستمرة للجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين هو تأكيد واضح على اختيار مسار التصعيد، محملة الاحتلال مسؤولية ذلك وارتدادته على ساحة الصراع.
وتعد مجزرة الثلاثاء هي الثانية التي تشهدها جنين في أقل من شهرين، ففي يناير/كانون الثاني الماضي ارتكبت قوات الاحتلال جريمة مشابهة، استشهد فيها 9 فلسطينيين بينهم امرأة، أعقبتها مجزرة أخرى في نابلس، شمالي الضفة، في 22 فبراير/شباط الماضي، وأدت إلى ارتقاء 11 شهيدًا فلسطينيًا بينهم طفل و3 مسنين، وإصابة أكثر من 102 آخرين بجروح، بينهم 6 في حالة الخطر.
وأسفرت المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال خلال العام الماضي فقط عن استشهاد أكثر من 240 شهيدًا، منهم 171 في الضفة و53 في غزة و6 من فلسطيني 48، بجانب أكثر من 9350 مصابًا وأكثر من 7000 معتقل (منهم 4700 لا يزالون في سجون الاحتلال)، تزامن ذلك مع توسيع فج في سياسة الاستيطان ليصل عدد المستوطنات إلى 176 مستوطنة و186 بؤرة تستوعب 730 ألف مستوطن، فيما تم الاستيلاء على 223 من الممتلكات الفلسطينية، وصدور قرارات بالاستيلاء على 26424 دونمًا، في مخطط تهجير عنصري بامتياز.
شاهد ▶️ إضراب شامل يعم الضفة حدادا على شهداء #جنين.. والتعاون الإسلامي تدعو لتوفير حماية دولية للفلسطينيين
لتخطي الحجب https://t.co/lSEy9qJPHX
التفاصيل ?https://t.co/tDCgn2S64F
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) March 8, 2023
لا يمكن قراءة هذا التصعيد بمعزل عن الخطاب العنصري المتفاقم الذي تتباه حكومة نتنياهو الجديدة، المفخخة بعناصر اليمين المتطرف، وعلى رأسهم وزيرا المالية والأمن القومي، صاحبا التصريحات العنصرية الفجة التي وضعت
“إسرائيل” في مرمى انتقادات الحلفاء قبل الخصوم، لعل أخطرها ما تفوه به وزير المالية وزعيم حزب الصهيونية الجديدة، بتسلئيل سموتريتش، الأربعاء 1 مارس/آذار الحاليّ، حين قال: “قرية حوارة يجب أن تُمحى، أعتقد أن على دولة إسرائيل أن تفعل ذلك وليس، لا سمح الله، أفرادًا عاديين”، وهو التصريح الذي كشف الكثير من المسكوت عنه بشأن منهجية تلك التوليفة الجديدة لحكومة الاحتلال.
المتابع للمشهد يصل إلى قناعة تامة أن هناك إصرارًا لا يحتاج إلى عناء التفكير والتقييم من حكومة الاحتلال بتفخيخ الأرض وإشعال الموقف والدفع دفعًا نحو حرب شاملة، فالعربدة التي تمارسها القوات الإسرائيلية والعصابات الاستيطانية الصهيونية من جنين إلى نابلس ومن حوارة إلى القدس ومن الخليل إلى الأقصى، تؤكد على هذا المسار التصعيدي مهما حاول البعض تجميل المشهد والتخفيف من وقعه.
“لا إلا الا الله” يهتف بها مُشيعوا جثمان الشهيد عبد الفتاح خروشة.
هي أيضا ممنوعة ويُقابلها رصاص وقنابل غازية وصوتية!!
-وما زالت سلطة التنسيق الأمني بزعامة عباس تؤكد على المُؤكد بأنهم وجه آخر للاحتلال، ولا فرق بينهم.#نابلس #جنين pic.twitter.com/n1waNOrseE
— يحيى بشير | Yahya Basheer (@Yahya_M_Basheer) March 8, 2023
احتقان داخلي.. سياق مهم لفهم المشهد
على المستوى الداخلي يواجه نتنياهو وحكومته هجومًا شرسًا من الشارع الإسرائيلي، ووصلت الاحتجاجات إلى مستويات لم تشهدها دولة الاحتلال منذ أكثر من عشرة أعوام، إذ تجاوز أعداد المتظاهرين مؤخرًا حاجز الـ250 ألف، كلهم يطالبون بإقالة الحكومة.
ففي 4 مارس/آذار الحاليّ شهدت تل أبيب وبعض المدن الأخرى مظاهرات عارمة، شارك فيها 200 ألف متظاهر في العاصمة، 160 ألف منهم كانوا في شارع “كابلان” بوسط المدينة، فيما نظم عشرات الآلاف وقفات مشابهة في القدس وحيفا وبئر السبع، وعلى مفارق شوارع رئيسية، بحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت“.
وامتدت رقعة الاحتجاجات إلى داخل الجيش الإسرائيلي، حيث انضم إلى تلك التظاهرات عدد من ضباط وجنود وحدات قتالية نخبوية، هي سرية لواء “جولاني” ووحدة “إغوز” ووحدة “جبال الألب” التي تنشط في جبل الشيخ في الجولان المحتل، حسبما ذكرت القناة “13” الإسرائيلية، فيما كشفت الإذاعة العامة “كان” عن انضمام وحدة “راكب السماء” التابعة لسلاح المدفعية، وتعتبر وحدة نخبوية وتسير طائرات هجومية بدون طيار، للاحتجاجات.
وكتب الضباط المشاركون في الاحتجاجات عريضة كبيرة لحكومة نتنياهو أعربوا من خلالها عن رفضهم الاستمرار في التطوع والعمل داخل المؤسسة العسكرية حال أصرت الحكومة على دفع التشريعات المتعلقة بخطة إضعاف جهاز القضاء، وذكروا أن الوحدات المنضمة لتلك المسيرات “تقف منتصبة ضد القوى الظلامية وهذا الكفاح – رغم ما يحاول الائتلاف تصويره بمساعدة التشويه والأكاذيب – ليس كفاحًا على رأي أو تحليل وإنما هو كفاح الخير ضد الشر، والاستقامة ضد الفساد، والأخوّة ضد التحريض والانشقاق والكراهية”، كما تعهّد طيارو سرب النخبة في سلاح الجو الإسرائيلي بعدم حضور التدريب، فيما شارك نحو 37 طيارًا إسرائيليًا من 40 طيارًا احتياطيًا من السرب 69 في تلك المسيرات، في تصعيد احتجاجي غير مسبوق ضد الحكومة.
وردًا على هذا التصعيد توعد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير باتخاذ الإجراءات الصارمة بحق المتمردين المشاركين في الاحتجاجات، مضيفًا “لن نتوقف بسبب الابتزاز والتهديد، أولئك الذين يدعمون ظاهرة الاستنكاف، يجب أن نكون حازمين معهم للغاية وأن نعاملهم دون تسامح”.
غليان المشهد الداخلي أثار مخاوف رئيس دولة الاحتلال إسحاق هرتسوغ الذي خرج بتصريحات تعكس حجم القلق المتصاعد، لافتًا أن “إسرائيل” تعيش “أزمة تاريخية” يمكنها – إذا لم يتم حلها – تدميرها من الداخل، مؤكدًا أن بلاده تمرّ بإحدى “أصعب اللحظات” التي “نعرف جميعنا أنها خطر وطني كبير” وإدراك “البديل الرهيب المختبئ في الوضع خلف الباب”، حسب تعبيره.
ويمكن تقسيم المشهد الداخلي الإسرائيلي اليوم إلى قسمين: الأول يمثله فريق المعارضة والمحتجون ووحدات من الضباط والجنود ومعهم رئيس الدولة، هذا الفريق الذي لم يتوان عن التظاهر طيلة الأسابيع التسع الماضية، أما القسم الثاني فيمثله فريق نتنياهو وحكومته، وهو الفريق المتجاهل تمامًا لخطورة الموقف، ويصر على المضي قدمًا في تغولاته الداخلية وانتهاكاته بحق الفلسطينيين رغم التحذير من تداعيات ذلك على الأمن والاستقرار الداخلي لدولة الاحتلال والمستوطنين.
فريق يضغط ويوظف كل أدواته لإجبار الحكومة على النكوص عن مسارها التصعيدي تجاه الفلسطينيين من جانب والتراجع عن تعديلات منظومة القضاء من جانب آخر، وفريق يصب النار على الزيت، غير مبال لأي تداعيات محتملة، الأمر الذي يفتح الباب أمام عدة تكهنات بشأن ما هو قادم، على مستوى مستقبل حكومة نتنياهو أو ما يتعلق بالتطورات على المسار الفلسطيني.
للأسبوع التاسع على التوالي، خرج مئات الآلاف إلى الشوارع للاحتجاج على مخططات الحكومة الصهيونية للحد من سلطة القضاء.
ورصدت كاميرا القنوات الإخبارية احتجاجات المعارضة ضد حكومة بنيامين نتنياهو.
أكدت صحيفة هآريتس أن حوالي 200 ألف شاركوا في المظاهرات في #يافا تل أبيب فقط. pic.twitter.com/IK6fOwcvie
— نجاح محمد علي (@najahmalii) March 5, 2023
الأرض المحروقة.. إستراتيجية الهروب المتطرفة
أمام هذا المشهد بتلك التفاصيل وتصاعد مساحة ورقعة الاحتقان وتوظيف المعارضة له سياسيًا، ليس أمام نتنياهو وحكومته سوى سيناريوهين لا ثالث لهما: السيناريو الأول يتعلق بامتصاص غضب المحتجين والاستجابة لهم ولمطالبهم وذلك عبر مسارين: الأول التراجع عن الإجراءات المتخذة بحق السلطة القضائية وهي المحور الأبرز في قائمة مطالب المتظاهرين، الثاني: الإطاحة بوزيري المالية والأمن القومي من الحكومة، نزولًا على رغبة المعارضة والشارع بتنقية الوزارة من العناصر المتطرفة التي تهدد أمن المستوطنين من خلال تصريحاتهم ومواقفهم التي تشعل الشارع الفلسطيني وتذكي روح المقاومة بشقيها، الفصائلية والفردية.
غير أن هذا السيناريو سيكون له تبعاته المستقبلية على الحكومة الحاليّة، التي ستفقد الكثير من ثقلها كونها رضخت لإملاءات الشارع ومطالب المعارضة، ما يجعلها عرضة بين الحين والآخر لمثل تلك الممارسات التصعيدية مع كل خطوة أو قرار يتعارض مع المزاج العام الشعبي، ومن جانب آخر سيفقدها ثقة وتأييد اليمين المتطرف الذي يعد أحد أبرز المرتكزات الجماهيرية التي تستند عليها الحكومة الحاليّة.
أما السيناريو الثاني فهو العناد والصلف والاستمرار في المسار التصعيدي ذاته، وهو ما يهدد بتفاقم الوضع وتمدد خريطة الاحتجاجات التي ربما تصيب الساحة الإسرائيلية بالشلل التام، ما يفتح الباب أمام تدخلات قوية من المؤسسات العسكرية والشرطية التي قد تطيح بنتنياهو وتجبر الحكومة على الاستقالة والتحول نحو انتخابات قادمة.
ومن ثم، فقد يرى نتنياهو أن العودة إلى سياسة “الأرض المحروقة” هي الحل الأمثل للخروج من هذا المأزق، بما يجنبه الوقوع بين فكي العناد مع الشارع والرضوخ لإملاءاته، حيث إشعال حرب شاملة مع الفلسطينيين، الأمر الذي يجبر الإسرائيليين بشتى انتماءاتهم، حكومة ومعارضة، يمين ويسار ومحافظين، على التخندق في مواجهة هذا الخطر المتمدد مؤخرًا بفعل نجاحات المقاومة الفردية.
المؤشرات الأولية خلال الشهرين الأخيرين تذهب في هذا الاتجاه، رغبة ملحة في حرق أغصان الزيتون، وخلق معركة حامية الوطيس تجبر الكيان المحتل على التوحد رغم الخلافات السياسية بين تياراته، وهي السياسة التي سبق نتنياهو فيها رؤساء حكومات سابقين، غير أن في ذلك مغامرة ومقامرة قد تأتي برياح عكس السفن المسيرة، لتعجل بالإطاحة بتلك الحكومة التي بات من الواضح أنها لن تتخلى عن كراسيها بسلمية وسهولة.