تعد العلوية الأناضولية جزءًا أساسيًا من المجتمع الأناضولي في تركيا، وهناك آراء مختلفة بشأن كيفية ظهورها، ومع ذلك، فإن التفسير المحتمل للجذور التاريخية للعلوية أنها تمثل ثقافة هندية إيرانية قديمة، شكلتها جهود القبائل التركمانية للحفاظ على عناصر ثقافاتهم التقليدية إلى جانب الإسلام السني بأشكال مختلفة خلال الهجرات والتفاعلات مع التأثيرات الخارجية.
إنها حركة دينية تدمج مذاهب مختلفة من الشيعة، فضلًا عن معتقدات وممارسات من ثقافة السكان الأصليين في الأناضول، ما يخلق بنية فريدة تختلف عن الإسلام السني.
لعبت الثورة “البابائية” التي انطلقت كانتفاضة سياسية في القرن الثالث عشر ضد نظام السلاجقة الاجتماعي والاقتصادي المتدهور، دورًا حاسمًا في ظهور الحركة غير السنية في الأناضول وشكلت أيضًا حاضنة لظهور العلوية في المنطقة في المراحل اللاحقة.
في السياق التاريخي، وبسبب رغبة الصفويين في الانتشار بمنطقة الأناضول من خلال العلوية و/أو الشيعة جعلهم يدخلون في صراع طويل مع العثمانيين، وبناءً على ذلك، يتم القبول على نطاق واسع أن العلوية، بالإضافة إلى عناصرها الثقافية الفريدة، تطورت كحركة سياسية ضد السياسة “السنية” التي اتبعها العثمانيون تجاه الصفويين.
ويشار أيضًا إلى العلوية باسم “البكتاشية” و”القزلباش” في مجتمع العلويين الأناضوليين، ويعتبر الحاج بكتاش ولي الذي تُنسب إليه الطريقة البكتاشية، أحد الزعماء الروحيين الأكثر أهمية لدى العلويين، والجدير بالذكر أن عناصر وقادة الإنكشارية التي كانت تشكل قوات النخبة في الدولة العثمانية كانوا يتبعون الطريقة البكتاشية/الصوفية حتى القضاء على هذه القوات في عهد السلطان محمود الثاني عام 1826.
يشكل العلويون اليوم إحدى الأقليات المذهبية في تركيا، مع ذلك يصعب تتبع أصولهم بدقة، لأنها تعود إلى قرون عديدة، لكن غالبًا ما يُنظر إليهم على أنهم مختلفون عن غالبية السكان المسلمين السنة المحافظين من حيث معتقداتهم الدينية وممارساتهم وتقاليدهم الثقافية وتوجهاتهم السياسية، وخلال السنوات الأخيرة، أصبحت بعض الجماعات العلوية مثل الاتحاد العلوي البكتاشي، أكثر نشاطًا سياسيًا وسعت إلى تنظيم نفسها بشأن قضايا ومصالح محددة.
يحاول هذا التقرير تقديم لمحة عامة عن تاريخ وخلفية العلويين في تركيا وتوزعهم الجغرافي وتوجهاتهم الحزبية وكيف سعت الأحزاب السياسية للتعامل معهم والتأثير على سلوكهم الانتخابي.
عدد السكان العلويين في تركيا
لا تتوافر بيانات رسمية منشورة من معهد الإحصاء التركي (TUIK) عن أعداد المجموعات العرقية أو الدينية في تركيا بما فيهم العلويين، قد يكون الهدف من ذلك هو الحفاظ على النظام العام في البلاد والطابع العلماني للدولة، حيث لا يتم الإشارة خلال التعداد السكاني إلى مذهب المواطن، ومع ذلك، هناك بيانات أعدتها المنظمات غير الحكومية والشركات البحثية وبعض الدراسات العلمية، لكن هذه البيانات تختلف بشكل كبير عن بعضها البعض بسبب اختلاف المنهجيات المتبعة.
أشار تقرير بعنوان “النوع الاجتماعي في تركيا”، وهو عبارة عن دراسة ميدانية، صدر عام 2019 عن وكالة كوندا للأبحاث والاستشارات، وهي إحدى الشركات البحثية المعروفة في تركيا، إلى أن نسبة العلويين في تركيا 5%، وبناءً على عدد السكان الأتراك البالغ 82 مليونًا في عام 2018 وقت إجراء الدراسة، فإن هذه النسبة تساوي 4.1 مليون.
وفي دراسة ميدانية أخرى أجريت عام 2006، تم التوصل إلى استنتاج مفاده أن نسبة الأشخاص الذين عرَّفوا أنفسهم بشكل مباشر على أنهم علويون كانت 6.1%، لكن عندما طرح الباحثون أسئلة غير مباشرة على الأشخاص ارتفعت هذه النسبة إلى 11،4%، ويمكن تفسير هذا الفرق الكبير في النسبة إلى أن الكثير من الأشخاص لا يفضلون الكشف عن هوياتهم الدينية أو المذهبية بشكل مباشر.
الأصول العرقية والتوزع الجغرافي
ينحدر العلويون في تركيا من أصول عرقية مختلفة، فإلى جانب العلويين الأتراك، هناك أيضًا علويون كرد/ظاظا وعلويون عرب، ووفقًا لبيانات وكالة كوندا فإن 43% من العلويين هم من الأتراك و42% من الكرد و7% من العرب، بينما البقية من أعراق مختلفة.
ووفقًا للدراسة الميدانية المذكورة أعلاه فإن ثلث العلويين يتركز في إسطنبول، بينما يتركز الباقون في شرق ووسط الأناضول وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، وتعتبر محافظة تونجلي، المعروفة أيضًا باسم ديرسيم، منشأ المجتمع العلوي في تركيا، إلى جانب ذلك هناك وجود مهم للعلويين في محافظات عدة مثل ملاطية وسيواس وكهرمان مرعش وأرزنجان وإيلازيغ وغيرها.
وينقسم العلويون في تركيا بشكل عام إلى مجموعتين: تعيش الأولى في جنوب غرب البلاد بالقرب من الحدود السورية وهم امتداد للعلويين الموجودين في سوريا حيث ينحدر أغلبهم من أصول عربية ويتحدثون اللغة العربية إلى حد ما، ويتركز هؤلاء في ولايات هاتاي وأضنة ومرسين، أما المجموعة الثانية فتعرف بـ”علويي الأناضول”، حيث يتوزع هؤلاء بين الأتراك والكرد، إلى جانب هؤلاء يوجد علويون من أعراق أخرى في بعض المحافظات التركية لكن أعدادهم محدودة.
المعتقدات والطقوس العلوية
تعود جذور طقوس المجتمع العلوي إلى معتقدات وممارسات ما قبل الإسلام للقبائل التركية القديمة، التي اتبعت التقاليد الشامانية، وبمرور الوقت، تأثرت هذه المعتقدات بالإسلام، لا سيما التقاليد الشيعية والصوفية، ما أدى إلى تكوين مجموعة فريدة من المعتقدات والممارسات لدى المجتمع العلوي تميزهم عن الطوائف الإسلامية الأخرى، ويرى بعض الباحثين أن العلويين هم نفسهم فرقة البكتاشية المعرفة في تركيا وهذا هو الرأي الراجح، في حين يرى البعض خلاف ذلك.
يطلق العلويون على عباداتهم مصطلح “جيم Cem” ومن هنا جاءت تسمية الأماكن التي يؤدون فيها طقوسهم “بيت الجمع Cemevi”، وتتميز العقيدة العلوية بتأكيدها القوي على الروحانية والفردية، ورفض العقيدة والتسلسل الهرمي الديني الصارم، وغالبًا ما تتضمن الطقوس العلوية الموسيقى المترافقة مع رقص السماح (Semah) والشعر، وتتركز حول تجمع المجتمعات في الأماكن العامة المعروفة باسم “بيوت الجمع”، وتؤكد المعتقدات العلوية أيضًا على أهمية العدالة الاجتماعية والمساواة.
ويعتبر العلويون في تركيا مجتمعًا فريدًا ومتميزًا تطور على مدى قرون، ويمزج المعتقدات التركية قبل الإسلام بالتقاليد الإسلامية الشيعية والصوفية، وعلى الرغم من الظروف التي مر بها عبر التاريخ، فقد حافظ المجتمع العلوي على هويته وتقاليده المميزة، ولعب دورًا مهمًا في المجتمع والسياسة التركية.
التوجهات السياسية والحزبية للعلويين في تركيا
لا يمكن النظر إلى جميع العلويين في تركيا من نفس المنظور، ومع ذلك، خلال فترة الحزب الواحد الكمالية، تم قبول العلويين الأتراك كحلفاء اجتماعيين وثقافيين بسبب أدائهم لعباداتهم وطقوسهم باللغة التركية، إضافة إلى إدراك مصطفى كمال أتاتورك أهمية توحيد جميع شعوب الأناضول خاصة خلال حروب الاستقلال، لذلك عمل أتاتورك على كسب ولائهم من خلال الزيارات التي كان يقوم بها، حيث زار ضريح حاج بيرم في أنقرة والتقى بعدد من قادة العلويين هناك، إلا أن زيارته لمدينة حاج بكتاش بتاريخ 22 ديسمبر/كانون الأول 1919 حظيت باهتمام كبير من العلويين حينذاك، وحتى الآن يحتفل العلويون بتاريخ هذا الزيارة ويعتبر عطلة محلية لديهم.
لكن في الوقت الذي تم اعتبار العلويين الأتراك حلفاء للحكومة الكمالية، تم استبعاد العلويين الأكراد خارج إطار هذا القبول وتعرضوا للاندماج القسري، لكن يُقال إن الأجيال التي تلت قمع ثورة 1937-1938 في تونجلي، أصبح العلويون الأكراد أيضًا مقبولين في الأيديولوجية الكمالية.
وعلى الرغم من وجود تغييرات في التفضيلات السياسية للعلويين في بعض الفترات مثل دعمهم للحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس وجلال بايار في الخمسينيات، فمن الواضح أنهم أيضًا يدعمون حزب الشعب الجمهوري وأحزاب اليسار، بسبب ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية، خاصة أن بعض هذه الأحزاب مثل حزب الشعب الجمهوري يُعرف تقليديًا بأنه مهندس علمانية الدولة.
في 2009-2010، صرح حزب العدالة والتنمية أنه يهدف إلى حل مشاكل العلويين من خلال تنظيم ورش عمل أُطلق عليها اسم “مبادرة العلويين”، ومع ذلك، يُذكر أن العلويين لم يكونوا راضين عن ورش العمل هذه ولم يتم التوصل إلى حل، حيث تم التعامل مع مخاوفهم من منظور متمحور حول الدولة السنية، وليس من خلال عدسة المجتمع العلوي.
على الصعيد ذاته، وجدت الدراسة الميدانية التي أجرتها وكالة كوندا للأبحاث والاستشارات فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية لعام 2018 أن الاتجاه الحزبي للناخبين العلويين هو حزب الشعب الجمهوري (CHP) بنسبة 69%، يليه حزب الشعوب الديمقراطية (HDP) بنسبة 16%، في حين بلغ ميل الناخبين العلويين إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم نحو 3% فقط.
وبالمثل، واستنادًا إلى بيانات كوندا، فإنه خلال الانتخابات المحلية التي أجريت عام 2019، فقد أيد 87% من الناخبين العلويين في إسطنبول أكرم إمام أوغلو مرشح “تحالف الأمة”، بينما دعم 6% بن علي يلدريم مرشح “تحالف الشعب”، وتشير هذه البيانات إلى أن العلويين يميلون في سلوكهم الانتخابي إلى حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطية، وإذا ما نظرنا إلى النواب في البرلمان الذين يُذكر أنهم علويون سنجد أن أغلبهم يتركزون في المقاعد المخصصة لهذين الحزبين وعلى رأسهم كمال كليجدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري.
كما تشير هذه النتائج إلى أن أنماط التصويت للعلويين لم تتغير ولا تحابي الحزب الحاكم رغم مبادرة “الانفتاح على العلويين” التي أطلقها حزب العدالة والتنمية، التي تهدف إلى تحسين العلاقات مع المجتمع العلوي، لذلك سعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال السنوات الأخيرة إلى كسب المجتمع العلوي، كجزء من إستراتيجيته الأوسع لبناء تحالف واسع لدعم حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يتزعمه، واتخذ خطوات لتحسين علاقات الحكومة مع المنظمات والقادة العلويين.
ففي عام 2021، زار أردوغان منزل عائلة علوية في إسطنبول، حيث شارك في احتفال ديني وقدم سلسلة من الملاحظات التصالحية تجاه المجتمع العلوي، ورأى بعض المحللين في ذلك محاولة لمغازلة الناخبين العلويين قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2022 أعلن أردوغان عن مبادرة جديدة للمجتمع العلوي في البلاد، مشيرًا إلى أن الحكومة ستؤسس “رئاسة الثقافة العلوية وبيت الجمع” وهو مكان عبادة مخصص للعلويين، وقال: “نحن بصدد إنشاء هيكل مؤسسي لمتابعة وتنفيذ قضايا الأماكن التي يلتقي فيها المواطنون العلويون والبكتاشيون”.
وتتركز مهمة الهيئة المؤسسية الجديدة على التعامل مع شؤون العلويين ومعالجة المشاكل التي يواجهونها، كما قام مسؤولون في وزارتي الداخلية والثقافة التركية خلال السنوات الأخيرة بزيارة جميع دور العبادة العلوية المعروفة بـ”بيت الجمع” البالغ عددها 1585، وخلال الزيارات تلقى المسؤولون نحو 8740 طلبًا يتعلق بالوضع القانوني لدور العبادة الخاصة بالعلويين وتمويلها من الحكومة أسوة بالمساجد والاعتراف العام بهويتهم واستبعاد الطلاب العلويين في المدارس الإعدادية والثانوية من دروس التربية الدينية إضافة إلى مطالب أخرى.