تصاعدت وتيرة عمليات القوات الخاصة الإسرائيلية في مناطق الضفة الغربية المحتلة خلال الفترة الأخيرة، والتي تستهدف بدرجة أساسية المطارَدين والمقاومين الفلسطينيين المحسوبين على التشكيلات العسكرية المختلفة.
ولم تخلُ منطقة من المناطق التي تنشط فيها الخلايا العسكرية من النشاطات العملياتية الإسرائيلية، سواء في مناطق شمال الضفة الغربية المحتلة مثل نابلس وجنين، أو حتى مناطق في الأغوار وأريحا كما حصل في بلدة عقبة جبر.
وسجّل العام 2023 ارتفاعًا قياسيًّا في أعداد الشهداء الفلسطينيين، حيث تشير آخر إحصاءات وزارة الصحة إلى استشهاد 83 فلسطينيًّا العدد الأكبر منهم في جنين، بينما قُتل 15 إسرائيليًّا من بينهم مستوطنين وجنود في عمليات فلسطينية.
ويعكس الارتفاع الكبير في أعداد الشهداء الفلسطينيين عند مقارنته مع عامَي 2022 و2021، لجوء الإسرائيليين إلى سياسة “جزّ العشب” التاريخية، والتي تستهدف استنزاف المقاومة والمقاومين الفلسطينيين من خلال عمليات اغتيال مباغتة أو ملاحقة للمطارَدين.
يعكس السلوك الميداني الإسرائيلي رغبة في تنفيذ سياسة جزّ العشب، خوفًا من تحول المقاومين إلى قنابل موقوتة يعملون من خلالها على تنفيذ عمليات في العمق المحتل خلال الفترة المقبلة.
وتستهدف هذه السياسة منع المقاومة والخلايا العسكرية المحسوبة على الأذرع العسكرية للمقاومة من التقاط الأنفاس، أو حتى محاولة تنفيذ عمليات ذات طابع هجومي كالعمليات في تل أبيب أو غيرها من مدن الداخل المحتل عام 1948.
ولا تعد هذه السياسة وليدة اللحظة أو مخصَّصة لجبهة معيّنة، إذ سبق وأن استخدمها الاحتلال في قطاع غزة في فترة ما بعد انسحابه منها عام 2005، من خلال الاغتيالات أو جولات التصعيد مرورًا بالمواجهات عام 2009، 2012 و2014، بالإضافة إلى جولات عام 2018، 2019، 2021 و2022.
وخلال هذه الجولات عمد الاحتلال إلى اغتيال مقاومين فلسطينيين أو قيادات ميدانية بارزة، في محاولة منه للتأثير على سير العمل العسكري الفلسطيني ومنع تناميه خشيةً منه، وهو ما لم يحدث عبر استمرار تطوّر الأداء العسكري للمقاومة الفلسطينية.
في الآونة الأخيرة، ومع تصاعد العمل المقاوم في الضفة الغربية، نشطت عمليات الاغتيال لقيادات ميدانية محسوبة على الأذرع العسكرية، مثل كتيبة جنين أو كتيبة عقبة جبر المحسوبة على كتائب القسام أو عرين الأسود في نابلس.
ويعكس السلوك الميداني الإسرائيلي رغبة في تنفيذ سياسة جزّ العشب، خوفًا من تحول المقاومين إلى قنابل موقوتة يعملون من خلالها على تنفيذ عمليات في العمق المحتل خلال الفترة المقبلة، لا سيما مع اقتراب شهر رمضان.
من أين جاءت نظرية جزّ العشب؟
يعدّ ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال، أول من أشار إلى هذه الاستراتيجية منذ نشأة الدولة الصهيونية، فقد أكّد أنّ دولته لن تستطيع حماية كل أنبوب مياه أو منع قتل كل إسرائيلي، لكن تستطيع من خلال تدفيع الخصم ثمنًا كبيرًا أن تردعه عن التفكير بالعودة إلى هذا العمل.
هذه الاستراتيجية طبّقتها “إسرائيل” بشكل كبير في الضفة الغربية، فقد بدأت بعد الانتفاضة الثانية بصياغة خطة عملية على الأرض تؤدّي إلى إحداث أكبر ضرر ممكن، ليس فقط في المقدرات الفلسطينية إنما أيضًا في اتجاه ترسيخ فكرة الندم على الزخم الفلسطيني الكبير والعمل المقاوم المهول مع بدء الانتفاضة، من خلال زرع فكرة أن الثمن المدفوع من قبل الفلسطيني كان أكبر بكثير من النتائج التي عادت عليه بالفائدة جرّاء الانتفاضة.
وهذا ما يدّعيه الاحتلال الإسرائيلي، بأنه بالعودة 20 عامًا إلى الوراء فإن الفلسطينيين لا يعدّون الانتفاضة الثانية إنجازًا فلسطينيًّا، فمن يتابع الإعلام الفلسطيني وفق ادّعاء الاحتلال، ومن يراقب مساحة النقاش العام، يجدُ أن هناك ندمًا على افتعال الانتفاضة، والتي أدّت إلى إضعاف السلطة والمزيد من تعلقها بـ”إسرائيل”، دون وجود أي إنجاز سياسي يقود إلى دولة فلسطينية أو كيان فلسطيني مستقل.
من هنا يمكن فهم التركيز على الفشل وبعث اليأس كركيزة أولى في نظرية جزّ العشب، فتعمُّد “إسرائيل” إضعاف السلطة الفلسطينية أدّى إلى حرمانها من أي مكتسبات يمكن أن تسوقها للشارع الفلسطيني.
وبالعودة إلى الوراء كثيرًا، بالنظر إلى جانب التضييق على الفلسطينيين وحرمانهم بعد انتفاضتَين كبيرتَين من أي ثمرة سياسية، رُسّخ في أذهان الفلسطينيين أن ما جرى كان فشلًا كبيرًا رغم التضحيات، هذا ما تراه “إسرائيل”.
جزء أساسي من نظرية جزّ العشب هو العمل الإسرائيلي الدائم في ميدان الفكر الفلسطيني، حيث إن تشريب الخصم أنه ضعيف إلى الحد الذي لا يمكنه من مقارعة “إسرائيل” هو أحد أهم عناصر توفير الجهد والوقت ودفع الخصم إلى الإقرار بحقيقة ضعفه وقوة عدوه.
والأهم ربما هو تدجين السلطة الفلسطينية في اتجاه القبول بالتنازل مع كلّ ضغط إسرائيلي، وتحوّلها إلى سلطة محلية تشبه البلدية الكبرى في ظل غياب البُعد السياسي، وتنازل السلطة عن هذا البُعد من خلال سلوكها، ولعلّ انتشار الفساد والجريمة والمحسوبية وفقدان البوصلة، دفع الكثير من الفلسطينيين إلى الإيمان بأن الاحتلال أفضل من السلطة، وذهاب الكثيرين في ظل الواقع السيّئ إلى اتجاه عدم المبالاة في الواقع العام، حتى لو سقطت وانهارت السلطة الفلسطينية.
يُضاف إلى ذلك حالة الانقسام الفلسطيني، والتي جعلت من شريحة وازنة من الجمهور الفلسطيني ناقمين على الواقع الفلسطيني، معتبرين أن مواجهة الاحتلال قبل ترتيب البيت الداخلي هو جزء من العبث ومضيعة للوقت وإهدار للطاقات، خاصة في ظل حالة التنسيق الأمني الكبير الذي تنتهجه السلطة الفلسطينية الطامحة للبقاء بأي ثمن، تحقيقًا لرغبات وأطماع شخصية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن جزءًا أساسيًّا من نظرية جزّ العشب هو العمل الإسرائيلي الدائم في ميدان الفكر الفلسطيني، حيث إن تشريب الخصم أنه ضعيف إلى الحد الذي لا يمكنه من مقارعة “إسرائيل” هو أحد أهم عناصر توفير الجهد والوقت، ودفع الخصم إلى الإقرار بحقيقة ضعفه وقوة عدوه، وبهذا تبدأ مرحلة مهمة من التسليم تؤدي إلى تبخُّر ميدان المواجهة والمقاومة.
العوامل والمعطيات.. فشل التعامل الميداني وسياسة الاحتواء
عند الحديث عن المقاومة في الضفة الغربية المحتلة، فإن ثمة عوامل ومعطيات يجب الإشارة إليها لقراءة السلوك الإسرائيلي واللجوء إلى سياسة جزّ العشب أو الاغتيالات، أولها فشل سياسة التنسيق الأمني في احتواء المقاومين، عدا عن تمدُّد المجموعات العسكرية في أكثر من مدينة وبلدة فلسطينية.
خلال الفترة التي سبقت مؤتمر العقبة الذي عُقد في الأردن، راهن الإسرائيليون على تحقيق بعض الاختراقات في صفوف المقاومين الفلسطينيين من خلال السلطة، عبر محاولة تقديم إغراءات مالية لهم وعفو مقابل تسليم أسلحتهم، لا سيما فيما يخصّ عرين الأسود.
حيث أُثبت فشل هذه السياسة وعدم نجاعتها وتمدُّد عرين الأسود لتصبح مجموعات أكثر عددًا وقدرة على تنفيذ العمليات، فضلًا عن تأثيرها الشعبي الكبير في الشارع الفلسطيني، وهو ما يعكسه حجم الاستجابة العالية لدعواتها دائمًا بالإضراب والتظاهر الليلي في الضفة والقدس وغزة.
وبمحاذاة هذا الأمر، لا يمكن إغفال دور الفصائل الفلسطينية في غزة في إسناد هذه المجموعات، وهو ما تعترف به حركتا حماس والجهاد الإسلامي، بأنهما تلعبان دورًا في المشهد القائم في الضفة، وهو ما تعكسه تصريحات بعض مسؤولي المؤسسة الأمنية والسياسية الإسرائيلية، بأن التنظيمَين الإسلاميَّين جزء لا يتجزّأ من حالة التصعيد بالضفة.
الاحتلال الإسرائيلي يخشى حاليًّا من تحقُّق عوامل أخرى غير تمدُّد المقاومة جغرافيًّا في الضفة، أهمهما التنسيق بين المجموعات كما حصل في عملية حوارة.
وخلال الفترة الأخيرة تطور الخطاب الإعلامي للفصائل ليصل إلى مرحلة التبنّي الصريح والواضح لمنفّذي العمليات، بل التهديد بالمزيد مثل عملية تل أبيب الأخيرة في شارع دينزغوف معتز الخواجا، الذي تبنّته حركة حماس وذراعها العسكرية بشكلٍ مباشر.
في الوقت ذاته، إن تراجع التأثير الشعبي والسياسي للسلطة الفلسطينية شجّع الاحتلال الإسرائيلي على تنفيذ مثل هذه العمليات، في محاولة منه أيضًا لزيادة الضغط عليها للقيام بعمليات أمنية ذات طابع أعنف من الاعتقالات السياسية التي تقوم بها.
ماذا بعد جزّ العشب… هل ترضخ المقاومة؟
تاريخيًّا لم تفلح هذه السياسة في تحقيق أي نجاحات من الناحية الاستراتيجية بحقّ المقاومة أو الفلسطينيين عمومًا، إذ كان المشهد ينطلق نحو مزيد من الإبداع في العمل المقاوم رغم الفترات التي كان الميدان يشهدها من الهدوء.
وبالتالي إن استمرار الحالة القائمة، رغم أنها تستنزف المقاومة والمقاومين، قد يشعل مواجهة مع غزة في ضوء تهديدات الأذرع العسكرية المتكررة باقتراب صبرها من النفاد، حيث إن تصاعد مثل هذه العمليات قد يدفع بالفصائل للردّ عليها والدخول في مواجهة واسعة النطاق.
في المقابل، يخشى الاحتلال الإسرائيلي حاليًّا من تحقق عوامل أخرى غير تمدد المقاومة جغرافيًّا في الضفة، أهمهما التنسيق بين المجموعات كما حصل في عملية حوارة التي نفّذها الشهيد عبد الفتاح خروشة من نابلس، والذي تحصّن في أعقابها لدى مجموعات جنين في مخيمها.
وتُقلق هذه الحادثة المنظومة الأمنية والعسكرية للاحتلال بإمكانية تطور التنسيق في مناطق شمال الضفة، بما يشمل جنين وطولكرم ونابلس، ما من شأنه أن يدفع بالأحداث نحو عمليات أكثر خطورة على الاحتلال ومستوطنيه لاحقًا.