تعرف الثورات بأنها حالة التمرد الذي ينتج الفوضى، والفوضى يصعب أن تنتج عملًا منظمًا ذا طابع مأسسي، إلا أننا ومع سنوات الثورة الطويلة رأينا مؤسسات منظمة تخرج من رحم الألم لتبني وتنجد وتنقذ وتمسح على الجراح، وكان أملنا ببناء منظومة متكاملة من المؤسسات التي تقود الثورة لتحقيق أهدافها.
عاش السوريون عقودًا مظلمةً تحت نير الظلم والاستبداد، واجهوا فيها نظامًا يبني المؤسسات لقمعهم وإسكاتهم، لم يعاد نظام الأسد المؤسسات بشكل مباشر، لكنه أرهب السوريين من التجمع والعمل المشترك، أرهبهم بداية بالنموذج الذي سلكه الأسد الأب مع رفاقه القدامى، من كانوا معه في نفس المؤسسة فقتل منهم وغيّب، واستمر بزرع الخوف والتشكيك في نفوس شعبه من خلال قانون الطوارئ الذي كان يحظر أي شكل من أشكال التنظيم والتجمع.
تبني الأجهزة الأمنية بين مواطنيها جدرانًا من القش، لتُزعزع الثقة بينهم، فتنهار عند أول ألعوبة تمارسها الأجهزة عليهم، وهذا ما عاشه السوريون طيلة 4 عقود قبل الثورة، “الحيطان إلها أذان”..”امش الحيط الحيط وقول يا رب السترة” مقولات لطالما تردد صداها بين السوريين وتركت في نفوسهم حذرًا دائمًا من العمل المشترك وبناء المؤسسات.
إلا أن الثورة التي تنشد التغيير تبدأ من النفس فتحارب مخاوفها وتنطلق لتتشابك مع الآخرين في تحقيق غايتها وأهدافها وحاجاتها التي تفرضها المجريات والوقائع، والسؤال الذي يفرض نفسه: ما مدى قدرة الثورة على صناعة مؤسسات حقيقة تمثلها وتترك أثرًا حقيقيًا على الأرض؟
الحرب والثورة
يخطئ البعض عند المقارنة بين الثورات والحروب، فسوريا ليست أوكرانيا، ونوع الفوضى والظروف والحيثيات تختلف بشكل كبير، ففي ظل الحروب تُسخر الدولة مؤسساتها الوطنية في مواجهة العدو، التي يحفظ بقاؤها استمرار المعركة والمقاومة.
بينما في ظل الثورة هناك حاجة ملحة لكسر حاجز الانطباعات والمخاوف، والبناء من تحت الصفر، بإمكانيات بسيطة وأدوات منهكة جراء مواجهة ممتدة تفرضها قوى الاستبداد التي تملك مؤسسات الدولة وتسخرها في مواجهة الشعب، لتنقل مواجهتها إلى الملعب الذي تجيد اللعب فيه حيث لا صوت يعلو صوت المدافع والدبابات.
النظام والثورة والتزاحم على المؤسسات
لعب النظام منذ بداية الثورة على ورقة التمثيل الشرعي للدولة السورية، لذلك دائمًا ما سعى لنشر فكرة مفادها أن المؤسسات التي تنشأ عن الطرف الآخر هي مؤسسات مرحلية لا يمكن لها أن تكون ممثلة عن الدولة السورية، وسعى دائمًا لتفشيل أي مؤسسة تكسب زخمًا دوليًا.
فالدول تتعامل مع المؤسسات الجامعة التي تدعي أنها تمثل مؤسسات الدولة وإن كانت خارجة عن النظام الحاكم، وهذا ما أدركته القوى الثورية لاحقًا بعد تجارب عديدة، فعملت على مزاحمة النظام على التمثيل الشرعي في المؤسسات دون منهجية محترفة تمكنها من منازعة الشرعية الدولية للدولة السورية خاصة بعد تحرير إدلب وامتلاكها أرضًا متصلةً، ومن الأمثلة على المزاحمة انتخاب الشيخ أسامة الرفاعي مفتيًا للجمهورية العربية السورية بعدما قام الأسد بإلغاء منصب المفتي.
رأى الثائرون في نجاح المؤسسات ونزاهتها نجاحًا للثورتهم، لذلك ما إن تأسس المجلس الوطني، حتى بادرت القوى الثورية على الأرض إلى الاعتراف به ممثلًا سياسيًا عنها، إلا أن طول الأمد والظروف الدولية ستلعب دورًا في المآلات اللاحقة.
نماذج ملهمة أنتجتها الثورة
نجح السوريون خلال الثورة في إنشاء العديد من المؤسسات التي استطاعت أن تترك أثرًا على الأرض، وأن تمتلك حاضنة شعبية وإعجابًا دوليًا لكفاءتها وتنظيمها، سنتناول في هذا المقال ثلاث مؤسسات سورية تعمل على قضايا مختلفة منها الانساني والديني والحقوقي.
الخوذ البيضاء
ولّد الواقع الأليم الذي نتج عن قصف النظام للمدن الآهل بالمدنيين بالطيران والبراميل المتفجرة والصواريخ الحاجة إلى فرق إنقاذ لنجدة الضحايا، وفي مطلع 2013 تضافرت جهود المتطوعين الموجودين في مدينة حلب لتشكيل فرق دفاع مدني.
تطور الأمر لاحقًا لتصبح الفرق المتطوعة منظمةً رسميةً تحت مسمى “الخوذ البيضاء”، سعت المنظمة منذ البداية لأن تكون مؤسسة منظمة لا تنتمي لجهة معينة ولا تحصر نشاطها ضمن بقعة جغرافية محددة، فهي “تعمل في المناطق التي تستطيع الوصول إليها”، وبالتالي ليست هي من ترفض العمل داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام، بل النظام هو من يحاربها ويحاول تشويه صورتها.
بدا هذا بوضوح في تهجم بشار الأسد المباشر والمتكرر عليها أو من المشاهد التمثيلية التي بثتها قنواته وحاولت تشويه دورها وأثرها على الأرض، بعدما حازت جوائز دولية عدة ولمع اسمها عالميًا كمنظمة إنسانية مميزة، وبات واضحًا في الزلزال الأخير أن النظام لا يملك مؤسسات تضاهي الخوذ البيضاء في عملها ومأسستها وجودتها وأخلاقياتها وتنظيمها.
صورت العديد من الأفلام التي تتحدث عن الخوذ البيضاء ودروها الإنساني المميز منها فيلم “آخر الرجال في حلب” وفيلم “الخوذ البيضاء” الذي نال جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي.
لجنة الحج العليا السورية
في أعتاب عام 2013 وبينما كان النظام يخسر شرعيته الدولية والإقليمية، كانت الحاجة ملحة لتأسيس لجنة سورية تنظم الحج للسوريين، ومن هنا استطاعت لجنة الحج العليا أن تكسب شرف تنظيم الحج للسوريين، وبرهنت على قدرتها في التنظيم بعيدًا عن الفساد أو التمييز.
كما مثلت اللجنة السوريين في جميع البقاع حتى الواقعين تحت سيطرة النظام من خلال مكاتب الدول المجاورة، وحددت أن رسالتها تكمن في حفظ جميع حقوق الحجاج السوريين على اختلاف أماكنهم، كما وضعت في رؤيتها أن تكون “المؤسسة الأمثل في خدمة حجاج بيت الله الحرام، والرائدة على مستوى العالم الإسلامي”، وحازت الكثير من الإشادة والرضا والتقدير الشعبي، رغم تبعيتها لكيان سياسي مرتبك.
الشبكة السورية لحقوق الإنسان
شكلت الحاجة الماسة إلى جهة منظمة محترفة تسجل الانتهاكات الخطيرة التي مارسها النظام على السوريين أو أي جهة أخرى عقب اندلاع الثورة إلى تأسيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي ساهمت بشكل كبير في رصد الانتهاكات، وعملت على إصدار التقارير والأبحاث والدراسات التي تهدف إلى فضح مرتكبي الجرائم في سوريا، كما تهدف إلى تحقيق مسار العدالة الانتقالية، فهي ترى أنه لا استقرار بلا عدالة ومحاسبة.
وأصبحت مرجعًا دوليًا معتمدًا من العديد من الجهات الدولية، فتشارك الشبكة معلوماتها وبياناتها التي وثقتها مع العديد من الجهات الدولية منها المفوضية السامية لحقوق الإنسان (OHCHR) ولجنة التحقيق الدولية المستقلة (UN-COI) والآلية الدولية المحايدة والمستقلة (UN-IIIM) ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (UN-OCHA)، كما تعمل الشبكة على نشر ثقافة حقوق الإنسان ودعم التغيير الديمقراطي وتحقيق العدالة والسلام في سوريا وحفظ سردية الأحداث وتأريخها.
العمل التطوعي بين الشباب السوري
بالإضافة إلى هذه المؤسسات، نشأت في الشتات والمناطق المحررة شمال غرب سوريا العديد من الفرق التطوعية، التي برز دورها في العمل الإغاثي والإنساني والتي نشطت باقتدار في تلبية احيتجاجات السوريين في المخيمات والمناطق المحررة والشتات، مستفيدة من قدرة الشباب المتطوع على خلق أفكار خلاقة لحث المجتمع على التضامن والتبرع والعطاء، وعلى خلق أدوات ميسرة للتبرع في أي مكان وجد المتبرعون والمانحون.
فرق ملهم التطوعي
منظمة خيرية تأسست على يد مجموعة من الطلبة السوريين عام 2012 تعمل في المجال الإغاثي وتملك ترخيصًا قانونيًا في العديد من البلدان منها أمريكا وألمانيا وتركيا.
منظمة بنفسج
فريق شبابي منظم يعمل في الشمال السوري وتركيا والأردن، يملك شراكات مع العديد من المؤسسات الإنسانية الدولية منها اليونيسيف UNICEF والأوشا OSHA.
غراس النهضة
منظمة غير حكومية تعمل على تقديم الدعم الإنساني في مناطق اللجوء والمخيمات، تأسست على يد فريق شبابي تطوعي وأصبحت لاحقًا منظمة مسجلة في الولايات المتحدة الأمريكية.
كما ساهمت الكيانات الطلابية السورية الموجودة في تركيا بتأسيس مؤسسة طلابية مستقلة تحت مسمى “اتحاد طلبة سوريا” لها تمثيلها بين الطلبة ودوروها الفعال على الأرض رغم الصعوبات التي يواجهها الطالب السوري في تركيا.
عطب المؤسسات السياسية
لعل الأمر الملاحظ أن المؤسسات التي استطاعت الصمود في سنوات الثورة الطويلة يغلب عليها أن تكون مؤسسات مجتمعية أو حقوقية إلا أن العطب بدا واضحًا في المؤسسات السياسية الممثلة للسورين، كالإئتلاف والحكومة المؤقتة، فما سبب نجاح بعض المؤسسات وفشل البعض الآخر؟
لا ينكر أحد أن ما تعانيه المعارضة السورية من ضعف وتفكك يعود في كثير منه إلى التدخلات الدولية والإقليمية في الشأن السوري التي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تشتيت المعارضة السورية ككيان مؤسسي مستقل ولعبت دورًا محوريًا في حرف مساره وتعطيل فاعليته، مع عدم نكران المشاكل الداخلية، حتى باتت كيانات هلامية لا تملك أي شرعية شعبية أو سيطرة على الأرض بل مجرد أدوات تتحكم بها الدول المتنفذة.
كما لم تؤد الأمم المتحدة دورها الفعال لمنع تأجج الصراع أو الحيلولة لوقفه، بل كان موقفها عبر مبعوثيها إلى سوريا يغلب عليه التخبط وخلط الأوراق والمماطلة والتعثر بإجراءات بيرقراطية، ولدت “كوته” سياسية على معيار الدول لا الشعب الذي يمثله، كل ذلك وأسباب عديدة أخرى ساهمت في الفشل المأسسي للمعارضة السورية.
تمر الثورة السورية في عامها الثاني عشر بمنعرج خطير يتطلب الكثير من الوقفات والعمل المنظم وتضافر الجهود في تنمية العمل المؤسسي بين السوريين لمواجهة موجة التطبيع مع الأسد ومحاولات تعويمه، ويكون ذلك عبر الاستفاة من تجارب المؤسسات التي أثبتت جدارتها خلال العقد الماضي وتعزيز نجاحاتها، والتعلم منها عند خلق مؤسسات أخرى في قطاعات أخرى.