في 4 مارس/ آذار 2023، أصدر القضاء العراقي أوامر بالقبض على 4 مسؤولين سابقين، بينهم وزير مال سابق ومقرّبين من رئيس الوزراء السابق، لاتهامهم بـ”تسهيل” الاستيلاء على 2.5 مليار دولار من الأمانات الضريبية.
والمسؤولون الأربعة الذين تستهدفهم مذكرات بالقبض عليهم وبحجز أموالهم، كانوا جزءًا من فريق رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، وهؤلاء موجودون في الخارج استنادًا إلى مسؤول بهيئة النزاهة الاتحادية، أحدهم كان رائد جوحي، ذراع الكاظمي اليمنى وشخصية لطالما تصدّرت المشهد العراقي.. فمن هو جوحي؟
البدايات: قاضي تحقيق
وُلد رائد جوحي عام 1971 في ميسان بالعراق، شغل العديد من المناصب في السياسة والقضاء، وتولّى العديد من المهام الإدارية في العراق، حتى أصبح من القضاة المشهورين، درس في جامعات العراق وحصل على البكالوريوس، ثم استمرَّ في تعليمه وحصل على الماجستير.
كان أول من حقّق مع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في أولى جلسات المحكمة، واستمر لمدة سنتَين، أما أهم المناصب التي شغلها فهي:
– مفتش في وزارتَي الداخلية والدفاع
– مدير لمكتب رئيس الوزراء العراقي الكاظمي
– رئيس لقضاة التحقيق في محكمة الجنايات العليا
– مديرًا لجهاز المخابرات العراقي
بدأ أول ظهور تحت الأضواء لجوحي في محاكمات الرئيس الأسبق صدام حسين، حين كان قاضي التحقيق الموكل بقضيتَي الدجيل -التي أُعدم على إثرها لاحقًا- وقضية الأنفال، حول الإبادة الجماعية ضد الأكراد خلال الحرب العراقية-الإيرانية، ويقول جوحي عن هذه المحاكمات إنه عمل مع أكثر من 60 محققًا و100 موظف منتشرين في عدة مكاتب بمحافظات مختلفة من العراق.
ليس المشاركة في محاكمة صدام ما جعل من جوحي شخصية مشهورة، إنما إصداره أمر قبض على الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر، وهي مذكرة لم يتمَّ تنفيذها بالطبع لكنها كانت ورقة سياسية يرفعها المالكي بوجه الصدر في فترته الأولى 2006-2010، والتي شهدت صدامًا داميًا عام 2008 انتهت بعملية عسكرية أطلقها نوري المالكي تحت عنوان “صولة الفرسان”، تصالح بعدها الطرفان ولو مؤقتًا.
عهد الكاظمي
الظهور القوي لرائد جوحي كان خلال فترة حكم رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، والذي جاء نتيجة ضغوط شعبية في مظاهرت تشرين عام 2019.
تقلّد جوحي منصب مدير مكتب رئيس الوزراء في يونيو/ حزيران 2020، وكان واضحًا أنه الذراع اليمنى للكاظمي، حيث كان يخاطب الوزراء ويؤنّبهم، وهو أمر يخضع بالضرورة لرئيس الوزراء وحده وليس لمدير مكتبه، كون الوزراء في مرتبة إدارية أعلى منه ضمن التسلسل التراتبي في العراق.
إذ أرسل جوحي كتابًا إلى وزير الصناعة وقتها منهل عزيز، أشار فيه إلى عدم تنفيذ الوزير العديد من الأوامر والتوجيهات الصادرة عن رئيس الوزراء، مذكّرًا بالصلاحية الدستورية للأخير في إقالة الوزراء ومتابعة أدائهم، وأن الامتناع عن تنفيذ الأوامر يعدّ مخالفةً لأحكام الدستور والنظام الداخلي، ويتحمّل الوزير المختص مسؤوليته المترتبة وكذلك المسؤولية الجزائية.
وشدد الكتاب على اعتبار الإجراءات المتخذة خلافًا لأوامر الكاظمي باطلة وعديمة الأثر، وأن على الوزير تنفيذ أوامر وتوجيهات رئيس الوزراء وإلغاء كافة القرارات الصادرة بهذا الشأن خلال 72 ساعة، وبخلافه سيتم اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه، ما أثار حفيظة تحالف قوى الدولة التي رأت في الأمر محاولة لفرض الوصاية على الوزراء، وهو أمر يتجاوز دور مدير المكتب.
بعد عامَين على ذلك، تمَّ تعيين رائد جوحي في أحد أكثر المناصب الحسّاسة في العراق: جهاز المخابرات. يعد الجهاز من المؤسسات السيادية التي ترتبط برئيس الوزراء مباشرة، لكنه لم يقضِ فيه إلا عدة أشهر، بعد قرار من رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني بإقالته، قبل إصدار مذكرة قبض بحقّه في مارس/ آذار 2023 بتهمة الضلوع في سرقة القرن.
سرقة القرن
لفهم الاتهامات التي يواجهها رائد جوحي في سرقة القرن، علينا العودة في تسلسل الأحداث التي أفضت إلى إحدى أكبر عمليات النهب المنظَّم في التاريخ المصرفي العراقي.
تقول صحيفة “الغارديان” البريطانية إنه تمَّ الكشف عن المخطط في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، عندما كشف تدقيق داخلي أجرته وزارة المالية العراقية أن الهيئة العامة للضرائب دفعت بشكل احتيالي حوالي 3.7 تريليونات دينار عراقي، أو ما يعادل نحو 2.5 مليار دولار، لـ 5 شركات.
سُددت تلك المدفوعات بواسطة 247 شيكًا تمَّ صرفها خلال فترة 9 سبتمبر/ أيلول 2021-11 أغسطس/ آب 2022، من فرع في مصرف الرافدين الذي تديره الدولة والموجود داخل الهيئة العامة للضرائب، حيث ضمَّ الحساب مليارات الدولارات من ودائع الشركات التي كان من المفترض إعادتها إليها بمجرد خصم الضرائب، وكانت الشركات قد قدّمت بيانات مالية محدّثة.
أجرى القائم بأعمال وزير المالية آنذاك، إحسان عبد الجبار، الذي شغل أيضًا منصب وزير النفط، التدقيق، واكتشف السرقة بعد تلقي شكاوى من شركة نفط لم تتمكن من استعادة ودائعها الضريبية، وفقًا لمسؤول بارز مطّلع على التحقيق، قال إنه عندما استفسر الوزير عن الرصيد المتبقي في الحساب، قالت هيئة الضرائب إن به 2.5 مليار دولار، لكن مزيدًا من التدقيق كشف أن الرصيد الفعلي تراجع إلى 100 مليون دولار فقط، كان ذلك أول مؤشر على السرقة الهائلة.
قبل التدقيق، أعرب قسم مكافحة غسيل الأموال في مصرف الرافدين عن قلقه لوزارة المالية من المعدل الكبير للسحوبات النقدية، وكان الوزير السابق قبل عبد الجبار، علي علاوي، قد طلب أن يوافق مكتبه على أي سحوبات كبيرة، لكن كبار مديري هيئة الضرائب تجاهلوا الطلب، حسبما ذكر المسؤول.
استقال الوزير الأسبق علاوي في أغسطس/ آب احتجاجًا على الفساد والتدخل الأجنبي في الشؤون العراقية، وقبل أسابيع من صرف الشيكات الأولى ألغت السلطات جزءًا رئيسيًّا من عملية الرقابة، بدعوى أن الشركات اشتكت من فترات الانتظار الطويلة.
جاء قرار عزل ديوان الرقابة المالية الاتحادي من العملية بناء على طلب النائب هيثم الجبوري، الذي كان يرأس حينها اللجنة المالية البرلمانية، ووجدَ التدقيق أن الشركات التي تم تأسيس ثلاث منها قبل أسابيع فقط من سداد المدفوعات، قدمت مستندات مزوّرة لتتمكن من المطالبة بالدفعات، وبالطبع لم يتمكن المدققون من متابعة الأموال لأنه تمَّ سحبها نقدًا.
لنعد الآن إلى الجزء الأهم من القصة.. حين ألغت السلطات دور الرقابة المالية، حيث علينا العودة إلى سلسلة من المخاطبات الرسمية لفهم القصة من جهة أخرى، وهو ما تظهره سلسلة المخاطبات الرسمية الآتية:
– أصدر رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، كتابه المرقم (م رو/5/ 3047) بتاريخ 26 فبراير/ شباط 2017، بتكليف ديوان الرقابة المالية بتدقيق جميع معاملات إعادة مبالغ الأمانات الضريبية والجمركية بدءًا من 1 يناير/ كانون الثاني 2015، واستمرَّ العمل بهذا الكتاب لغاية منتصف عام 2018.
– بتاريخ 13 يوليو/ تموز 2021 وجّهت اللجنة المالية برئاسة هيثم الجبوري كتابها المرقم 2121، والمعنون إلى وزير المالية علي علاوي مقترح (يتم تدقيق معاملات مبالغ إعادة الأمانات من قبل الهيئة العامة للضرائب فقط)، ما يعني إلغاء دور ديوان الرقابة المالية بالتدقيق.
– في 1 أغسطس/ آب 2021، أي بعد 17 يومًا من كتاب اللجنة المالية، أرسل مدير عام هيئة الضرائب كتابًا إلى وزير المالية علي علاوي يطلب حصر عملية تدقيق مبالغ إعادة الأمانات الضريبية بالهيئة العامة للضرائب، دون الحاجة إلى تدقيق ديوان الرقابة المالية تماشيًا مع طلب اللجنة المالية في مجلس النواب.
– في 1 أغسطس/ آب 2021، أي في اليوم نفسه الذي أرسل فيه كتاب مدير عام هيئة الضرائب، صدر كتاب من مكتب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي (رائد جوحي) المرقم م ر و/س/د7/ 12772، يشير إلى إلغاء القرار السابق الذي صدر في وقت حيدر العبادي وإلغاء دور ديوان الرقابة المالية في التدقيق.
– في 3 أغسطس/ آب 2021 طلبت اللجنة المالية برئاسة هيثم الجبوري بكتابها المرقم 2126 العمل بما جاء بكتاب مكتب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي أشرنا إليه، بإلغاء تكليف ديوان الرقابة المالية بتدقيق المعاملات المالية.
بعد كل هذه التوصيات والكتب، وافق وزير المالية علي علاوي على أن يكون حصر التدقيق لدى الهيئة العامة للضرائب دون الحاجة إلى تدقيق ديوان الرقابة المالية، وهو ما يظهر تواطؤًا كبيرًا في القيادة العليا مع الشرقية، وتسهيلًا متعمّدًا لتخفيف قيود صرف الأموال من قبل أعلى سلطة في البلد، والتي اُستعملت فيها سلطات رئيس الوزراء عن طريق مدير مكتبه: القاضي رائد جوحي.