دخلت سفارتا بريطانيا وروسيا بالسودان في سجال بمواقع التواصل الاجتماعي هو الثاني من نوعه في أقل من عام، بلغة خشنة بعيدة كل البُعد عن الهدوء الدبلوماسي، في ظل صمت رسمي من وزارة الخارجية.
وبدأت الملاسنات عندما علقت السفارة الروسية في العاصمة الخرطوم على تقرير صحفي، يتحدث عن محاولات السفارة البريطانية إقناع سودانيين درسوا في الجامعات الأوكرانية بتنظيم احتجاجات أمام مقرّ وزارة الخارجية السودانية ضد روسيا، مع تعهُّدات بمنحهم مبالغ مالية وحمايتهم من قوات الأمن.
وأشارت السفارة الروسية، في تعليقها، إلى أنه “لا يوجد دخان من دون نار”، في تأكيد صريح على آثار الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا، التي بسببها اندلع التراشق الإسفيري العنيف.
وقالت إن هذا التقرير الصحفي يُشير إلى أن الهستيريا المعادية للروس في لندن لا تحصل استجابة من أصدقائها السودانيين، وتضيف: “إن الأساليب القذرة للسفارة البريطانية تشهد فقط على ضعفها وتجاهلها التام لقواعد الممارسة الدبلوماسية المعترف بها عالميًّا”.
هذا التعليق أثار حفيظة السفير البريطاني في السودان جايلز ريفر، ليقول إنها “أكاذيب صارخة. أنا واثق من أن الجمهور السوداني أذكى من أن ينخدع بمحاولات روسيا المثيرة للشفقة والمضحكة للأخبار الكاذبة”.
Blatant lies. I am confident that the Sudanese public is too smart to be fooled by Russia’s pathetic and laughable attempts at fake news. The REAL story remains Russian’s illegal, unprovoked and barbaric invasion of Ukraine, and the untold suffering it has caused. https://t.co/zUi1u4iSvt
— Giles Lever (@GilesLeverUK) March 6, 2023
لماذا التراشق في السودان؟
لم يكن هذا السجال الأول من نوعه، ففي 6 يونيو/ حزيران 2022 غرّد جايلز ريفر مستنكرًا أحاديث السودانيين عن تدخل بلاده في شؤون السودان الداخلية، قائلًا: “أولئك الذين يتّهمون المملكة المتحدة بالتدخل في شؤون السودان الداخلية، هل سيقولون شيئًا عن الأنشطة الروسية الموصوفة في هذا المقال؟ أم سيبقون صامتين؟”.
وأرفق جايلز في تغريدته على موقع تويتر تحقيقًا صحفيًّا نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، عن أنشطة روسيا في تعدين وتهريب الذهب من السودان مقابل دعم سياسي وعسكري تقدّمه للحكام العسكريين.
يُعد هذا التراشق أحد تمظهرات الصراع الخفي الذي تديره الدول الغربية ضد روسيا في السودان، حيث بدأ الأخير بشكل غير معلن في تنفيذ أجندة الغرب.
ووصفت السفارة الروسية تعليق جايلز ريفر بالفارغ، وقالت إن “الدور الروسي المزعوم في السودان لا يُثير إلا سخرية وشكوكًا في مهارة كاتب المقال وقارئه المعلق عليه.. يا شباب، يكفي تضخيم ما لستم مقتنعين به من الحقائق تضليلًا للرأي العام في السودان والعالم بأسره. عاشت صناعة الأخبار المفبركة الأنجلوساكسونية”.
وفي 28 سبتمبر/ أيلول 2022 انتقدت السفارة الروسية، بلغة عنيفة، تصريحًا أدلى به السفير الأميركي جون غودفري لصحيفة محلية، حذّر فيه السودان من عواقب موافقته على إقامة قاعدة روسية بحرية على ساحل البحر الأحمر.
وقالت إن السفير الأمريكي “على ما يبدو، وبسبب قلة خبرته، وكذلك استنساخه لتعاملات وزارة الخارجية الأمريكية المتعالية، بعيدًا كل البُعد عن الملاءمة الدبلوماسية، يحاول السفير الأمريكي، مثل أسلافه، أن يتكلم مع الشعب السوداني بلغة التهديدات والإنذارات النهائية في شأن سيادة الخرطوم في سياساته الخارجية”.
تحاول كل سفارة اتهام الأخرى بالتدخل في شأن السودان المحلي، ومن خلال التصريحات ترى موسكو أن لندن تتدخل في شأن الخرطوم، بينما ترى بريطانيا أن روسيا تتدخل من خلال مجموعة فاغنر وأنشطتها المختلفة في البلاد.
ويُعتبَر هذا التراشق أحد تمظهرات الصراع الخفي الذي تُديره الدول الغربية ضد روسيا في السودان، إذ بدأ الأخير بشكل غير معلن في تنفيذ أجندة الغرب بإيقافه مؤقتًا أنشطة شركة الصولج العاملة في معالجة مخلفات التعدين في منطقة العبيدية شمالي البلاد.
وأُوقف نشاط الصولج بعد أن ضبطت الشرطة في 15 يناير/ كانون الثاني المنصرم، مدير الأمن والسلامة فيها، سيرغي كروبنوف، أثناء محاولته تهريب 7 كيلوغرامات من الذهب، لتحقق معه النيابة قبل أن يشمل التحقيق 35 روسيًّا يعملون في الشركة، ولا تزال التحقيقات جارية.
وجرى تحويل اسم شركة الصولج من ميروقولد عقب الانقلاب الذي نفّذه الجنرال عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، رغم قرار لجنة معنية بتفكيك بنية نظام الرئيس المعزول عمر البشير إيقاف إجراءات تحويل الاسم لشكّها في أنشطتها، خاصة أن القانون السوداني يمنع الشركات الأجنبية من العمل في معالجة مخلفات التعدين.
ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة النيلين السودانية، مصعب محمد علي، إن السجال بين سفارتَي لندن وموسكو في الخرطوم يأتي في سياق تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، التي امتدَّ تأثيرها على العديد من الدول في العالم، لا سيما السودان الذي تتنافس حوله مجموعة من الدول بما فيها روسيا وأميركا وبريطانيا.
ويشير، خلاله حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن السجال المتجدّد بين حين وآخر بين السفارتَين؛ تعبير عن شكل الصراع والتنافس الكبير في السودان بين روسيا وبريطانيا، كما أن تكرار التصريحات المتبادلة يوضّح أن الصراع بلغ درجة وصلت إلى الردود بينهم على منصات التواصل الاجتماعي.
ويعتقد مصعب إن ملاسنات السفارتَين تعدّ تدخلًا في الشأن الداخلي، وتحاول كل سفارة اتهام الأخرى بالتدخل في شأن السودان المحلي، ومن خلال التصريحات ترى موسكو أن لندن تتدخل في شأن الخرطوم، بينما ترى بريطانيا أن روسيا تتدخل من خلال مجموعة فاغنر وأنشطتها المختلفة في البلاد.
ويضيف: “يمكن القول إن السودان أصبح الآن ساحة للتنافس بين عدة دول، تحاول كل دولة أن يكون لها تأثير فيه، وبالتالي أتوقع أن يستمر الصراع لفترة طويلة يحدث خلالها تصعيد واستقطاب من قبل هذه الدول، حتى تجد لها موقعًا يمكن أن تستفيد منه في سياق المصالح التي تحاول أن تكسبها كل دولة”.
الصراع الخفي
يرى المحلل السياسي طلال النور أن صمت وزارة الخارجية السودانية حول سجال سفارات أمريكا وبريطانيا وروسيا، يأتي بسبب عدم امتلاكها رؤية واضحة لكثير من القضايا، نظرًا إلى تعدد مراكز السيطرة في الحكم العسكري وعدم الاستقرار السياسي.
ويقول النور لـ”نون بوست” إن واشنطن ولندن وموسكو تعمل بجدّية لتعزيز نفوذها في الخرطوم، خاصة فيما يتعلق بالوضع السياسي، إذ تدعم روسيا القوى الحليفة للحكّام العسكريين ونظام الرئيس المعزول عمر البشير، فيما تساند الدول الغربية القوى المنادية بالانتقال المدني والديمقراطية، وهذا ما يُظهر الخلاف إلى العلن في شكل ملاسنات إسفيرية.
يحاول الغرب وروسيا تأمين مصالحهما في السودان التي قد تكون ليست في صالح مواطنيه، عبر استغلال الأزمة السياسية التي ربما بسبب هذا الصراع تطاول أمدها.
ويشير إلى أن أميركا وحلفاءها الغربيين يعملون على تقليص نفوذ روسيا المتمثل في أنشطة مجموعة فاغنر في تعدين الذهب، وعرقلة عزمها إقامة قاعدة عسكرية بحرية على ساحل البحر الأحمر، حيث وافق الحكم العسكري على إقامتها لكنه اشترط أن تكون الموافقة النهائية بيد المجلس التشريعي المنتظَر تشكيله.
ويوضّح أن الدول الغربية، بدورها، تحاول تأمين تعاونها مع السودان في مكافحة الإرهاب، وتحثّه على إقامة علاقات دبلوماسية مع “إسرائيل” بعد أن اعترف بها، علاوة على تهيئة الأوضاع من أجل الاستثمارات المحتمَلة في المستقبل.
ومثل مصعب، لا يتوقع النور إنهاء الصراع بين أميركا وبريطانيا من جهة وروسيا من الجهة الأخرى في السودان قريبًا، في ظل الفراغ التنفيذي والدستوري وعدم الاستقرار السياسي وتوجُّهات القادة العسكريين المختلفة، خاصة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان “حميدتي” الذي أظهر نفسه حليفًا لموسكو.
وسجّل حميدتي زيارة إلى روسيا قبل يوم واحد من شنّها الحرب على أوكرنيا في 24 فبراير/ شباط 2022، فُسّرت على أنها تأييد سوداني للغزو، ليؤدّي هذا إلى تضييق الخناق عليه بواسطة الدول الغربية، ومؤخرًا بدأ الرجل وكأنه استدرك عواقب تقاربه مع روسيا بالنسبة إلى أميركا، غذ أصبح من أشد الداعمين لتسليم السلطة إلى المدنيين.
وقاد هذا الدعم إلى سلسلة ملاسنات بين قادة الجيش والدعم السريع، ويقول حميدتي إن خلافه ليس مع الجيش إنما مع المتمسكين بالسلطة، معلنًا رفضه لأي ديكتاتور، في إشارة واضحة إلى قائد القوات المسلحة عبد الفتاح البرهان.
يحاول الغرب وروسيا تأمين مصالحهما في السودان التي قد تكون ليست في صالح مواطنيه، عبر استغلال الأزمة السياسية التي ربما بسبب هذا الصراع تطاول أمدها، رغم تأكيدات القادة العسكريين المتكررة على عزمهم تسليم السلطة إلى القوى المدنية، بناء على الاتفاق الإطاري.