اتسعت دائرة الاحتجاجات في المجتمع الإسرائيلي على خلفية الإصلاحات القضائية التي تعمل حكومة بنيامين نتنياهو على تمريرها، لتشمل قطاعات حسّاسة في الكيان منها الجيش بوحداته المختلفة، كالطيّارين والنخبة وجنود الاحتياط ووحدات السايبر.
وشهدت الأسابيع الأخيرة التحاق ضباط وجنود احتياط في وحدات استراتيجية في جيش الاحتلال إلى المحتجّين على خطة “التعديلات القضائية”، إذ تعتبَر قوات الاحتياط مركزية في الفعل والعقل العسكري الإسرائيلي لما تمثله من “مخزون” يجري استثماره في العمليات والحروب على الفلسطينيين والعرب.
كما تمثّل فرعًا هامًّا في مفهوم “جيش الشعب” الذي حاولت قيادات الحركة الصهيونية قبل وبعد قيام دولة الاحتلال تكريسه في العقل الجماعي لمجتمع المستوطنين، وهو المفهوم الذي تضرّر في السنوات الأخيرة، في ظلّ الانتقادات من جانب ضباط وقادة عسكريين سابقين لإهمال تدريب قوات الاحتياط والضعف خاصة في سلاح البرّ، الذي ظهر في الحروب التي خاضتها “إسرائيل” مع قوى المقاومة.
وأصبح ما يجري تهديدًا يتزايد يوميًّا أمام المؤسسة العسكرية في جيش الاحتلال، وهو تزايد ظاهرة “الامتناع عن الخدمة الإجبارية”، خاصة مع إعلان ضباط وجنود احتياط عن إحجامهم عن الاستجابة لطلبات التدريب والتجنيد احتجاجًا على خطة “التعديلات القضائية”، وهو ما دفع رئيس أركان جيش الاحتلال، هيرتسي هليفي، إلى تحذير نتنياهو من تبعات هذه الظاهرة على قدرة الجيش على مواجهة التحديات التي تتزايد في الميدان.
ويعدّ سلاح الطيران استراتيجيًّا بالنسبة إلى الإسرائيليين، لا سيما على الصعيد العملياتي، في الوقت الذي أعلن فيه عشرات الطيارين الاحتياطيين مقاطعة التدريبات ورفض المشاركة في أي مهام، في ضوء ما يسمّيه نتنياهو وائتلافه “الإصلاحات القضائية” ومعارضوه “الانقلاب القضائي”.
خاضت خطة الإصلاحات القضائية مرحلتَين تشريعيتَين أخيرًا، الأولى المصادقة عليها أمام اللجان المختصة بالكنيست، والثانية التصويت عليها بالقراءة التمهيدية، فيما يُفترض أن تخضع للتصويت بالقراءتين الثانية والثالثة قبل المصادقة النهائية عليها.
في الوقت ذاته، لوّحت وحدات السايبر بالامتناع عن الخدمة في حال إقرار خطة “التعديلات القضائية”، في رسالة وُجّهت إلى قادة جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “الشاباك”، ما يعكس حجم الأزمة التي تعصف بالجيش في الفترة الحالية.
وتعتبَر رسالة رؤساء القوات الجوية الإسرائيلية “الأحياء”، الذين خدموا جميعًا في نقاط مختلفة تعود إلى عام 1953، التي بعثوها إلى نتنياهو ووزير الجيش يوآف غالانت، دلالة على حجم التحدي الذي وصلت إليه مؤسسة الجيش، وتفيد الرسالة بأنهم كانوا “يرتعدون” من تأثير الإصلاح القضائي للحكومة بشأن جاهزية طياري الجيش الإسرائيلي.
وبحسب الخطاب، فإن جميع الموقّعين “يتابعون بقلق عميق العمليات التي تجري في دولة “إسرائيل” وفي سلاح الجو خلال هذه الفترة الزمنية، والخطر الجسيم والملموس الذي يمثله ذلك على الأمن القومي لـ”إسرائيل””، حسب الرسالة.
ومن بين الموقّعين الميجور جنرال دان تولكوفسكي، الذي شغل منصب قائد القوات الجوية الإسرائيلية فترة 1953-1958، وأميكام نوركين الذي كان قائدًا للقوات الجوية حتى أبريل/ نيسان 2022، رؤساء القوات الجوية الأربعة الذين غابت أسماؤهم عن الرسالة هم من الأموات.
ويثير انضمام ضباط وجنود الجيش، من أذرعه المختلفة، إلى موجة الاحتجاجات ضد خطة الإصلاحات الخاصة بوزير القضاء ياريف ليفين، والمدعومة من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مخاوف كبيرة عبّرت عنها قيادات بالجيش الإسرائيلي في وقت سابق.
وخاضت خطة الإصلاحات القضائية مرحلتَين تشريعيتَين أخيرًا، الأولى المصادقة عليها أمام اللجان المختصة بالكنيست، والثانية التصويت عليها بالقراءة التمهيدية، فيما يُفترض أن تخضع للتصويت بالقراءتين الثانية والثالثة قبل المصادقة النهائية عليها.
قراءة في الأزمة.. هل الانقلاب القضائي السبب الوحيد؟
لا يمكن حصر الاحتجاجات التي تقوم بها وحدات الجيش المختلفة داخل الكيان الإسرائيلي في تداعيات الانقلاب القضائي الذي يسعى الائتلاف برئاسة نتنياهو إلى تمريره، لا سيما أن واقع مؤسسة الجيش يشهد حالة من التململ على صعيد التجنيد منذ سنوات.
وتسيطر حالة من الشعور بالظلم لدى وحدات الاحتياط على وجه الخصوص، أو ما يعرَف بـ”جيش الشعب”، نتيجة عدم حصولهم على امتيازات كافية بعد أداء الخدمة العسكرية وتسريحهم، وبالتالي أصبحوا جزءًا لا يتجزّأ من الحركات الاجتماعية والسياسية، كنوع من التفاوض مع النظام القائم على حقوقهم.
ويبدو أن سلوك الاحتياطيين الحالي محاولة لإثبات وجودهم في الساحة السياسية الإسرائيلية كتجمُّع وتكتُّل موجودَين، وهي محاولة للتفاوض الخفي، وكأنها محاولة من قبل الجنود الاحتياط لإثبات صداهم وحضورهم، ما عزز من تصدُّرهم للمشهد في الاحتجاجات على التعديلات القضائية.
وسابقًا حضر جنود الاحتياط في عدد من الاحتجاجات الداخلية ضمن مساعيهم الخفية لانتزاع حقوقهم، في ظل إهمال الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لهم، والواقع الاقتصادي الداخلي الذي يصنّفهم على أنهم من الطبقة المتوسطة في الغالب.
ومن ضمن الأسباب التي تعزز من تصدُّر الاحتياط لمشهد الاحتجاجات داخل الجيش الإسرائيلي، أن معظمهم غير محسوبين على اليمين الإسرائيلي، كون انخراط اليمين الديني الإسرائيلي في الجيش كان متأخرًا وبدأ بعد عام 1995، وبالتالي معظم المؤثرين في وحدات الاحتياط وكبار الجنرالات محسوبين على الغربيين واليسار والوسط الإسرائيلي.
ويرجع سبب رفض هؤلاء للتعديلات أو “الانقلاب القضائي” لأسباب اقتصادية من ناحية تتمثل في تأثيرها على الاقتصاد الإسرائيلي، كون معظم قادة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي ليسوا من اليمين بالأساس ومحسوبين على اليسار والعلمانيين والأشكناز.
التأثير والتداعيات.. هل يمثل ما يجري خطرًا وجوديًّا؟
قبل الخوض في التأثيرات والتداعيات، يجب لفت الانتباه هنا إلى تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، الذي حذّر من خطورة ما يجري من قبل وحدات الجيش المختلفة، لا سيما الاحتياط، إذ قال: “إن ما يجري يمثل خطرًا على وجودنا”.
ومن هنا يجب الإشارة إلى نموذج الخدمة الإلزامية الذي اعتمد عليه الجيش الإسرائيلي منذ إنشائه قبل قيام “إسرائيل”، إذ جرى اعتماد نموذج الميليشيات التي ينضمّ إليه الشباب من مختلف طبقات وفئات الشباب تحت تأثير الشعور بتهديد وجودي.
وعند البحث في الأسباب التاريخية التي دفعت قادة “إسرائيل” إلى اعتماد هذا النموذج، يتبيّن أنه في نهاية حرب 1948 بلغ عدد جنود الجيش الإسرائيلي حوالي 100 ألف جندي، وكان التوجُّه السائد لدى غالبيتهم بترك الخدمة العسكرية، وخلال عام من انتهاء الحرب وصل عدد الجنود إلى 35 ألف جندي.
ومنذ ذلك الوقت تحاول “إسرائيل” عبر منظومتها العسكرية الحفاظ على قوة عددية وكادر بشري عسكري ضخم في منظومة الجيش، كونها تعتبر نفسها في صراع مستمر مع الفلسطينيين، بالإضافة إلى الجبهات المتفجرة الأخرى مثل سوريا ولبنان واللاجئين في الأردن.
تبرز خطورة المنضوين في إطار قوات الاحتياط في رفض الخدمة العسكرية، حيث إن أكثر من 70% من الجهد الحربي الذي ينفّذه جيش الاحتلال تتولاه هذه القوات.
وبالتالي هناك شعور إسرائيلي شبه دائم بحاجتها إلى عدد كبير من الجنود في وقت من الأوقات أو معركة من المعارك، بالإضافة إلى اعتبارها أن موضوع الاحتياط تجديد للروح العسكرية في المجتمع الإسرائيلي، وأن هذا المجتمع يجب أن يبقى بطابع قتالي وعسكري باعتباره مجتمعًا تحت التهديد.
وإلى جانب ذلك، فإن ملف الاحتياط بالنسبة إليهم هو ثقافي واجتماعي، وحالة الانخراط المستمر تؤثر على التكوين الاجتماعي والثقافي للأفراد، من ناحية النظر إلى الجيش والدولة، وهو أمر يعزز من حالة الانتماء إلى مؤسسة الجيش الذي تسعى غالبية الحكومات الإسرائيلية لإبقائه محل إجماع في الحياة الإسرائيلية.
أما من ناحية استراتيجية، فإن دخول الجنود على خط الاحتجاجات الشعبية له علاقة بتوجُّه عام في المجتمع الإسرائيلي، نحو اعتبار الخدمة العسكرية أنها نوع من أنواع العبء، كون المجتمع تأثر بثقافة “السوق” أو ما يعرَف بـ”النيوليبرالية”، وباتت ثقافة الاستثمار والتكنولوجيا هي من تمنح رأس المال وليس الخدمة العسكرية.
أما عن خطورة تهديد المنضوين في إطار قوات الاحتياط، فتبرز في رفض الخدمة العسكرية لحقيقة أن أكثر من 70% من الجهد الحربي الذي ينفّذه جيش الاحتلال تتولاه هذه القوات، ما يعكس حجمها الحقيقي وحضورها أوقات المعارك والحروب.
عصيان عسكري.. ماذا لو اشتعلت الحرب غدًا؟
يشكّل ما يجري حاليًّا نموذجًا مصغّرًا لحالة العصيان العسكري، في ظل امتناع المئات عن الخدمة العسكرية وإرسال رسائل بذلك، والتحريض على المشاركة في الاحتجاجات كما يعلن الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، غير أن ما يجري يطرح تساؤلًا بارزًا: ماذا لو اشتعلت الحرب غدًا؟
في ضوء التحركات السياسية الأخيرة، من غير المستبعَد أن يلجأ نتنياهو إلى توجيه ضربة عسكرية محدودة لإيران على خلفية برنامجها النووي، أو حتى إمكانية الدخول في حرب مع المقاومة في ظل تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية لمستويات غير معهودة.
ومن ناحية عسكرية وعملياتية، فإن امتناع الجنود أو تقصيرهم عن أداء الخدمة سيلحق ضررًا عسكريًّا بالإسرائيليين، غير أن التجارب أثبتت أن الحروب تعزز حالة الوحدة أكثر من غيرها، لذلك يرى جميع المراقبين للمشهد الإسرائيلي في ضرورة إبعاد شبح الحرب مرحليًّا أمرًا ضروريًّا، للاستفادة من التناقضات السياسية الداخلية.
بالمحصلة، عملت الأزمة السياسية الإسرائيلية على زيادة الشرخ داخل المنظومة المجتمعية والاقتصادية بوتيرة غير معهودة، وإن كانت خفية في السنوات الماضية، إلا أن ظهورها للعلن سيسهم في زيادتها لاحقًا بما يعزز تفكُّك المجتمع الإسرائيلي.