لم يستفق النظام المصرفي الأمريكي من دوار الضربة الموجعة بانهيار بنك “سيليكون فالي” (SVB) الأمريكي الذي أعلن قبل يومين، إفلاسه، لتكون أكبر عملية إفلاس تشهدها الولايات المتحدة منذ 15 عامًا حين اضطرت إلى غلق بنك واشنطن ميوتشوال للادخار.
ويخيم شبح الأزمة العالمية لعام 2008 على الأجواء إزاء ما تعرض له هذا البنك العملاق الذي يحتل المرتبة السادسة عشر في قائمة أكبر البنوك الأمريكية بأصول تبلغ 200 مليار دولار، صاحب الـ17 فرعًا المنتشرة بولايتي كاليفورنيا وماساشوستس، وعشرات الفروع في كل من بريطانيا وكندا والهند والصين والدنمارك و”إسرائيل” والسويد، هذا بجانب مئات الشركات الناشئة – لا سيما التكنولوجية – المتعاملة معه بشكل مباشر وربما تكون الأكثر تأثرًا بهذا الانهيار.
ورغم تدخل الإدارة الأمريكية عبر سلسلة من التدابير الطارئة لإعادة الثقة في القطاع المصرفي الأمريكي بعد تلك الأزمة، وتعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن بمحاسبة المتسببين في هذا الأمر، فإن المشهد يعاني من حالة قلق وترقب كبيرة خشية الردات السلبية لتلك الخطوة التي يتوقع أن تمتد إلى دول وبلدان وكيانات أخرى، ما يزيد من تفاقم الوضع وينذر بكارثة مالية واقتصادية عالمية، فما قصة هذا الانهيار الكبير وتداعياتها على الأسواق العربية على وجه التحديد؟
في الولايات المتحدة.. انهيار بنك سيليكون فالي يخلف حالة من القلق إزاء مستقبل قطاع التكنولوجيا وسط مخاوف من أن يكون إفلاسه بداية لأزمة اقتصادية أوسع | تقرير: بيسان أبو كويك #الأخبار pic.twitter.com/t22NsYdQ84
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 13, 2023
قصة الانهيار
قبل خمس سنوات تقريبًا كان (SVB) أحد أهم وأبرز المؤسسات المصرفية التي تستحوذ على ثقة العملاء في الولايات المتحدة وخارجها، واستطاع أن يتخذ حزمة إجراءات بعضها كان متهورًا حينها لكنها ساعدت على إنعاش البنك وخزائنه، حين فتح حسابات للشركات الناشئة خاصة في مجال التكنولوجيا وإقراضها، ما جعله قبلة المئات من تلك الشركات، وهي الخطوة التي جنى حصادها المر لاحقًا خاصة أن قلة من تلك الشركات كان لديها أصول للضمانات عكس الغالبية منها.
وأسفرت تلك السياسات بحسب صحيفة “الإيكونومست” البريطانية عن مضاعفة ودائع البنك أربعة أضعاف، لتقفز من 44 مليار دولار نهاية 2017 إلى 189 مليار دولار نهاية عام 2021، ثم قفزت إلى 210 مليارات دولار منتصف 2022، لكن في الجهة المقابلة، ارتفعت فاتورة القروض من 23 مليار دولار إلى 66 مليار دولار في الفترة ذاتها.
معروف أن آلية جني الأرباح بالنسبة للبنوك تقوم على فارق سعر الفائدة، بين الودائع والقروض، إلا أن موجة ارتفاع أسعار الفائدة التي اتخذتها الحكومة الأمريكية كأحد السياسات الطارئة لجذب رؤوس الأموال في مواجهة التضخم العالمي، أحدثت صدمة كبيرة للبنك، الذي بات مطالبًا بالحصول على أصول أخرى بفوائد أكبر نسبيًا، وبنهاية 2021 كان قد استثمر 128 مليار دولار، معظمها في سندات الرهن العقاري وسندات الخزانة.
ومع تعاظم معدلات التضخم والهزة في سياسة تسعير الفوائد انخفضت أسعار السندات بشكل كبير، وهرول المودعون لسحب أموالهم، ما نجم عنه كشف أرصدة البنك بشكل واضح، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الودائع من 189 مليار دولار في نهاية عام 2021 إلى 173 مليار دولار في نهاية عام 2022، وهنا لم يجد البنك بدًا من بيع محفظة السندات السائلة بالكامل بأسعار أقل مما كان يدفعه، لتصل الخسائر التي تكبدها في هذه المبيعات نحو 1.8 مليار دولار في أشهر قليلة.
وأمام تلك الوضعية الحرجة أعلن البنك في 8 مارس/آذار الماضي بأنه يسعى إلى جمع 2.5 مليار دولار لسد ثغرة في ميزانيته العمومية، وهي الدعوة التي لم تلق قبولًا من المودعين والمستثمرين بعدما فقدوا الثقة في سياسات البنك المصرفية، وبعد يومين فقط كشفت المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع، التي تنظم الودائع المصرفية الأمريكية، أن البنك فشل في خطة الإنقاذ، ليتهاوى سعر سهمه بنسبة 60%، وهو ما دفع رئيسه التنفيذي جورج بيكر، إلى حث العملاء على الوقوف خلف البنك في هذا المأزق، قائلًا: “دعمونا كما دعمناكم”.
وبنهاية عمل يوم 10 مارس/آذار الحاليّ تراجع سعر سهم البنك إلى 70% بعد فشل كل الدعوات والمناشدات الصادرة من مسؤولي المؤسسة للعملاء، ليتم وقف التداول عليه داخل البورصة، فيما قرر البنك فتح أبوابه للمرة الأخيرة اليوم الإثنين 13 مارس/آذار 2023 حتى يتمكن أصحاب الودائع المؤمّن عليها من الحصول على أموالهم، بحد أقصى يبلغ 250 ألف دولار أمريكي، إيذانًا بإفلاس المصرف العملاق بعد سنوات طوال من الريادة والنجاح، ما أحدث حالة من الارتباك الكبير داخل الاقتصاد الأمريكي على وجه الخصوص والاقتصاديات الدولية بوجه عام.
وزيرة الخزانة الأمريكية: انهيار بنك سيليكون فالي أمر مثير للقلق. pic.twitter.com/GvWat2wqPJ
— Dr.Sam Youssef Ph.D.,M.Sc.,DPT. (@drhossamsamy65) March 12, 2023
شبح 2008 وبايدن يتعهد بالمحاسبة
يرجع السبب الأول في الأزمة المالية العالمية 2007 – 2008 التي اشتعلت شرارتها الأولى في أمريكا وانتقلت منها إلى أوروبا وآسيا والخليج والدول النامية المرتبط اقتصادها بالاقتصاد الأمريكي، التي تعد الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير سنة 1929، إلى انهيار البنوك الأمريكية حين انهار 19 بنكًا بشكل متتالي، ما أدى في النهاية إلى تلك الكارثة التي ما زال القطاع المصرفي العالمي يعاني منها حتى اليوم.
شبح تلك الأزمة بدأ يحوم على الأجواء مع انهيار (SVB) وبنكين آخرين، فيما يذهب البعض إلى احتمالية أن تلتحق بهم بنوك أخرى تعاني من الأزمات ذاتها، وهو ما أنعش بورصة التحليل الاقتصادي خلال الساعات القليلة الماضية، ففي محاولة منها للإجابة عن الأسئلة الخاصة بتلك التخوفات، نشرت شبكة “بلومبيرغ” الأمريكية نقلًا عن عدد من الخبراء في السياسات المالية والاقتصادية آرائهم بشأن احتمالية تكرار سيناريو 2008 مرة أخرى في ظل الوضع الحاليّ.
فمن جانبه يستبعد مدير الأبحاث في شركة إف إف بي لشركاء رأس المال “FBB Capital Partners” التي تعمل على إدارة الثروات، مايك بيلي، أن تقود التطورات الأخيرة إلى السيناريو الكارثي الذي شهده العالم قبل 15 عامًا، وأضاف “ربما تكون أفضل إستراتيجية في الوقت الحاليّ هي عدم القيام بأي شيء، فإذا كان مستثمرو التجزئة يدخرون الأموال لتحقيق أهداف طويلة الأجل، فإن أخبار بنك وادي السليكون هذه مجرد عثرة بسيطة”.
وأرجعت رئيسة قسم المال والأسواق في هارجريفز لانسداون، شركة خدمات مالية بريطانية، سوزانا ستريتر، عدم احتمال حدوث السيناريو ذاته إلى أن “بنك وادي السيليكون لديه جزء كبير من أصوله في محفظته الاستثمارية بما في ذلك سندات الخزانة والسندات الأخرى التي انخفضت قيمتها مع قيام الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة لاحتواء التضخم، بالإضافة إلى ذلك، فإن اللوائح التي تم وضعها بعد الأزمة المالية تضمن للبنوك الاحتفاظ برؤوس أموال للحماية من المخاطر النظامية”،
وأضافت “رغم أنهم يجلسون على جزء كبير من الالتزامات غير المحققة لأن قيمة السندات التي يحتفظون بها انخفضت، فإنها لا تزال تتمتع برأس مال جيد”، ومن ثم قد يكون الوضع صعبًا ويحتاج إلى تدخلات عاجلة لاحتواء الموقف لكن الخطورة لم تتجاوز بعد الخط الأحمر.
وفي سياق ردود الفعل الأولية، تعهد الرئيس الأمريكي بمحاسبة الأشخاص المسؤولين عن إفلاس بنك وادي السيليكون، قائلًا: “أنا ملتزم بشدة بمحاسبة المسؤولين عن هذه الفوضى ومواصلة جهودنا لتعزيز الرقابة والتنظيم للبنوك الكبرى حتى لا نجد أنفسنا في هذا الموقف مرة أخرى”، لافتًا في بيان له إلى الجهود التي تبذلها وزيرة الخزانة، ورئيس المجلس الاقتصادي الوطني، مع الجهات التنظيمية في قطاع المصارف للتصدي لتلك المشكلات الطارئة، مضيفًا “يمكن للشعب الأمريكي وللشركات الأمريكية الوثوق بأن ودائعهم المصرفية ستكون موجودة حينما يحتاجون إليها”.
#بايدن يتعهد بمحاسبة المسؤولين عن انهيار بنك سيليكون فالي: أموال المودعين موجودة ويمكنهم سحبها#العربية pic.twitter.com/qzWNk4Vdwe
— العربية (@AlArabiya) March 13, 2023
جهود الإنقاذ.. انقسام في ردود الفعل
حاولت الإدارة الأمريكية إنقاذ ما يمكن إنقاذه خلال الساعات الماضية، حيث تدخلت الأحد 12 مارس/آذار 2022 بسلسلة من التدابير من أجل تمكين المودعين من الوصول إلى ودائعهم، فيما أنشأت الجهات التنظمية منشأة جديدة لبث الثقة وطمأنة المستثمرين على أموالهم المودعة.
وأمام هذا الوضع المتردي تصاعدت الكثير من الأصوات التي تطالب الحكومة الفيدرالية بالتدخل العاجل لمنع البنك من الانهيار، وهنا انقسم الشارع الأمريكي إلى قسمين بشأن تلك المناشدات، الأول مطالبًا بالتدخل الفوري كما جاء على لسان السيناتور الجمهوري والمرشح الرئاسي السابق ميت رومني الذي غرد قائلًا “المساهمون والمسؤولون التنفيذيون في بنك وادي السيليكون يخسرون كل شيء، ومع ذلك، يجب على المودعين بحسن نية استرداد ودائعهم من أجل دفع مرتبات العاملين لديهم، ودفع تكلفة طلباتهم، ومنع انتشار العدوى”.
شريحة من هذا الفريق تمثلها شركات التكنولوجيا المتضررة من الأزمة التي اقترحت على الحكومة دفع بنك آخر للاستحواذ على بنك وادي السيليكون لحماية الودائع غير المؤمن عليها، لا سيما أنها تمثل النصيب الأكبر من حجم تلك الودائع، وسط تنامي حالة القلق من انهيار سمعة القطاع المصرفي خاصة البنوك متوسطة الحجم التي لديها ودائع تقل قيمتها عن 250 مليار دولار.
وفي الجهة المقابلة يعارض فريق آخر فكرة تدخل الحكومة لإنقاذ الموقف، إذ يرى أن الإنقاذ لا يكون على حساب دافعي الضرائب من أبناء الشعب الأمريكي، كما قال النائب مات غايتز، من ولاية فلوريدا، “إذا كان هناك جهد لاستخدام أموال دافعي الضرائب لإنقاذ بنك وادي السيليكون، فيمكن للشعب الأمريكي الاعتماد على حقيقة أنني سأكون هناك أقود المعركة ضد تلك الخطوة”.
التداعيات على البورصات العربية
بعد ساعات قليلة من الإعلان عن إفلاس بنك وادي السيليكون الأمريكي منيت العديد من المصارف الأمريكية بخسائر كبيرة، حيث خسرت 4 بنوك فقط أكثر من 52 مليار دولار، فيما انتقلت عدوى الخسائر إلى البنوك الآسيوية خاصة الصينية التي تعرضت هي الأخرى لهزة كبيرة، كذلك الأوروبية وهو ما تكشفه بيانات ومؤشرات البورصات خلال اليومين الماضيين حيث خسر سوسييتيه جنرال 4.49% وبي إن بي باريبا 3.82% وكريدي أغريكول 2.48%، كما خسر دويتشه بنك الألماني 7.35% وباركليز البريطاني 4.09% ويو بي إس السويسري 4.53%.
وانتقلت عدوى التهاوي إلى أسواق الأسهم في الشرق الأوسط حيث هبط المؤشر في قطر 1.6%، فيما بقيت جميع الأسهم تقريبًا في المنطقة السلبية بما في ذلك سهم مصرف قطر الإسلامي الذي تراجع 3.9%، كما تراجع المؤشر السعودي 0.8% متأثرًا بانخفاض سهم مصرف الراجحي 1.7% وسهم رتال للتنمية العمرانية 0.8%، أما سهم شركة أرامكو فاستقر عند الإغلاق على الرغم من الإعلان عن زيادة كبيرة في أرباح عام 2022 وتوقع حدوث طفرة في سعره اليومي.
كما تعرضت بورصات الشمال الإفريقي هي الأخرى لتراجع في معاملات اليومين الماضيين، على رأسها البورصة المصرية حيث تراجع المؤشر المصري للأسهم القيادية 3.1%، فيما تواجد 28 من أصل 31 سهمًا على المؤشر العام في المنطقة الحمراء (في إشارة إلى التراجع وانخفاض القيمة)، بما في ذلك سهم البنك التجاري الدولي الذي انخفض 1.8%.
بنك “HSBC” البريطاني يشتري وحدة بنك “سيليكون فالي” في بريطانيا مقابل جنيه إسترليني واحد. pic.twitter.com/gri1oJbSOz
— روسيا الآن✪ (@Russianowarabic) March 13, 2023
القلق من تجاوز الكارثة لخطوطها الحمراء دفع الكثير، حكومات وأشخاص، إلى الإسراع لاحتواء الموقف قبل تفاقمه، فها هو بنك “إتش إس بي سي” (HSBC) البريطاني يستحوذ على نشاط “سيليكون فالي” في البلاد مقابل جنيه إسترليني واحد، فيما اعتبر الرئيس التنفيذي للبنك نويل كوين، في بيان صادر عنه، أن “هذا الاستحواذ له بُعد إستراتيجي ممتاز لأعمالنا في المملكة المتحدة”، مؤكدًا أن “عملاء “سيليكون فالي بنك” يمكنهم الاستمرار في أعمالهم المصرفية كالمعتاد، وبأمان، مع علمهم بأن ودائعهم مدعومة بقوة، وسلامة، وضمانة “إتش إس بي سي”.
الخطوة ذاتها يتوقع أن يحذوها آخرون في محاولة لامتصاص الصدمة الراهنة التي إن لم يتم احتواؤها في أسرع وقت سينفرط عقدها لتشمل بنوك أخرى، وهو الخطر الذي تتجنبه مصارف العالم وكل المعنيين بالسياسات النقدية، لتبقى الأيام القادمة هي الفرصة الأخيرة لتجنيب العالم سيناريو 2008.