يواصل الرئيس التونسي، قيس سعيّد، خطواته نحو فرض نظام مركزي قائم على سلطة الفرد الواحد، غير عابئ بالضغوط الخارجية والداخلية ولا الأزمات التي تشهدها البلاد في الفترة الأخيرة، والتي مسّت كلّ المجالات دون استثناء.
آخر خطواته كانت تجاه البلديات التي تمَّ حلّها بمجرد قرار صدرَ بعد منتصف الليل، ليضع حدًّا بذلك لمسار كامل بدأ عقب ثورة يناير 2011، والذي كان من المخطط أن يقطع مع مركزية السلطة ويؤسّس نظامًا لا مركزيًّا في البلاد.
حلّ البلديات
في فبراير/ شباط الماضي، دعا رئيس الجامعة الوطنية للبلديات (تجمع رؤساء البلديات)، عدنان بو عصيدة، إلى “إجراء الانتخابات البلدية في موعدها وعدم تعديل القانون الانتخابي بشكل يفرغه من أهم المكتسبات المحققة”.
الموعد المرتقب كان محدّدًا في النصف الأول من عام 2023، ذلك أن الانتخابات المحلية أُجريت في مايو/ أيار 2018، والمدة القانونية للمجالس المحلية تمتدّ إلى 5 سنوات، ووفق قانون الجماعات المحلية وقوانين الانتخابات، فمن المفترض أن يتم الإعلان عن موعد الانتخابات قبل يوم 12 مارس/ آذار الحالي.
كان من المنتظر أن تدعو هيئة الانتخابات التونسيين للانتخابات لاستكمال نظام اللامركزية في البلاد، لكن يبدو أن للرئيس الماسك بكل السلطات في تونس رأيًا آخر، إذ سارع إلى حلّ جميع المجالس البلدية في البلاد إلى حين انتخاب أخرى جديدة، وفق قانون يصيغه بنفسه.
وصدر المرسوم القاضي بحلّ المجالس البلدية في الجريدة الرسمية، بعد إعلان سعيّد أنه يعتزم حلّ هذه المجالس المنتخَبة والاستعاضة عنها بأخرى مؤقتة حتى موعد الانتخابات البلدية المقبلة، وتعديل القانون الانتخابي الخاص بالبلديات.
عادت السلطة المحلية الآن إلى الولاة الذين عيّنهم سعيّد، بعد سنوات من كفاح قادة المجالس البلدية المنتخَبة لإحداث تأثير كبير في العديد من مناطق تونس.
صدر مرسوم يقضي بذلك أمس الخميس، بمقتضاه تمَّ إسناد مهمة تسيير المجالس البلدية المؤقتة إلى الكتّاب العامين للبلديات تحت إشراف الوالي (المحافظ) إلى حين انتخاب مجالس بلدية جديدة، وتضمّن تعديلًا للقانون الانتخابي الخاص بالبلديات.
ومن بين التعديلات الواردة في المرسوم أنه يُمنع من الترشح المسؤولون الحكوميون من وزراء ومحافظين وقضاة، إضافة إلى رؤساء الجمعيات الرياضية، ويحقّ الترشح لعضوية المجلس البلدي لكل ناخب تونسي غير حامل لجنسية ثانية ويبلغ من العمر 20 عامًا عند تاريخ الترشح.
‘شكرا لبلديات تونس الديموقراطية فقد منحتنا فترة عملها فسحة من الحلم الجميل …..تلك البلديات وهي تغادر غرناطة الديموقراطية وقد سقطت دون ان نبكيها وهذا عار علينا وعلى من كانوا فيها ولم يدافعوا عنها رغم كبير فضلها’
قاضي عفيف الجعيدي #تونس pic.twitter.com/KHPw8YEnzr
— ?? مروان عمارة Marwen Amara (@maroineamara) March 9, 2023
كما ينصّ على أن يُختار رئيس المجلس البلدي ومساعده الأول وفق عدد الأصوات الحاصل عليها كل مترشح، خلافًا للقانون القديم الذي ينصّ على انتخاب الرئيس من قبل أعضاء المجلس المنتخَبين، ووفقًا للمرسوم تتمّ الانتخابات في دورة واحدة ولمدة نيابية بـ 5 سنوات.
محو سعيّد لكل إرث مرتبط بالثورة
لم يبقَ من عمر المجالس المحلية السابقة إلا بضعة أشهر، لكن سعيّد أراد حلّها قبل انتهاء المدة القانونية، ونفهم من ذلك وجود إرادة خفية للرئيس التونسي لتسجيل نقطة إضافية على حساب أنصار الثورة التونسية.
لا يريد سعيّد أن يبقى أي أثر من الثورة، فهدفه محو كل إرث مرتبط بثورة الكرامة والحرية التي أشعلها الشاب محمد البوعزيزي يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2011، وعلى إثرها سقط نظام زين العابدين بن علي الذي ظلّ جاثمًا على صدور التونسيين لأكثر من 23 عامًا.
2/وهل إقحام المؤسسة الأمنية في عمل البلديات امر مستحب للفاشيات الجديدة ؟
من انتم بحق الرب…انتم الذين ماتوا لأجل جلوسكم على كراسي غير مستحقة خيرة شباب تونس في 2010-2011؟؟؟
— Khaoula Boukrim ? (@khaoulaboukrim) March 9, 2023
البداية كانت ببرلمان الثورة، حيث علّق سعيّد نشاطه عقب انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021، ثم قام بحلّه ونظّم انتخابات جديدة وفق قانون صاغه بنسفه، إلا أنها باءت بالفشل وسجّلت نسبة مشاركة ضعيفة لم تشهدها أي انتخابات في تونس.
لم يكتفِ سعيّد بالبرلمان، إذ علّق العمل بدستور الثورة الذي تمَّ المصادقة عليه في فبراير/ شباط 2014، ونال حينها مباركة كلّ الأطياف السياسية والمدنية في تونس، كما رحّبت بها المنظمات الدولية وكبرى الدول في العالم لما احتواه من حقوق وحريات للمواطن.
علّق سعيّد دستور الثورة، وصاغ دستورًا جديدًا دون استشارة أي أحد، حتى اللجنة التي شكّلها لمساعدته في صياغة الدستور لم يستأنس بعملها ورمى بتصوراتها عرض الحائط، حتى أنه اتهم بعض أعضائها بالعمل ضدّ توجهاته.
بعد البرلمان والدستور، وجّه قيس سعيّد اهتمامه إلى الهيئات والمجالس التي تشكّلت عقب الثورة، حيث حلّ هيئة الانتخابات ووضع مكانها هيئة أخرى تعمل تحت أوامره مباشرة، وحلَّ مجلس القضاء الأعلى الذي يشرف على استقلالية القضاء، وحلَّ الهيئات التي تعني بحقوق الإنسان والحريات.
عودة السلطة المحلية إلى الولاة يعني انتهاء مسار اللامركزية في تونس، أي تركّز كل السلطات في البلاد عند شخص واحد.
حتى التواريخ المتعلّقة بالثورة قام بتغييرها، إذ ألغى الاحتفال بالثورة التونسية يوم 14 يناير/ كانون الثاني ووضع تاريخًا آخر مكانها، كلّ ذلك من أجل محو ذكرى ثورة لم يشارك فيها لا من قريب ولا من بعيد، وحتى يصنع لنفسه تاريخًا وإن كان يعلم أنه من فراغ.
فضلًا عن تزوير التاريخ، يعمل سعيّد على تفكيك أنظمة الحكم التي تشكّلت بعد ثورة 2011، وصياغة نظام جديد يقوم على الشخص الواحد الحاكم بأمر، والذي لا يشاركه في الحكم أحد، كأننا في نظام ملكي في العصور الوسطى.
كلّ ذلك وسعيّد يدّعي الاستجابة لتطلُّعات التونسيين، لكن يبدو أنه نسيَ أن التونسيين خرجوا في يناير/ كانون الثاني 2011 إلى الشوارع منادين بإسقاط نظام بن علي، كونه نظامًا جمع في يده كل السلطات في البلاد، ففي ظل حكمه لا أحد له أن يحكم أو يقرر بمفرده حتى المؤسسات المنبثقة عنه، مكرّسًا سياسة المركزية دون النظر إلى عواقبها.
انتهاء مسار اللامركزية في تونس
بالعودة إلى قرار حلّ المجالس المحلية المنتخبة، نفهم وجود إرادة لدى سعيّد لبسط سيطرته على البلديات أيضًا، خاصة أن العديد من رؤساء البلديات أكّدوا معارضتهم لتوجهات الرئيس وأظهروا ذلك علنًا، رغم المحاولات المتكررة للتنكيل بهم.
عادت السلطة المحلية الآن إلى الولاة الذين عيّنهم قيس سعيّد، بعد سنوات من كفاح قادته المجالس البلدية المنتخَبة لإحداث تأثير كبير في العديد من مناطق تونس، وقد تمّت معاينة التغيير الحاصل في العديد من المناطق.
عودة السلطة المحلية إلى الولاة يعني انتهاء مسار اللامركزية في تونس، أي تركز كل السلطات في البلاد عند شخص واحد بمساعدة بعض المقرّبين منه دون الرجوع مباشرة إلى الشعب، ما يمثّل انتكاسة كبرى في مسار الانتقال الديمقراطي في مهد الثورات العربية.
يبرّر سعيّد هذا التوجه بخوفه على وحدة الدولة، إذ يتهم عددًا من قادة المجالس المحلية بالولاء للأحزاب عوض الولاء للدولة والشعب، الأمر الذي تنفيه المجالس المحلية، مؤكدة عملها فقط لخدمة المواطن التونسي وأن ولاءها الوحيد لتونس.
تعليقًا على حل الرئيس قيس سعيد البلديات بعد حله البرلمان، وإقالته مسؤولي هيئات كثيرة، كاريكاتير من #تونس “راقبوا الرئيس، بعد فترة وجيزة سيحلّ رئاسة الجمهورية” pic.twitter.com/QKEpCrlPH2
— Wejdene Bouabdallah (@tounsiahourra) March 9, 2023
من المنتظر أن يلغي سعيّد العمل بمجلة الجماعات المحلية الصادرة بعد الثورة، والتي تمنح صلاحيات كبيرة للسلطات المحلية، من حيث الإشراف على إدارتها للأصول ووضع الموازنات، وعلاقاتها مع كيانات أخرى، منها منظمات المجتمع الأهلي وطبقات الحكومة الأعلى والهيئات الدولية.
في المقابل، من المرتقب أن يقرَّ سعيّد قانونًا جديدًا يشبه قانون 1975 الذي يمنح ممثل السلطة التنفيذية (المحافظ) في المحافظة صلاحيات كبرى على حساب صلاحيات المجالس المنتخبة، وهو ما يفرغ تلك المجالس من مضمونها، ولا تعكس إرادة المواطنين وطموحاتهم.
قانون سيُعيد التونسيين سنوات إلى الخلف، وسيزيد من تركيز السلطة عند الرئيس قيس سعيّد، ما سيصعّب الإطاحة به، إذ تمدد في مؤسسات الدولة كالأخطبوط وانتشر كالورم الخبيث الذي يصعب الشفاء منه.