أنهى مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الاثنين زيارة إلى الجزائر بدأها الأحد، أكّد فيها حرص الضفة الشمالية للمتوسط على تعزيز التعاون مع البلد المغاربي في عدة مجالات، على رأسها الطاقة والأمن والتجارة، رغم العقبات التي تواجهها بسبب الخلاف الجزائري الإسباني وعدم مراجعة اتفاق الشراكة الموقّع بين الجانبَين عام 2003.
ورغم أن أكثر من 50% من المبادلات التجارية الجزائرية تتم مع الاتحاد الأوروبي، إلا أن علاقة الطرفَين لم تصل إلى ما تمَّ الاتفاق عليه قبل 18 عامًا بسبب اختلاف وجهات النظر حول عدة ملفات، والمساوئ التي تضمّنها هذا الاتفاق، وفق تصريحات المسؤولين الجزائريين.
اهتمام متزايد
رغم بُعد أوكرانيا عن الجزائر، إلا أن الحرب التي اندلعت بها في فبراير/ شباط 2022 جعلت البلد الواقع شمال أفريقيا يتأثر بالصراع الغربي الروسي، فقد ازداد الاهتمام الأوروبي بشكل غير مسبوق بالجزائر، كونها أصبحت أحد أنجع الحلول لتعويض الاحتياجات الطاقوية الأوروبية التي كانت تؤمّنها من روسيا.
ولم يمنع اتفاق جميع الخبراء والمحللين الاقتصاديين على عدم قدرة أي بلد طاقوي على تعويض الإمدادات الغازية الروسية، أن يعوّل الاتحاد الأوروبي بشكل كبير على الجزائر للمساهمة في التقليل من تبعات الخلاف مع روسيا.
وبسبب هذه الحاجة، صارت الجزائر محجًّا لمسؤولين أوروبيين زاروا البلد الأفريقي، سواء بقبّعة بلدانهم أو كممثلين للاتحاد الأوروبي، وهو ما يبرز على سبيل المثال في إيفاد الاتحاد مسؤولين سامين عنه خلال 6 أشهر فقط، فقبل جولة بوريل حلَّ بالجزائر شهر سبتمبر/ أيلول الماضي رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، الذي بحث مع المسؤولين الجزائريين في مقدمتهم الرئيس تبون.
وقال ميشال وقتها: “نعتبر أن اتفاق الشراكة إطار يجب أن يُضفي تحسينات وفق الإرادة المشتركة، من هنا وهناك، لتحديد الأولويات المشتركة خدمة لمصالح الطرفَين”.
كانت أوروبا تماطل في مراجعة هذا الاتفاق وفق شروط جديدة، إلا أن الظروف التي أحدثتها الحرب المندلعة في أوكرانيا جعلت الاتحاد الأوروبي يبدي ليونة في تعديل بنود الاتفاق والجلوس إلى الطاولة من جديد.
وأضاف أن الجزائر والاتحاد الأوروبي لهما “طموح مشترك لتحقيق الاستقرار والأمن والازدهار”، مبديًا في الوقت ذاته “تفاؤله الشديد” بتطوير “شراكة أقوى وأصدق تفضي إلى نتائج ملموسة لمواطني الجزائر والاتحاد الأوروبي”.
ودخل اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي الموقّع عليه في أبريل/ نيسان 2002 حيّز التنفيذ في سبتمبر/ أيلول 2005، بهدف تعزيز التبادل الاقتصادي بين الطرفَين وإنشاء “منطقة ازدهار مشتركة”.
لكن أهداف هذا الاتفاق صبّت كلها في مصلحة الطرف الأوروبي، فقد نصَّ على التفكيك التدريجي للرسوم الجمركية عبر مراحل بدأت عام 2007 بنسبة 20%، لتمسّ أكثر من ألف منتج، لكن الخسائر المتوالية التي تكبّدتها المؤسسات الجزائرية، ومعها الاقتصاد، جعلت الحكومة تطالب كل مرة بتأجيل تطبيق المراحل المتوالية من التفكيك الجمركي، وقُدّم آخر طلب عام 2017.
وفي 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أمر الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، الحكومة بإعادة تقييم اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي “بندًا بندًا وفق نظرة سيادية، ووفق مبدأ رابح-رابح”، مشددًا على أن مراجعة الاتفاق يجب أن تراعي “مصلحة المنتج الوطني لخلق نسيج صناعي ومناصب شغل (فرص عمل)”.
وكانت أوروبا تماطل في مراجعة هذا الاتفاق وفق شروط جديدة، إلا أن الظروف التي أحدثتها الحرب المندلعة في أوكرانيا جعلت الاتحاد الأوروبي يبدي ليونة في تعديل بنود الاتفاق والجلوس إلى الطاولة من جديد.
وفي هذا الشأن، قال بوريل عقب محادثات مع الرئيس تبون إن الاتحاد الأوروبي متمسّك باتفاق الشراكة مع الجزائر، ومنفتح للاستماع إلى مقترحات ملموسة من الطرف الجزائري بشأنه.
اتفاق معطَّل
رغم تطور حجم المبادلات البينية بين الجزائر وبعض دول الاتحاد الأوروبي، في مقدمتها إيطاليا التي وقّعت العام الماضي شركتها النفطية “إيني” اتفاقات ضخمة للاستثمار بالجزائر في مجال الطاقات الأحفورية والمتجددة، إلا أن اتفاق الشركة لا يزال معطّلًا حتى اليوم بسبب رفض الجزائر تنفيذه بالصيغة القديمة، وأيضًا بسبب محاولة الاتحاد الأوروبي إظهار مساندة لإسبانيا.
وفي يونيو/ حزيران 2022، أعلنت الجزائر التعليق الفوري لمعاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون مع إسبانيا الموقعة في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2002، عقب تغيير حكومة بيدرو سانشيز موقفها من قضية الصحراء الغربية، واستمالتها إلى الموقف المغربي، رغم نصّ الاتفاقية الموقّعة بين البلدَين على أن يعمل الجانبان على حلّ النزاع في الصحراء الغربية وفق قرارات الأمم المتحدة التي تمكّن الشعب الصحراوي من تقرير مصيره.
ويعتقد مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن العلاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والجزائر يمكن تحسينها، ودعا في تصريح نقله التلفزيون الجزائري الحكومي عقب لقائه الرئيس تبون، إلى إيجاد حلول لما أسماه “عقبات” تضعها الجزائر منذ حزيران/ يونيو 2022 على صعيد التجارة مع إسبانيا، إلا أن الجزائر ترى أن مدريد هي المتسبّب الأساسي في تعطيل الشراكة الجزائرية مع الاتحاد الأوروبي.
ونقلت وكالة الأنباء الجزائرية منتصف فبراير/ شباط الماضي، عن مسؤول رفيع بوزارة الخارجية، قوله إن إسبانيا تعرقل انعقاد مجلس الشراكة مع الاتحاد الأوروبي بسبب الأزمة الدبلوماسية بين الدولتَين.
وقال المسؤول الجزائري إن إسبانيا “تستغل بطريقة تعسفية قاعدة الإجماع لعرقلة انعقاد مجلس الشراكة (الأوروبي) مع الجزائر”، مشيرًا إلى أن المجلس “يعتبر الهيئة القانونية المكلفة بالخوض في كافة الشؤون السياسية والاقتصادية والتجارية بين الجانبَين”.
“نحو 90% من صادرات الغاز الجزائرية وجهتها أوروبا، ونعلم أنه يمكننا الاعتماد على الجزائر التي هي شريك موثوق به وقد كانت كذلك في أوقات عصيبة”.
وردَّ مسؤول الخارجية وقتها على تصريحات المدير العام المساعد المكلف بالتجارة في مفوضية الاتحاد الأوروبي، دينيس ريدونيت، الذي زعم في تصريحات لوسائل إعلام إسبانية أن الجزائر تعرقل التجارة مع مدريد بسبب الأزمة الدبلوماسية بين البلدَين.
وحسب المسؤول الجزائري، فإن “هذه التحركات الاستعراضية والضغوط التي تمارسها إسبانيا غير مجدية ولا تؤثر فينا بتاتًا”.
وفي صيف 2022، أصدرت جمعية البنوك الجزائرية (حكومية) تعليمات للمؤسسات المالية تقضي “بتجميد عمليات التصدير والاستيراد من وإلى إسبانيا”.
ووفق ما ذكرته تقارير إعلامية، فقد تكبّدت الشركات الإسبانية خسائر قدِّرت بـ 770 مليون دولار طالت أكثر من 600 شركة تنشط في الجزائر أو لها علاقات تجارية معها بسبب هذا القرار، بينما في المقابل لم تتكبّد الجزائر خسائر كبيرة، إذ تستمر صادراتها النفطية تتدفق باتجاه مدريد عبر أنبوب ميدغاز الرابط بين البلدَين.
وتحرص الجزائر على الحفاظ على صورتها كمموّن موثوق في مجال الطاقة، لدخول أسوق جديدة للغاز في أوروبا، وهو ما تُرجم بتوقيع اتفاق مع سلوفينيا التي أُضيفت إلى زبائنها التقليديين المتمثلين في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال، كما تبحث أيضًا عن تصدير الطاقة نحو ألمانيا سواء كغاز أو كهيدروجين أو كهرباء.
وتعمل دول الاتحاد الأوروبي على تعزيز شراكتها الطاقوية مع الجزائر، فقد قال بوريل إن “نحو 90% من صادرات الغاز الجزائرية وجهتها أوروبا، ونعلم أنه يمكننا الاعتماد على الجزائر التي هي شريك موثوق به وقد كانت كذلك في أوقات عصيبة”.
وأضاف بوريل في بيان أن التكتُّل الذي يضمّ 27 دولة يسعى إلى توطيد الشراكة مع الجزائر، “بالنظر إلى المستقبل من خلال إعطاء الأولوية للاستثمارات الأوروبية في قطاع الطاقة المتجددة”.
استعانة
لا ينحصر ما تنتظره أوروبا من الجزائر جراء الأزمة مع روسيا في تأمين احتياجاتها الطاقوية فقط، إنما أيضًا في إمكانية دخولها كوسيط لحلّ الصراع الروسي الأوكراني، بما أن أوروبا أكثر المتضررين من هذه الحرب إذا ما قورنت بباقي الدول الأخرى.
ودعا بوريل الجزائر إلى الرمي بكل ثقلها للمساهمة في الجهود الرامية إلى “وضع حد لهذه الحرب غير المبرّرة”، مشيرًا إلى “تأثيرها اقتصاديًّا وبشريًّا على العالم بأسره”، حيث تحافظ الجزائر على علاقات جيدة مع الدول الأوروبية المجاورة ومع روسيا وأوكرانيا على حد سواء.
وأعلنت الجزائر نهاية شهر فبراير/ شباط المنقضي عن إعادة فتح سفارتها في كييف، وفق بيان لوزارة الخارجية الذي قال إن فتح السفارة من جديد يندرج في خانة الحفاظ على مصالح الدولة الجزائرية في أوكرانيا، وقال الرئيس تبون في آخر مقابلة تلفزيونية له إن “علاقة الجزائر مع أوكرانيا عادية، أمّا علاقتنا مع روسيا فيعرفها العام والخاص”.
ولمّا سُئل تبون عن إمكانية توسُّط الجزائر لحلّ الأزمة الأوكرانية الروسية، خلال زيارته المرتقبة إلى روسيا شهر مايو/ أيار المقبل، أوضح أن “الأمر سرّي”، وأنه لن يتحدث عن أمور “غير واضحة لحدّ الساعة”، وينتظَر أن يزور الرئيس تبون أيضًا الصين التي طرحت مبادرة لحلّ الأزمة الروسية الأوكرانية خلال الأشهر القادمة.
بالنسبة إلى التعاون في مجال مكافحة الإرهاب بالساحل، وبالخصوص في مالي، تلحّ الجزائر على أن يكون وفق اتفاقية الجزائر 2015، وأن لا يساهم في عودة القوات الأجنبية إلى المنطقة كونها جزءًا من المشكلة وليس من الحل
وتعوّل أوروبا أيضًا على الجزائر في استمرار شراكتها في مجال مكافحة الإرهاب، وبالخصوص في منطقة الساحل التي تراجع دورها هناك لصالح روسيا بعد طرد القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو.
وفي هذا الإطار، أعلن بوريل أن الاتحاد الأوروبي والجزائر توصّلا إلى اتفاق يخصّ “استئناف حوار أمني رفيع المستوى”، من المقرّر أن تعقد أولى جلساته قبل نهاية العام الجاري، وأضاف: “يثبت هذا الأمر أن الجزائر شريك موثوق به ولاعب أساسي في مكافحة الإرهاب في جوارنا المشترك”.
وأشاد بوريل بـ”تاريخ حافل للجزائر على صعيد مكافحة الإرهاب”، داعيًا إلى “رؤية عالمية واستراتيجية” من أجل التصدي للمخاطر، خصوصًا في منطقة الساحل.
لكن تحقيق الجزائر لهذه المطالب الأوروبية مرتبط بالغاية منها، إذ أنها ترفض أن تكون وساطتها مبنيّة على الاصطفاف ضمن المعسكر الغربي، وهي التي تربطها علاقات استراتيجية مع موسكو، وامتنعت عن التصويت بالجمعية العامة للأمم المتحدة خلال إصدار قرارات مندّدة بالتدخل الروسي في أوكرانيا.
أما بالنسبة إلى التعاون في مجال مكافحة الإرهاب بالساحل، وبالخصوص في مالي، تلحّ الجزائر على أن يكون وفق اتفاقية الجزائر 2015، وأن لا يساهم في عودة القوات الأجنبية إلى المنطقة كونها جزءًا من المشكلة وليس من الحل.
من المؤكد أن الشراكة الجزائرية الأوروبية حاجة أساسية لكلا الطرفَين، بحكم الجغرافيا والعلاقات التجارية التاريخية بين البلدَين، إلا أن طريقة تنفيذها تظل محل خلاف بين الجانبَين، لأن الجزائر حسب تصريحات مسؤوليها تبحث اليوم عن علاقات ندّية بعيدة عن فكرة السوق الاستهلاكية للمنتجات الأوروبية، أو الدركي الذي يوقف تقدم أفواج المهاجرين السرّيين الحالمين بالوصول إلى الضفة الشمالية للمتوسط.