نستعير العنوان من عصمت سيف الدولة ولا نذهب إلى مناقشة نظريته القومية، لكن بدا لنا العنوان مناسبًا لوصف سيرة الرئيس التونسي، بعد أن أصدر فرمان حلّ المجالس البلدية المنتخَبة (المرسوم عدد 9 لسنة 2023) قبل نهاية مدتها النيابية، وفي الوقت الذي كان كثيرون ينتظرون عقد جلسة البرلمان الأولى، نزل عليهم خبر حلّ المجالس البلدية.
إحالة الإدارة البلدية إلى المحافظ (الوالي) المعيَّن، وعدم تحديد موعد انتخابي (أجل غير مسمّى)، هذه السيرة القديمة الجديدة هي الطريق المسدود. نحاول فهم دواعي الفرمان أو بالأحرى “نضرب الودع”، فنحن لا نفهم كيف يفكر الرئيس، ونتخيّل القادم دون انتخابات، ونسأل أين القوة الناخبة المتعددة التي صعدت مجالسها وتسكت الآن عن حلّها بفرمان إمبراطوري؟
التسيير المحلي بالانتخاب شرّعته الثورة
احتوى دستور 2014 على باب سابع عنوانه الحكم المحلي، وأقام هذا الباب تصوره على أن تكون كل الهيئات في المحلي منتخَبة من قبل المحليين، وكان هاجس المؤسسين هو قطع الطريق على التعيين الفوقي الذي مارسته كل الحكومات منذ الاستقلال، ليتمَّ تحرير المحلي من قبضة المركزي وتدريبه على حكم نفسه.
لم يطبَّق الباب السابع بحذافيره، لكن بدأت أول عمليات تنزيله بوضع قانون البلديات، وبعد فترة من تعيين مجالس تسيير مؤقتة أمكن للتونسيين تنظيم أول انتخابات لمجالس بلدية، وكانت انتخابات تعددية شاركت فيها كل الأحزاب وكشفت خريطة سياسية محلية جديرة بالدراسة، وأوشكت التعددية أن تعيق عملها لولا كثير من التنازلات والتوافقات رأيناها في حينها كعلامة على تدريب ديمقراطي فعّال ومؤثّر.
ظهرت نواقص في القانون، لكن ظهرت ضرورة التعايش والتسيير المشترك، ونجحت بلديات كثيرة في التقدم بجهاتها ومحلياتها، ورأى الناس في أماكن كثيرة نتيجة العمل الديمقراطي المسؤول.
ألغى الانقلاب دستور 2014 بالتدريج، وتغافل عن المجالس المنتخبة على قاعدته حتى صدور الفرمان ليلة التاسع من مارس/ آذار على الساعة الثانية ليلًا، ونحن اليوم بلا مجالس بلدية في انتظار التعيين.
إنهاء الأجسام الوسيطة والهيئات المنتخَبة
فهمنا وبعد فوات أوان الفهم أن الرئيس لا يحتمل الأجسام الوسيطة بين السلطة والشعب، لذلك استهان بالأحزاب والنقابات وتقدّم على أرض بور ليعيد اختراع السياسة، وربما العجلة أيضًا.
ويظهر أن حلَّ المجالس البلدية يأتي في هذا السياق ليستكمل الرئيس مسح الطاولة والشروع في بناء نظامه، دون أي جسم وسيط أو إجراء يسمح بعودة الأجسام الوسيطة، سيبقى أمامه الفئات نفسها (الـ 10% من حيث الحجم) غير المنظمة حزبيًّا، لتتولى أمر العمل البلدي، وهو نصف عمل الدولة نفسها إن لم يكن ثلثاه.
لقد انكشف لنا ملمح نواب البرلمان المنتخب بقانون الانقلاب ودستوره، ولم نرَ ما يطمئن على المستقبل (بقطع النظر عن رفضنا الانقلاب ودستوره)، فالنواب الجدد أفراد بلا تجربة ولا تاريخ سياسي أو نضالي ولا خبرات مكشوفة للناس، وإذا كان البرلمان بلا صلاحيات أمام سلطة الرئيس حسب دستوره بحيث يمكن تجاهل دوره ووجوده، فإن النائب البلدي سيمارس في التفصيل المحلي، حيث سيعايش الناس ويعرفون قدراته الحقيقية.
هل سيجد الانقلاب ضمن الـ 10% الذين شاركوا في انتخابات البرلمان ما يكفي لتسيير مئات من المجالس البلدية، نحن في وضع المتفرّج الآن، ونوشك أن نقول في وضع المستسلم، فالذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها زمن الديمقراطية على تقسيم المكاتب والمواقع، يصمتون صمت القبور على ما يقوم به الانقلاب من إجراءات تتحدّى بالدرجة الأولى مصداقيتهم السياسية، إنهم يتعرضون إلى عملية إلغاء متدرّجة ولا يحركون ساكنًا، ما يجبرنا على طرح السؤال: هل آمنوا يومًا بالديمقراطية؟
هل نشمت بالأحزاب؟
لن نشمت بأحد ولن نبحث عن أعذار لأحد، فليس هذا قصدنا، إنما نحن نقف على حقائق فاجعة، مكونات المشهد السياسي الحزبي والنقابي في تونس لم تتألم لخسارة مكاسبها، لأنها لم ترَها مكاسب ديمقراطية تتجاوز الحزبي إلى الوطني، إنما مكاسب فردية وقد اُنتزعت منها، ولا نظنها إلا تفكر في تعويضها بمكاسب أخرى بغير طريق الديمقراطية، بما في ذلك احتمال التسرُّب من جديد بأسمائها الفردية لكل موقع يعدُ بفائدة.
وهذا الأمر يعيدنا إلى قراءة البدايات التي أدّت إلى كارثة الانقلاب، فالنخبة السياسية لم تؤمن فعلًا بالديمقراطية لذلك فرّطت بما اُكتسب بها بسهولة.
نتفاجأ نعم، لكن نعود إلى الرشد، تقدُّم مشروع الرئيس (حكم فردي عبقري أو هلوسات ديكتاتور مريض) لحلّ المجالس المنتخبة وإحالة الأمر إلى المعيّنين من قبله بكل سلاسة يكشف أن النخبة لم تكن في مستوى الديمقراطية، فهذا التقدُّم على حساب الديمقراطية يبني ويستمدّ قوته من قناعة المنقلب أن ليس له معارضون صادقون في إيمانهم بالديمقراطية، إنه يحوّل كل المشهد الحزبي إلى مسخرة وهو مطمئن أن لن يعترض طريقه أحد.
لقد كانت إحدى وسائل الاحتجاج على الانقلاب ومنذ ساعاته الأولى هي استقالة المجالس المنتخبة وخلق وضع يتحمّل فيه المنقلب كل المسؤوليات من أكبر وزارة إلى أصغر بلدية، لكن المجالس ظلت تعمل بلا مرجعيتها التي اُنتخبت على أساسها (مع التذكير الضروري بأن أحزابًا كثيرة وقفت مع الانقلاب متخلية عن الدستور الذي حوّل لها المشاركة في الحكم).
ولا نرى في ذلك إلا تمسُّكًا غبيًّا بالمواقع، وهو التعبير الكاشف عن فقدان الأحزاب لخريطة عمل ديمقراطي. لا داعي إذًا أن نأمل من هذه الأحزاب أن تقوم الآن بأي احتجاج على حلّ المجالس أو على الشروع في التعيينات الفوقية، فهذه من تلك، ومنها حلّ الأحزاب قريبًا، فهي آخر الأجسام الوسيطة الباقية على الورق لا على الأرض.
ننتظر في الساعات القادمة صدور بيان يعبّر عن انشغال الإدارة الأمريكية بالوضع الديمقراطي في تونس، مع توصيات حنونة بضرورة العودة إلى الديمقراطية، يليه بيان الاتحاد الأوروبي، ثم بيان الخارجية الفرنسية، ثم ظهور علامات الطمأنينة في فيسبوك التونسي بوجود أصدقاء لنا في كل مكان.
ليكن أمام الانقلاب وأنصاره أن يتصدوا لرفع مزابل المدن التونسية كما فعلوا في صفاقس. سيكون أمام الناس بلا وسائط يعلق عليها خيبته.