نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020، جلس رئيس الحكومة المغربية حينها سعد الدين العثماني خانعًا ليوقع على صفقة التطبيع مع كيان الاحتلال الصهيوني التي تم التوصل إليها بوساطة من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
لم يكتف العثماني بالتوقيع على “الإعلان المشترك” بين كل من المغرب والكيان الصهيوني والولايات المتحدة، بل ذهب إلى حد تبرير التطبيع بعد أن وصفه بـ”القرار الصعب”، وجاء التبرير أيضًا من سلفه في رئاسة الحكومة عبد الإله بنكيران الذي قال: “العدالة والتنمية المغربي لا يمكن أن يخذل بلده بخصوص قراراته الأخيرة حيال الصحراء واستئناف العلاقات مع إسرائيل”.
اختار قادة “العدالة والتنمية” الانسياق في ركاب رؤية الملك محمد السادس كأنها وحي منزل لا يمكن نقده أو رفضه، حتى لا يخسروا امتيازات حصلوا عليها وهم في السلطة، وحتى لا يُغضبوا الملك الماسك بزمام الأمور في المملكة.
تنكر قادة هذا الحزب ذي المرجعية الإسلامية لمبادئهم التي عبرّوا عنها مرارًا وتكرارًا، وخانوا القضية التي يدّعون مساندتها ودعمها، لكن النتائج كانت وخيمة، فقد خسروا حاضنتهم الشعبية وعندما حاولوا العودة تنكرت لهم المؤسسة الملكية على الفور.
“العدالة والتنمية” يدين وزير الخارجية في علاقة بالإسرائيليين
في محاولة لترميم الرصيد السياسي للحزب، استهجن “العدالة والتنمية” بعد اجتماعه مطلع هذا شهر مارس/آذار الحالي، المواقف الأخيرة لوزير خارجية المملكة ناصر بوريطة “الذي يبدو فيها كأنه يدافع عن الكيان الصهيوني في بعض اللقاءات الإفريقية والأوروبية، في الوقت الذي يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الإجرامي على إخواننا الفلسطينيين”.
وذكر الحزب “بالموقف الوطني الذي يعتبر القضية الفلسطينية على نفس المستوى من قضيتنا الوطنية”، مشيرًا إلى أن “الواجب الشرعي والتاريخي والإنساني يستلزم مضاعفة الجهود في هذه المرحلة الدقيقة دفاعًا عن فلسطين وعن القدس في مواجهة تصاعد الاستفزازات والسلوكات العدوانية الصهيونية، وفي الحد الأدنى التنديد بالإرهاب الصهيوني الذي لا يتوقف”.
حصد حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المغربية الأخيرة خيباته وتخليه عن العديد من أفكاره ومبادئه
قبل ذلك، صوّت برلمانيو الحزب ضد مشروعي اتفاقيتين مع الكيان الإسرائيلي صادق عليها مجلس النواب، منبهًا إلى خطورة الاختراق التطبيعي على مكونات الدولة والمجتمع، في مسعى من الحزب للتبرّؤ من التطبيع وتداعياته.
لكن تبقى الخطوة الأبرز التقرير السياسي السنوي للحزب، الذي قدّمه الأمين العام عبد الإله بنكيران إلى مؤتمر حزبه العام في 14 يناير/كانون الثاني 2023، الذي أكد فيه رفضه التطبيع ودعمه المقاومة الوطنية الفلسطينية، وحذّر من الاختراق الصهيوني.
بالتزامن مع ذلك، رفض عبد الإله بن كيران “احتضان بلاده أي اجتماع بحضور العدو الصهيوني”، وذلك عقب إعلان وزير خارجية الاحتلال الصهيوني إيلي كوهين، بداية يناير/كانون الثاني الماضي، احتضان المغرب، خلال شهر مارس/آذار الحالي، اجتماع قمة “النقب 2” بين كيان الاحتلال والإمارات والبحرين ومصر، بالإضافة إلى الدولة المضيفة والولايات المتحدة.
الديوان الملكي
أراد حزب العدالة والتنمية أن يغسل عار توقيع اتفاقية التطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، ويُعيد حاضنته الشعبية إليه، لكن الديوان الملكي كان له رأي آخر، إذ سارع لانتقاد موقف الحزب ذي المرجعية الإسلامية.
ارتمى “العدالة والتنمية” في حضن الملك، وبات يشتغل داخل منظومة النظام لا إرادة سياسية له ولا قرار مستقل، كما كان الحال مع حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، مع ذلك لم يشفع له ذلك أمام الديوان الملكي.
انتقد الديوان الملكي ما اعتبره تدخلًا “وتجاوزات غير مسؤولة” من الأمانة العامة للعدالة والتنمية فيما يتعلق بالعلاقات بين المملكة المغربية والكيان الإسرائيلي، انطلاقًا من كون السياسة الخارجية للمملكة من اختصاص الملك محمد السادس.
بيان رسمي غاضب في المغرب، ردا على بيان لحزب “العدالة والتنمية” يخصّ التطبيع مع كيان الاحتلال.
أيّة ديمقراطية هذه التي لا تسمح لحزب مرخّص بانتقاد السياسة الخارجية؟!
سيقول أحدهم: لكن الحزب كان في السلطة وقَبِل بالتطبيع.
صحيح.. وكانت تلك خطيئة.
ولكن أليس من حق أيّ أحد أن يغّير رأيه.
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) March 13, 2023
عدّ الديوان الملكي في بيان له تدخل الحزب في السياسة الخارجية للمملكة أمرًا مرفوضًا، مؤكدًا أن “موقف المغرب من القضية الفلسطينية لا رجعة فيه، وهي تعد من أولويات السياسة الخارجية لجلالة الملك.. الذي وضعها في مرتبة قضية الوحدة الترابية للمملكة، وهو موقف مبدئي ثابت للمغرب لا يخضع للمزايدات السياسية أو للحملات الانتخابية الضيقة”.
وبرّر الديوان الملكي المغربي مرة أخرى توجه المملكة للتطبيع إلى “الثوابث الوطنية والمصالح العليا للبلاد، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية”، وذلك في إشارة إلى أن التطبيع جاء بناء على صفقة بين المغرب والولايات المتحدة، بمقتضاها تعترف الأخيرة بتبعية إقليم الصحراء الغربية للمملكة، وهو الإقليم المتنازع عليه بين المغرب وجبهة البوليساريو التي تدعمها الجارة الشرقية الجزائر.
اكتواء الحزب لأكثر من مرة من التطبيع
يظنّ حزب العدالة والتنمية أن الشعب المغربي سينسى بسرعة تصدّر أمينه العام السابق ورئيس الحكومة السابق سعد الدين العثماني طاولة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأن هذه البلاغات والتصريحات المتتالية في علاقة بالتطبيع ستمحو تلك الخيبة، لكن الشعب المغربي أثبت أنه لا ينسى بسرعة.
لم يفوّت المغاربة فرصة معاقبة “العدالة والتنمية”، فبعد أشهر قليلة من توقيع اتفاقية التطبيع، تلقّى الحزب ضربة موجعة في الانتخابات التشريعية، إذ تدحرجَ إلى المرتبة الثامنة، ولم يَحُز إلا على 13 مقعدًا في البرلمان، أما المرتبة الأولى فآلت إلى حزب التجمع الوطني للأحرار الذي حصل على 102 مقاعد من أصل 395 في مجلس النواب.
يأمل حزب العدالة والتنمية في العودة إلى مبادئه والتكفير عن ذنبه، علّه ينال رضا الشعب في قادم المحطات الانتخابية
حصد حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المغربية الأخيرة خيباته وتخليه عن العديد من أفكاره ومبادئه، فقد قدم العديد من التنازلات في المسائل الإستراتيجية، عكس ما كان عليه الوضع زمن كان الحزب في المعارضة.
قبل تقلدهم السلطة، كان أغلب قيادات الحزب يؤكدون دعم القضية الفلسطينية وضرورة بل واجب الدفاع عنها بشتى الطرق المتاح منها وغير المتاح، منتقدين الأنظمة العربية الرسمية المطبعة، مع تأكيد رفضهم للتطبيع مع الكيان الصهيوني مهما كلفهم الأمر.
اعتبر عبد العزيز أفتاتي، عضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، أن بلاغ حزبه الذي كان موضوع انتقاد من الديوان الملكي، اليوم الإثنين، “لم يعبر فيه الحزب عن موقف حزبي خاص به أو عن موقف مزايد، وإنما عن موقف وطني”.#المغرب #حزب_العدالة_و_التنمية #الديوان_الملكي pic.twitter.com/O4Bv1Q5QAT
— Hespress هسبريس (@hespress) March 13, 2023
لم يتمسك الحزب بمبادئه وعند أول امتحان سقط في حلبة التطبيع طواعية وقد كان له أن يرفض ذلك ويخرج من الحكومة عوضًا عن أن يضرب بالمبادئ الثابتة للإسلاميين عرض الحائط، ما كلّفه الحكم وصداقة الملك في الآن ذاته.
يأمل حزب العدالة والتنمية في العودة إلى مبادئه والتكفير عن ذنبه، علّه ينال رضا الشعب في قادم المحطات الانتخابية ويعود لتصدّر المشهد السياسي في البلاد، كما كان عليه الوضع في السابق، لكن هذه المهمة لا تبدو سهلة خاصة أن لا مصلحة للمخزن في عودة الحزب للصدارة.