خلال حملته الانتخابية صيف 2019، وقبل ذلك أيضًا، ما فتئ أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد يؤكد انتصاره للثورة التونسية وسعيه الدؤوب لخدمتها وخدمة شعب تونس، الذي ما زال يأمل في تحقيق أهدافها الكثيرة.
لكن ما إن وصل إلى سدة الحكم وتسلم مفاتيح قصر قرطاج، حتى انقلب على عقبيه وكشف عن مدى
كرهه للثورة التونسية، إذ انقلب على برلمان الثورة وعلق العمل بدستورها وصاغ آخر بنفسه، وحل الهيئات التي انبثقت عنها، ووصل به الأمر إلى حل المجالس المحلية، دون أن ننسى تغييره تاريخ الاحتفال بالثورة والتنكيل بنشطائها.
محور آثار الثورة لم يكن في الداخل فقط، بل امتد للخارج أيضًا، إذ مد سعيد يده للقوى الإقليمية المناهضة للثورة التونسية، على رأسها النظام القمعي المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي، وها هو الآن يعلن نيته التطبيع مع نظام بشار الأسد الذي قمع شعبه لوحشية غير مسبوقة وقتل وشرد الملايين منهم.
خطوات التطبيع
في أحدث خطواته نحو التطبيع مع نظام بشار الأسد، أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد، مساء أمس الجمعة، عزمه على إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة مع سوريا منذ فبراير/شباط 2012، وكانت تونس قد قطعت العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، احتجاجًا على قمع نظام بشار الأسد الاحتجاجات المناهضة له.
لا يرى سعيد وجود أي مبرر في “ألا يكون هناك سفير لتونس لدى دمشق وسفير للجمهورية العربية السورية لدى تونس”، جاء ذلك خلال لقائه وزير الخارجية نبيل عمار، وفق مقطع فيديو نشره الموقع الرسمي للرئاسة التونسية.
وأضاف الرئيس التونسي أن مسألة النظام في سوريا تهم السوريين وحدهم، وأن تونس تتعامل مع الدولة السورية ولا دخل لها إطلاقًا في اختيارات الشعب السوري، مؤكدًا وجود جهات كانت تعمل على تقسيم سوريا لمجموعة من الدول منذ بداية القرن الـ20 ولن تقبل بذلك.
يعلم سعيد أن وضع يده في يد نظام بشار الأسد، يعد إهانة للشعب التونسي ولثورته وخيانة لدماء الشهداء الذين سقطوا من أجل الحرية والتحرر من نظام مستبد
قبل أيام قليلة، جدد البلدان خلال اتصال هاتفي بين وزير الخارجية التونسي ونظيره بالنظام السوري فيصل المقداد، رغبتهما في عودة العلاقات الثنائية إلى مسارها الطبيعي عبر رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي وتبادل زيارات مسؤولي البلدين.
وفي 9 فبراير/شباط الماضي، أعلنت الرئاسة التونسية في بيان، أن قيس سعيد قرر رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي لبلاده في سوريا، وأشارت الرئاسة حينها إلى أن قضية النظام السوري شأن داخلي يهم السوريين بمفردهم والسفير يُعتمد لدى الدولة وليس لدى النظام، على حد قولها.
وكانت تونس من أولى الدول التي أرسلت مساعدات إنسانية للنظام السوري، الشهر الماضي، بعد تعرض مناطق في سوريا إلى زلزال عنيف راح ضحيته آلاف القتلى والجرحى وتسبب في نزوح آلاف السوريين من المنطقة.
قرار منتظر
بالنظر إلى الخطوات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد وتصريحاته العلنية المتكررة في هذا الشأن، نعتقد أن فتح تونس سفارة سوريا ليس إلا مسألة وقت، ونفس الأمر بالنسبة للسفارة التونسية في سوريا، فسعيد ينتظر اللحظة المناسبة فقط.
تعدّ هذه الخطوات الحثيثة تجاه النظام السوري منتظرة، أو لعلها جاءت متأخرة، فالطيور على أشكالها تقع، فكما كان نظام سعيد صديقًا لنظام السيسي القمعي في مصر، يأمل أن يكون أيضًا صديقًا لنظام بشار الاستئصالي.
يمكن القول إن هذه الخطوات متوقعة أيضًا، بالنظر لطبيعة الحزام الحزبي والأيديولوجي المحيط بالرئيس قيس سعيد والمؤثر في سياساته الداخلية والخارجية، الذي تم اكتشافه عقب وصول سعيد للحكم مباشرة.
بظن انو قيس السعيد ريس تونس عم يحاول يحمي بلادو من هجوم مرتزفة الفكر الي متلك
بدك بلادو يصير فيها متل سوريا و ليبيا اواليمن
؟!
يعني لازم يعمل تطبيع مع الصهاينة او هو مش ريس !نافع
تبا لكم و لفهمكم
— ADNوطنAN✌️ (@Palestineparadi) February 19, 2023
مباشرة إثر وصوله للحكم في أكتوبر/تشرين الأول 2019، أحاط قيس سعيد نفسه بمجموعة من القوميين واليساريين الذين يعلنون مساندتهم صراحة لبشار الأسد ويقرون بمعاداتهم للثورة السورية وحق السوريين في العيش الكريم.
ليس هذا فحسب، بل يوجد في محيط قيس سعيد، مجموعة من القوميين الذين يفتخرون بإرسال مقاتلين تونسيين لقمع الشعب السوري، ويقتلون هناك إلى جانب مليشيات البراهمي تحت راية كتيبة البراهمي نسبة إلى السياسي التونسي محمد البراهمي الذي تم اغتياله يوم 25 يوليو/تموز 2013.
ويجد القوميون واليساريون، حظوة كبيرة لدى الرئيس التونسي، وقد ظهر تأثيرهم في العديد من القرارات التي اتخذها سعيد منذ توليه الرئاسة، خاصة في قرار الانقلاب على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية.
المفارقة بين ادعاء الثورية ومناصرة نظام قمعي
يدعي قيس سعيد الثورية والعمل على حماية ثورة تونس من المتآمرين والخونة، حتى إنه برر انقلابه على الدستور ومؤسسات الدولة الشرعية بسعيه لحماية الثورة وعدم سرقتها، لكن الواقع يؤكد عكس ذلك.
يدعي سعيد الانتماء لثورة الحرية والكرامة ورغبة الشعوب في التحرر من ديكتاتوريات الفساد والظلم، ومع ذلك يمد يده لمن تلطخت يده بدماء الأبرياء في سوريا، ومن كان حجر عثرة أمام الثورات العربية، وساهم بقوة في إفشال موجة التحرر العربي التي شهدتها المنطقة أواخر سنة 2010.
عام 2011، انطلقت الثورة باحتجاجات شعبية، إذ طالب السوريون بالحرية والكرامة والانعتاق، ووضع حد للقمع والفساد والديكتاتورية، سرعان ما عمت معظم مناطق سوريا.
يمكن أن يطوي التطبيع التونسي مع النظام السوري، صفحة ثورات الربيع العربي نهائيًا
لم يستجب بشار الأسد لمطالب السوريين، بل أقدم على قمع المظاهرات السلمية بالسلاح، فسقط مئات الآلاف من الضحايا، وتشرد الملايين نزوحًا في الداخل السوري ولجوءًا في مختلف بقاع العالم، وتحولت سوريا إلى أزمة دولية وساحة للصراع بين القوى الإقليمية والدولية.
يعلم سعيد أن وضع يده في يد نظام بشار الأسد، يعد إهانة للشعب التونسي ولثورته وخيانة لدماء الشهداء الذي سقطوا من أجل الحرية والتحرر من نظام مستبد، لكنه لا يأبه لذلك كعادته، وفق ما أكدته سنوات حكمه.
بتطبيع علاقاته مع النظام السوري، يؤكد قيس سعيد أنه لا يهتم بالحريات ولا الديمقراطية ولا حق الشعب السوري في العيش بكرامة داخل أرضه، وهذا ليس غريبًا عليه، إذ امتهن انتهاك الحريات في تونس والنيل من التونسيين.
ماذا ستستفيد تونس من التطبيع؟
كل أسباب القطيعة مع نظام بشار الأسد ما زالت قائمة، بما فيها استمراره في سياساته القمعية ورفض أي مقاربة سياسية للحل، ومع ذلك يسارع الرئيس التونسي قيس سعيد لتطبيع العلاقات معه، وإقرار ذلك في أقرب وقت.
وكانت جامعة الدول العربية قد اتخذت، في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، قرارًا بتعليق عضوية النظام السوري فيها، وطالبت بسحب السفراء العرب من دمشق مع إبقاء الطلب “قرارًا سياديًا لكل دولة”، وصدر هذا القرار بموافقة 18 دولة، واعتراض 3 دول هي: سوريا ولبنان واليمن، وامتناع العراق عن التصويت.
إحدى هزات #زلزال_تركيا_سوريا الارتدادية أسفرت عن تواصل نظام قيس سعيد في تونس الشقيقة بنظام الأسد المجرم بدمشق و تصريحه أنه على استعداد تام لزيادة مستوى التمثيل الدبلوماسي واعادة تطبيع العلاقات بين النظامين ‼️#زلزال_الشمال_السوري #زلزال_سوريا_تركيا
— Shami Asil (@WQattan) February 9, 2023
لكن من شأن تطبيع العلاقات بين نظام سعيد ونظام بشار، أن يمنح هذا الأخير بعض الشرعية لبقائه أكثر رغم فظاعة المجازر التي ارتكبها ويرتكبها إلى حد الآن في حق الشعب السوري، بمعية المليشيات والمرتزقة العاملين معه.
لن تستفيد تونس من التطبيع، لكن الاستفادة الأكبر ستكون للنظام السوري، فرمزية تونس كبيرة وهي مهد الثورات العربية، التي يصفها إعلام بشار بـ”الفورات” وبـ”الثورات العبرية”، في إشارة بغيضة لتخوين شعوب المنطقة الثائرة.