كعادتها القديمة الجديدة التي دأبت عليها منذ فجر التاريخ، وحافظت عليها على مر العصور، وفي كل العهود وفي ظل كل الممالك، وإثر كل جريمة، وبعد كل عدوان، وتتمسك بها ولا تتخلى عنها، تتبرأ إسرائيل من جريمتها الموصوفة، وتتنصل من فعلتها البشعة، وتدعي أنها لم ترتكبها، وأن أحدًا من جنودها لم يقترفها، وتنفي عن نفسها كل الاتهامات، وتكذب كل القرائن، وتنكر كل الدلائل، وتدحض كل الحجج، وتصد كل محاولةٍ لتثبيت التهمة عليها، وتدين وتشجب كل من يحاول إدانتها، وترفض أن يحملها أحدٌ المسؤولية، أو يلقي عليها باللائمة، أو أن يشير إليها بأصابع الاتهام.
وترد على القائلين بجريمتها أنهم يكذبون ويلفقون، ويدعون ويزورون، ويختلقون ويفترون، وتتهمهم بأنهم يعادون السامية، ويكرهون اليهود، ويشمتون بهم، ويتآمرون عليهم، ويشوهون صورتهم، ويتعمدون إهانتهم والإساءة إليهم، استجابةً لأحقادٍ موروثة، ومشاعر قومية ممقوتة.
فقد أنكرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مسؤوليتها عن جريمة قتل وتصفية الشهيد “زياد أبو عين”، ونفت التهمة عن نفسها، وكذبت وسائل الإعلام، وكاميرات المصورين، وتسجيلات وكالات الأنباء، وشهادات الحضور، وصمت آذانها عن كلمات الشهيد الأخيرة، التي لم تكن طلقاتٍ نارية، ولا مدافع بفوهات، ولا صواريخ بمنصاتٍ، وإنما كانت كلمات مظلوم، وعبارات ثائر، ومشاعر فلسطيني استفزته الممارسات الإسرائيلية في حق شعبه، وأغضبته السياسات العدوانية تجاه وطنه، وأعمت عيونها عن صورته السلمية وهو مسبل اليدين، لا يحمل خنجرًا ولا حجرًا، ولا يلوح بقبضة يده مهددًا أو متوعدًا.
إذ لم يكن وقت الجريمة يشكل خطرًا على الجندي الذي طوق عنقه، وخنق أنفاسه، وفجر بضرباته المتلاحقة شرايين قلبه، وتركه على الأرض مسجى، وهو يعلم أنه قتله، لكنه لا يشعر بالخوف من جريمته، ولا يخاف من العقاب على فعلته، فهو يعلم أن القانون يحميه، والحكومة تشجعه، والشعب يفخر به، ولن يقو أحدٌ على محاكمته، ولن تقدم جهة على مساءلته، وقد أشاد بعمله ضباطه، وعما قريب سيحتفلون به، وسيمنحونه شهادة تقدير، وسيعلقون على صدره أوسمة الإشادة والتنويه، ليتعلم منه غيره، ويستفيد من تجربته من بعده.
إنها ليست المرة الأولى التي يتبرأ فيها الاحتلال الإسرائيلي من جرائمه، ويتنصل من أفعاله، بل هذه هي عادته وديدنه، وقد تعودنا عليه وعرفناه، فهو يقتل ويدعي الدفاع عن النفس، ويعتدي ويشيع أنه كان يصد هجومًا أو يحبط محاولة، ويقتل الأطفال ويقول إنهم مقاتلون، ويقصف النساء ويدعي أنهن مصانع الرجال، ويدمر البيوت ويعلن أنها كانت مستودعًا للسلاح، وموئلاً ومقرًا لقيادة العمليات العسكرية، ويدمر المدارس بحجة أنها ملاجئ للمقاومة، ومقراتٍ عسكرية معادية.
وفي أحيانٍ أخرى يتخلى الكيان الصهيوني عن الأسطوانة المشروخة بالدفاع عن النفس، وصد الاعتداء، وإحباط الهجوم، فيتهم المقاومة الفلسطينية بأنها المسؤولة عن القصف والتدمير، وأنها تتحمل كامل المسؤولية عن أعمال القتل والتخريب والتشريد، وأن مصادر القذائف التي سقطت هي من الجانب الفلسطينية، وأن المقاومة هي التي أطلقتها، وتعزو أسباب الانفجارات إلى أخطاء المقاومة، التي تتعمد تخزين سلاحها في البيوت والمدارس، والمساجد والأماكن العامة.
وتهاجم المسجد الأقصى وتعتدي على باحاته، وتدخل إلى أروقة الحرم وتصل إلى المنبر والمحراب، وتدعي أن المصلين هم الذين اعتدوا على جنودها، وأنهم الذين استفزوها وأجبروا قواتها على التدخل، وأنها أطلقت النار في الحرم ردًا على مصادر النار الفلسطينية، وأن بعض المصلين كانوا يحملون مسدسات وبنادق، وأنهم عرضوا حياة جنودها للخطر، وتسببوا في إحداث فوضى وخراب داخل أسوار المسجد.
لعل الكيان الصهيوني يريد بسياسته تصديق المثل العربي “ضربني وبكى، وسبقني واشتكى”، إذ إنها تركض إثر كل جريمةٍ ترتكبها، وبعد كل مصيبةٍ تكون سببًا فيها نحو الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، تئن وتصرخ، وتستغيث وتستنجد، وتطالب المجتمع الدولي بأن يصغي لها، وأن يصدق روايتها، وتدعي بأنها ظلمت واُعتدي عليها، وأن الفلسطينيين قد عرضوا حياة جنودها ومواطنيها للخطر، وأنهم يلحقون بها الضرر، وتطالب المجتمع الدولي بالانتصار لها، والوقوف معها، وإدانة الضحية، وعدم الإصغاء له أو تصديق روايته، وتنشط في هذه المعركة الباطلة ضد الفلسطينيين والعرب، الدبلوماسية الإسرائيلية، والمؤسسات الأمنية والعسكرية، ومختلف وسائل الإعلام، الذين يزورون الحقائق، ويشوهون الصور، ويقلبون الوقائع، ويحاولون إظهار أنفسهم بأنها الضحية، وأن الفلسطينيين هم الجناة القتلة، والظالمون المعتدون.
ليس غريبًا أن يدعي الإسرائيليون أنهم لم يقتلوا “زياد أبو عين” عن قصدٍ وإرادة، وأنهم لم يتعقبوه ولم يلاحقوه، ولم يرصدوه ولم يراقبوه، إذ كيف سيروجون لدى العالم قتل رجلٍ كان يحمل بين يديه غرس شجرة زيتون، يريد أن يزرعها في الأرض، لتكون هي عنوان الحياة، ورمز السلام بين شعوب الأرض، فلربما رأوا فيها وهي التي تشق الأرض، وتمتد عميقًا بين طبقاتها، وتورق مخضرةً تحت الشمس، خطورة أشد عليهم من خطورة حامل البندقية، أو زارع العبوة، أو ملقي القنبلة، فهذا الرجل من وجهة نظرهم يبذر الأمل، ويزرع الإرادة، ويورث الحق للأجيال، ويعلن أن حق الفلسطينيين باقٍ لا يموت، ولا يسقط ولا ينتهي، بل سيبقى ماثلاً صامدًا، يصبغ الأرض ويلون السماء.
ترى هل سيصدق العالم الرواية الإسرائيلية، هل سيكذبون الصورة والوثيقة والقرينة والدليل والبرهان، أم سيصدقون المثل مرة أخرى، ويكذبون كل شيء ويصدقون الحمار، فقط لأنهم يريدون أن يصدقوا الحمار، رغم يقينهم بكذب روايته، وزيف أدلته، وضعف شهادته.
لن يصدق أحدٌ الرواية الإسرائيلية، لأننا جميعًا بتنا نعرف أنها رواية كاذبة ومختلقة، وأنه لا أساس لها من الصحة سوى تكذيب الحق وتصديق الباطل، ولعل لسان العالم الحر العاقل، الواعي المتزن، والمنصف الحكيم، يردد على مسامع الإسرائيليين بعالي الصوت، وبوضوح العبارة، ودقة الكلمات والمعاني، حكمة الأفعى الأسطورية القائلة لأختها “كيف أصدقك وهذا أثر فأسك”.