تمثّل الجماعات الإسلامية لاعبًا رئيسيًّا في تاريخ تركيا السياسي الحديث، خاصة في المرحلة التي شهدت انفتاحًا على التعددية خلال ثلاثينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين ظهرت العديد من الجماعات التي وصل بعضها إلى الحكم، وانكفأ بعضها الآخر، ومنها مَن لا يزال يمارس تأثيره في المجتمع التركي، ما سيجعل تلك الجماعات رقمًا مهمًّا في معادلة الانتخابات التركية المقبلة في 14 مايو/ أيار.
في هذا الملف الذي نستفتتح بهذا التقرير السلسلة من المقالات، نستعرض أبرز الجماعات الإسلامية في الساحة التركية، وظروف نشوئها والأيديولوجيات التي حملتها ومآلاتها، والعلاقة ما بين الدين والدولة في مرحلة ما بعد الجمهورية التركية الحديثة عام 1923.
أولًا: خلفية تاريخية
1. حول علاقة الأتراك بالإسلام
تعود قصة دخول الأتراك للإسلام إلى عام 705م، حين وصلت الجيوش الإسلامية إلى بلدان ما وراء النهر بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي الذي فتح بخارى في ذلك العام.
كانت القبائل التركية تسكن تلك الأراضي في آسيا الوسطى وصولًا إلى الصين قبل الإسلام، اتبعت أغلب تلك القبائل ديانة تعبد إلهًا واحدًا، وكان بينها من يعبد الأصنام، وشهدت تلك الفترة نزاعات كبيرة بين قبائل الأتراك الأوغوز والصينيين.
لم يكن دخول الأتراك إلى الإسلام سريعًا ومباشرًا، بل شابت العلاقة بين الفاتحين الجدد والقبائل التركية تقلبات كثيرة، شهدت تمرّدات وتحالفات ومعارك طويلة.
ويمكن القول عمومًا إن دخول الأتراك للإسلام استغرق حوالي 300 عام، تحولوا في الجزء الأخير منها إلى أحد القوى التي لعبت دورًا كبيرًا خلال فترة العهد العباسي، خاصة مع مجيء الخليفة المعتصم الذي تحالف بقوة مع السلاجقة الأتراك، بل نقل العاصمة من بغداد إلى سامراء، لتكون مركز ثقل الترك في الخلافة.
توسّعت سلطة السلاجقة الأتراك، وسكنوا المناطق المحاذية للإمبراطورية البيزنطية -جنوب تركيا الآن-، وحوّلت معركة ملاذكرد عام 1071 الأناضول كله إلى دولة إسلامية تركية تعمل من أجل الإسلام والزود عنه، وكان للقدس وضعها الخاص بعد أن دخلت في الإدارة السلجوقية، حيث أثارت حفيظة العالم الصليبي المتعصّب فكانت الحروب الصليبية.
مع الوصول إلى القرن الثالث عشر، كانت الدولة السلجوقية تعيش مرحلة أفول لصالح دولة أخرى صاعدة هي الدولة العثمانية، خلال سنوات قليلة تمكّن أحد قادة قبيلة الأوغوز، أرطغرل بن سليمان شاه، من توحيد أغلب الأراضي تحت حكمه.
ثم خلفه ابنه عثمان بن أرطغرل الذي تابع الفتوحات وتوسيع الإمبراطورية، وصولًا إلى حدود قريبة من القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية حينها، قبل أن يتمَّ فتح القسطنطينية ذاتها في عهد السلطان محمد الفاتح، لتتوسّع بعدها الإمبراطورية العثمانية شمالًا وجنوبًا، وصولًا إلى أبعد مدى لها على حدود فيينا في عهد السلطان سليمان القانوني، ثم دخول البلدان العربية تباعًا تحت حكمهم لتحلَّ الدولة العثمانية محل المماليك والصفويين في عهد السلطان سليم الأول عام 1516.
صاغت جمعية الاتحاد والترقي سياستها بما يتفق مع سيطرة العنصر التركي على الإدارة ومركزية الحكم، ولم تتورّع عن استخدام العنف ضد الأقليات الأخرى، وتشبّثت بالفكر العلماني ما أفسح المجال على مصراعيه للصراعات الأيديولوجية
انطلاقًا من القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، بدأت عوامل الضعف والوهن تدبّ في الدولة العثمانية، التوسُّع الكبير للدولة والترهُّل الذي أصابها أدّيا إلى ظهور العديد من مراكز القوى داخل الإمبراطورية، رافق ذلك ظهور الإمبراطوريات الأوروبية ورغبتها بالتوسع على حساب العثمانيين الذين ضعفوا كثيرًا، بسبب تراكم العوامل واندلاع الحروب التي أثقلت كاهل الدولة.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، بدأت مرحلة مهمة في مرحلة الدولة وفي العلاقة بين الدين والسياسة، ومن هنا احتدَّ الصراع بين كثير من التيارات الفكرية، فهناك تيار التغريب وتيار التتريك وتيار الإسلاميين والوحدة الإسلامية، وما أن وصل أعضاء جمعية الاتحاد والترقي حتى ازداد هذا الصراع الفكري والسياسي والقومي، وزجّت هذه الجمعية بالدولة في أتون الحرب العالمية الأولي.
واُحتلت جرّاء الحرب أجزاء كثيرة من الأراضي التركية نفسها، فضلًا عن الولايات البلقانية والعربية التي اشتعلت في بعضها الثورات وتفتّت بعضها الأخرى بين أنياب الاستعمار.
صاغت جمعية الاتحاد والترقي سياستها بما يتفق مع سيطرة العنصر التركي على الإدارة ومركزية الحكم، ولم تتورّع عن استخدام العنف ضد الأقليات الأخرى، وتشبّثت بالفكر العلماني ما أفسح المجال على مصراعيه للصراعات الأيديولوجية إلى جانب الصراعات العرقية.
وظهر للعيان أن القومية أقوى من الدين عند الاتحاديين، وأن الفكر الإسلامي في تركيا بدأ يخبو نجمه بشكل فعلي وملحوظ، وأصبح الفكر العلماني -حتى قبل إعلان الجمهورية- هو السياسة الرئيسية في الدولة، وقضت الحرب العالمية الأولى على الفكر الإسلامي كقوة سياسية في الإمبراطورية، ما انعكس حتى في البلدان العربية نفسها.
2. فترة ما بعد إعلان الجمهورية
لم يكن في عهد الدولة العثمانية شيء اسمه حزب إسلامي أو حركة إسلامية، إنما كان هناك صراع في أواخر هذه الدولة بين التيار الغربي الذي سيطر على النخبة العثمانية منذ بداية القرن التاسع عشر الميلادي بفكره الفلسفي وظاهره الأوروبي، وأبناء التيار الإسلامي الذين أخذوا منذ ذلك الوقت موقف المدافع عن الإسلام كدين، وعن مظاهره أيضًا، وقد أفرز هذا الوضع ظهور 3 توجهات أو 3 تيارات داخل المجتمع العثماني:
1– التيار الأول: الإسلاميون الذين كانوا يرون أصحابه ضرورة التشبُّث والمحافظة على الكيان الإسلامي للدولة، والمحافظة على الدين الإسلامي كأساس للحياة في مختلف مناحيها ومستوياتها.
2- التيار الثاني: القوميون، وهم تيار تزعّم الدعوة إلى القومية التركية، سعى هذا التيار إلى اتحاد الشعوب التركية في جسم واحد.
3- التيار الثالث: سُمّي أصحابه بالغربيين، وهم تيار تعرّف إلى الأفكار الغربية سواء في ديار الدولة العثمانية أو في ديار الغرب، وقد كان للرحلات العلمية لبعض الطلاب العثمانيين دور كبير في الاحتكاك المباشر بهذه الأفكار، فولدت لدى كثير منهم قناعة وبدأوا بالدعوة إلى اعتمادها، ونتج عن ذلك الاندفاع الكامل من أصحاب هذا التيار نحو مقاطعة التقاليد الإسلامية والالتحاق بالغرب.
بقيت الأمور متأرجحة حتى الحرب العالمية الأولى، حيث دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب عام 1915 إلى جانب القوى المركزية (بقيادة ألمانيا والنمسا والمجر)، على أمل إعادة احتلال بعض أراضيها السابقة.
في النهاية حدث العكس، ومع معاهدة سيفر الشهيرة لعام 1920، تمَّ تقليص الإمبراطورية الواسعة إلى إقطاعية صغيرة في الأناضول -أقل من خُمس الحجم الحالي لتركيا الحديثة-، وتمَّ تجنُّب هذا المخطط في نهاية المطاف بعد حرب التحرير (1919-1922) ضد الجيش اليوناني.
عندما انتهت الحرب بانتصار تركيا، أصبح قائدها العسكري الرئيسي، مصطفى كمال، بطلًا قوميًّا، وبعد عام أعلن الجمهورية التركية وأصبح رئيسًا لها بلا منازع حتى وفاته عام 1938، بعد أن تبنّى لقب “أتاتورك” أو “أبو الأتراك”.
كانت حقبة أتاتورك في تركيا بمثابة نظام الحزب الواحد الذي يهيمن عليه حزب الشعب الجمهوري، لم يكن مجرد نظام أحادي منع المعارضة، بل كان أيضًا نظامًا أراد تغيير المجتمع.
استند المخطط الأيديولوجي لأتاتورك، الذي أصبح يُعرف باسم “الكمالية”، على ركيزتَين أساسيتَين: القومية التركية والعلمانية، وكلاهما يمثل انفصالًا تامًّا عن الماضي العثماني.
كانت القومية تعني قيام دولة قومية للأتراك، على عكس الإمبراطورية العثمانية متعددة الأعراق، وألمحت العلمانية إلى أنه لن يُسمح للإسلام أن يكون له أي دور عامّ مهم في هذه الجمهورية الجديدة ذات التوجه الغربي.
كانت “حملات” أتاتورك كاسحة: أُلغيت الخلافة عام 1924 بعد عام من إعلان الجمهورية، تمَّ حلّ وزارة الشريعة، وتمَّ حظر الطرق الصوفية والمدارس التقليدية (المدارس الإسلامية)، بينما وُضعت المساجد تحت سيطرة الحكومة، وتمَّ حظر الطربوش العثماني وفرضَ القانون القبعة ذات الحواف الأوروبية على المسؤولين الحكوميين.
كما تمَّ استبدال التقويم الإسلامي بالتقويم الميلادي والأبجدية العربية باللاتينية، وتمَّ حظر تعليم اللغة العربية، كما تمَّ منع أداء الموسيقى التركية لفترة من الزمن، وكان الهدف هو جعل الجميع يستمتعون بالإيقاعات “الحديثة” (الغربية).
كانت هذه “الحملات” مدفوعة بقناعة مشتركة بين الكماليين: الدين، خاصة الإسلام، كان “عقبة أمام التقدم”، ورغم أنهم لم يعرّفوا أنفسهم صراحة بأنهم معادون للدين، أصرَّ الكماليون على أن الدين ينتمي إلى “ضمير الأفراد” وليس المجال العام.
حيث كما يشير بيناز توبراك، أستاذ العلوم السياسية التركي: “بالنسبة إلى مصطفى كمال ورفاقه، كان دور الإسلام في المجتمع والسياسة العثمانيين مسؤولًا عن الفشل في التحديث”.
كانت فكرة الجمهورية الجديدة تقوم على ما تمَّ اعتباره سلسلة من الإصلاحات لتحرير المرأة، وتدمير تأثير الإسلام في التعليم والقانون والإدارة العامة، ولتحقيق ذلك كان لا بدَّ من حظر جميع الأخويات الدينية الداعية للتجديد وفق رؤية الإسلام، التي وجدها العلمانيون أنها العائق أمام محاولة إنشاء أمّة جديدة من الرجال والنساء الذين سيكونون مسترشدين بالأفكار الوضعية للعقل.
لاحقًا، تبيّن أن هذه الجهود لم تأتِ إلا بنصف نجاح فقط، فهي لم تشكّل مجتمعًا تركيًّا متحولًا بالكامل، إنما مجتمعًا منقسمًا بشكل كبير.
ما أن توفي مصطفى كمال أتاتورك عام 1938 واعتلى عصمت إينونو عرش الجمهورية ومقاليد حزب الشعب الجمهوري، حتى أكّد على مبدأ أن يكون الجيش هو القيّم والحارس على أساسيات النظام ومبادئ حزب الشعب الجمهوري، والذي هو حزب الشعب الجمهوري وأفكاره العلمانية.
لكن النكبات التي حلّت بالدول ذات الحزب الواحد في الحرب العالمية الثانية، جعلت إرهاصات تعدد الأحزاب تبدو في الأفق منذ عام 1945، وجعلت من يفكرون في الأحزاب الجديدة وحرس الحزب القديم يعيدون النظر تجاه الدين ويعدّلون من سياستهم حياله، ومع دخول التعددية الحزبية عادت إلى حلبة الصراع مناقشات السياسة وعلاقة الدين بالديمقراطية والعلمانية.
أفرزت هذه المناقشات 3 تيارات لها مواقف واضحة من الدين:
المحافظون: يرون في الدين ضرورة ملحّة للفرد والمجتمع؛ والمعتدلون: يميلون إلى المحافظين، ويعتبرون الدين من الحقوق الشخصية لكل فرد، أي أنه حق من حقوق الإنسان طالما أن الحرية الدينية مكفولة؛ والعلمانيون: وهم معارضون للدين على طول الخط أيًّا كانت الدوافع والغايات، ويرون أن أي تسامح تجاه الدين هو ردة إلى الوراء.
3. نقطة التحول بعد الحرب العالمية الثانية
شكّلت الحرب العالمية الثانية نقطة التحول الحقيقية في انتقال تركيا إلى التعددية الحزبية في الحياة السياسية، ورغم عدم انخراط تركيا بشكل مباشر في الحرب العالمية الثانية بين عامَي 1939 و1945، إلا أن آثارها السلبية طالت بشكل كبير الحياة السياسية والاقتصادية فيها، حيث أدّت زيادة النفقات العسكرية بسبب الحرب إلى الغلاء والشحّ في بعض الاحتياجات الأساسية.
انعكس هذا الأمر سلبًا على الشعب، خاصة أصحاب الدخل المحدود، ولم تنجح التدابير المتخذة في تقليص الانعكاسات المدمّرة للحرب، وفي ظل الأجواء السلبية هذه، ظهرت ردود أفعال شعبية ضد إدارة الحزب الواحد في تركيا، الأمر الذي ساهم في إفساح المجال أمام الديناميكيات الداخلية للانتقال إلى التعددية الحزبية.
ومع تصاعد مفاهيم الحرية والديمقراطية في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، وانضمام تركيا إلى الأمم المتحدة وتقاربها مع الدول الغربية، تشكّلت الأرضية اللازمة في البلاد للانتقال إلى التعددية الحزبية، ليعلن الرئيس التركي حينها، عصمت إينونو، دعمه للتعددية الحزبية، الأمر الذي سرّع من جهود الانتقال إلى الحياة السياسية متعددة الأحزاب.
أول انتخابات متعدّدة
تجسّد الانتقال إلى التعددية الحزبية في الحياة السياسية التركية بعد ذلك بتأسيس حزبَين بارزَين: الأول تأسيس نوري دميراغ حزب التنمية الوطني يوم 18 يوليو/ تموز 1945، والثاني تأسيس عدنان مندريس ورفاقه الحزب الديمقراطي، بعد عامَين من ذلك، كردّة فعل معارضة لسياسات حزب الشعب الجمهوري آنذاك، أسفرت أول انتخابات عامة متعددة الأحزاب أُجريت يوم 21 يوليو/ تموز 1946 عن فوز حزب الشعب الجمهوري بالأغلبية.
أما في الانتخابات العامة التالية التي أُجريت يوم 14 مايو/ أيار 1950، كان الفوز من حليف الحزب الديمقراطي الذي أطاح بحكم الشعب الجمهوري المتواصل منذ 27 عامًا، وواصل الحزب الديمقراطي فوزه في انتخابات عامَي 1954 و1957، إلى أن أطاح انقلاب 27 مايو/ أيار 1960 العسكري بحكمه الذي استمرَّ طيلة 10 سنوات متواصلة.
مثّل صعود عدنان مندريس نقطة تحول كبيرة من باب فسح المجال أمام القوى الإسلامية للتعبير عن رأيها، رغم أن حكمه لم يدُم بطول مدة الفترة التي حكم بها حزب الشعب الجمهوري، لكنها كانت بداية لوقف القمع الذي مارسه الحزب في ما سبق من فترة وصولًا إلى تأسيس الجمهورية.
حيث أصبح للأتراك حق التعبير عن هويتهم دون فرض بالقوة، وهو ما أظهره الشعب بالأغلبية مرارًا وتكرارًا منذ أول انتخابات حرة نزيهة عام 1950، وكانت هذه الأغلبية تتكون إلى حد كبير إما من المواطنين الريفيين وإما المتحضرين حديثًا، الذين طالبوا باحترام أكبر للدين والتقاليد ممّا كان الكماليون على استعداد لمنحه.
غالبًا ما يطلَق على هؤلاء الأتراك التقليديين لقب “المحافظين”، أو يمين الوسط، كما هو حال الحزب الديمقراطي في الخمسينيات، وحزب العدالة في الستينيات والسبعينيات، وحزب الوطن في الثمانينيات والتسعينيات، ولم تتحدَّ هذه الأحزاب العلمانية بحدّ ذاتها، بل دافعوا فقط وحاولوا تطبيق علمانية أكثر صداقة للدين.
في غضون ذلك، كانت المعارضة الصريحة للعلمانية تُعتبر وفق القانون مفهومًا راديكاليًّا وحتى غير قانوني، والمكان الوحيد الذي وجدت فيه الفكرة موطنًا كان بين الإسلاميين الأتراك.
كان الجنرالات العلمانيون المتشددون الذين سرعان ما أجبروا أربكان على الاستقالة يهدفون إلى التخلُّص من الحكومة الإسلامية، لكنهم كانوا يهدفون أيضًا إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد ما يسمّونه الـ Irtica، وهو مصطلح تركي يعني حرفيًّا “الرجوع إلى الوراء”
يتألف هؤلاء الإسلاميون من الطرق الصوفية: حركة النور الشعبية بقيادة سعيد النورسي (1877-1960)، إلى جانب فروعها المختلفة بما في ذلك حركة غولن، أو حركات أخرى مثل السليمانيين، ولاحقًا جماعة محمود أفندي أو الأربكانيون الذين نتج عنهم حزب الرفاه ولاحقًا انبثق منه حزب العدالة والتنمية، وغيرهم من شريحة الأتراك الذين شعروا بالإهانة من تسلط الهوية الغربية المنفتحة على المجتمع التركي الذي رأوه محافظًا بطبعه.
من الناحية السياسية، وجدت الفكرة الإسلامية تعبيرها الرئيسي في الحركة التي قادها نجم الدين أربكان (1926-2011)، الذي ظهر لأول مرة في أواخر الستينيات مع حزب النظام الوطني الذي ينتمي إليه.
كان مصطلح “قومي” تعبيرًا ملطّفًا لكلمة “إسلامي”، حيث كان يُنظر إلى الكمالية وكل محتوياتها العلمانية على أنها استيراد من الغرب، وتمَّ إغلاق أحزاب أربكان السياسية مرارًا وتكرارًا من قبل محاكم أمن الدولة الصارمة، ليعاد فتحها باسم جديد.
في عام 1996، أصبح أربكان رئيس وزراء تركيا لأول مرة، وذلك بفضل حكومة ائتلافية مع حزب يمين الوسط، لكن هذا أدّى فقط إلى ما يشار إليه عمومًا باسم “انقلاب ما بعد الحداثة” في تركيا، والذي بدأ في فبراير/ شباط 1997 مع توجيه الجيش إنذارًا للحكومة.
كان الجنرالات العلمانيون المتشددون الذين سرعان ما أجبروا أربكان على الاستقالة يهدفون إلى التخلُّص من الحكومة الإسلامية، لكنهم كانوا يهدفون أيضًا إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد ما يسمّونه الـ Irtica، وهو مصطلح تركي يعني حرفيًّا “الرجوع إلى الوراء”، والذي أصبح المصطلح الرسمي للحركات الدينية التي تحدّت الرؤية الكمالية لمجتمع علماني تمامًا.
لكن هذا الانقلاب لم يؤدِّ في النهاية إلا إلى ظهور توجُّه جديد في الانقلاب على الانقلابات العسكرية، واحتوائها بالطريقة الناعمة لحين التمكُّن منها، وهو ما حصل مع ظهور حزب العدالة والتنمية الحاكم (2002-حتى الآن).
ثانيًا: علاقة الدين بالدولة
لم يكن الصراع بين الإسلام والعلمانية في تركيا مجرد صراع حول دور الدين في السياسة والقوانين، إنما كان صراع هوية كاملًا يدخل في العادات والقوانين المدنية، بل حتى الملابس.
وكما أوضحنا سابقًا، عمل التيار العلماني منذ سيطرته على إدخال تغييرات جذرية تحوِّل الدولة التركية إلى دولة أوروبية بالكامل لا علاقها لها بالإسلام، لكن على أرض الواقع كان العلمانيون الأتراك يأخذون العلمانية إلى مستويات لم تصل إليها العلمانية الأوروبية نفسها.
على الناحية الأخرى، كانت غالبية المجتمع البسيط تحمل الإسلام كمصدر للهوية الوطنية، دون أن تعتبر الثقافة الغربية بالمجمل عدوًّا ينبغي استئصاله، كما هو الحال في تعامل العلمانيين مع الإسلام، بل هو تجربة يمكن الاستفادة منها في مجالات العلوم والتكنولوجيا والمجالات الاقتصادية والسياسية، التي وجدت تركيا نفسها في القلب منها بحكم سنوات الحرب الباردة وموقع الأناضول الاستراتيجي المقابل للاتحاد السوفيتي والقريب من جمهورياته.
بالمجمل إذًا، كان هناك تياران رئيسيان، أحدهما يرى ضرورة تغيير الهوية المجتمعية بالكامل، والآخر يرى ضرورة الحفاظ على الإسلام في القلب منه، وفي النهاية مثّلت جدلية الحجاب المعركة الرمزية لكلا الطرفَين، وهي معركة -رغم انتهائها- لا تزال فصول منها تُكتب على المستوى المجتمعي هنا وهناك، خاصة في المناطق التي تشهد تماسًّا بين المحافظين والعلمانيين في المدن الكبرى، مثل أنقرة وإسطنبول وأزمير.
معركة الحجاب
خلال الانقلاب العسكري على حكومة أربكان، كان أحد الأهداف الرئيسية للجنرالات هو حظر الحجاب الإسلامي في جميع المدارس والمباني العامة.
اتبع مفهومهم المفهوم الفرنسي للعلمانية، لكنه أخذها إلى مستويات أكثر تطرفًا، وعليه كان لا بدَّ من حظر وجود الرموز الدينية في الساحات العامة، وإلا سيعني ذلك استمرارية وجود الدين في الحياة العامة وإمكانية عودته للتفاعل في أرض الواقع، ويمكن القول إنها كانت عقيدة الاستبداد الوقائي، لأنها كانت تتفاعل مع تهديد مستقبلي تخميني، وليس تهديدًا ظهر بالفعل بعد.
بدأ الجدل حول الحجاب في الثمانينيات، عندما بدأت الجامعات التركية تشهد تطورًا جديدًا: ازدياد الطالبات الجامعيات ممّن يرتدين الحجاب الإسلامي، ونشأت الظاهرة الجديدة بسبب تحولات اجتماعية في تركيا.
في العقود السابقة، كانت العائلات التي ترسل بناتها إلى الكلية تقريبًا من العلمانيين الحضريين الذين لم يكن الكثير منهم يكترث لارتداء الحجاب من عدمه، وفي الوقت نفسه لم تهتم العائلات التقليدية التي تضمّنت ثقافتها الحجاب بإعطاء التعليم العالي لبناتها، حيث كان نمطها المعتاد هو الزواج بعد فترة وجيزة من التعليم الإلزامي.
لكن مع تزايُد التحضّر والتحديث للطبقة المحافظة، ظهر نوع جديد من الأسرة المحافظة التي سعت إلى التعليم العالي لبناتها، ومع ازدياد الظاهرة تحرّك العلمانيون لوضع حدّ لها، وهو ما حصل في ظل النظام العسكري عام 1982، حيث أصدر مجلس التعليم العالي (YOK)، الذي كانت وظيفته الإشراف على جميع الجامعات، أمرًا دوريًّا يعلن أن “جميع الموظفين والطلاب في مؤسسات التعليم العالي ملزمون بالحصول على الملبس والزي اللذين يتوافقان مع ثورات ومبادئ أتاتورك، واللذين يحملان سمات الشكل المتحضّر”.
لتوضيح معنى “الشكل المتحضّر”، أوضح المجلس كذلك أنه يتعيّن على الطالبات “الكشف عن رؤوسهنّ وعدم ارتداء الحجاب أثناء وجودهنّ في مبنى المؤسسة”، وهكذا بدأت “حرب الحجاب” التي ستصبح في النهاية رمزًا رئيسيًّا للحرب الثقافية في تركيا، على غرار الجدل حول الإجهاض في الولايات المتحدة.
في العقود الثلاثة التالية، حاول العلمانيون فرض حظر على الحجاب، امتدَّ من الجامعات إلى المباني العامة الأخرى، بما في ذلك المستشفيات أحيانًا، وفي غضون ذلك دافع الإسلاميون والمحافظون وحتى الليبراليون العلمانيون عن حق ارتداء الحجاب.
فيديو يوثق حالة الاعتداء على الطالبات المحجبات في الجامعات التركية
كانت إحدى اللحظات الحاسمة في هذه المعركة هي القرار الصادر عام 1989 عن المحكمة الدستورية التركية، والذي ألغى قانونًا أقرّه البرلمان قبل ذلك بعام، ينصّ على “إمكانية تغطية الشعر والرقبة بالحجاب أو العمامة بسبب المعتقدات الدينية”.
وجدت المحكمة في هذا القانون انتهاكًا للمبدأ الدستوري للعلمانية، والذي حدّدته بشكل قاطع على أنه ليس الفصل بين الدولة والدين، بل “أسلوب حياة”، وحملة ضد “دوغمائية العصور الوسطى”.
نصَّ القرار على ما يلي: “العلمانية أسلوب حياة، يؤسّس التأميم والاستقلال والسيادة الوطنية والمثل الأعلى للإنسانية على سيادة العقل والحرية والديمقراطية، التي تطورت عبر التنوير العلمي من خلال تدمير دوغمائية العصور الوسطى. بالمعنى الضيّق، تعرَّف العلمانية على أنها فصل شؤون الدولة عن شؤون الدين، وهي في الواقع مفهوم مقبول على نطاق واسع في الأدبيات، بما يشير إلى المرحلة الأخيرة من التطور الفكري والتنظيمي الذي مرّت به المجتمعات. العلمانية هي اختراق اجتماعي يقوم على السيادة والديمقراطية والحرية والمعلومات، بالإضافة إلى منظّم معاصر للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية”.
كان هذا تصريحًا واضحًا بأن العلمانية التركية لا تتعلق بفصل الدين عن الدولة، بدلًا من ذلك كان الأمر يتعلق بواجب الدولة في علمنة المجتمع من خلال فرض “أسلوب حياة” ليس له أثر واضح للدين التقليدي.
في عام 1991، أوضحت المحكمة الدستورية نفسها لماذا “تتمتع العلمانية التركية بخصوصية تاريخية”، وأنه يجب ممارستها “بطريقة مختلفة عن الغرب”، كما حذّرت من أن أي محاولة قانونية من قبل البرلمان لتحرير الحجاب في الساحة العامة تؤسّس التنظيم العام على أحكام دينية، وبالتالي هي ضد مبدأ العلمانية.
كانت معركة الحجاب نموذجًا يلخّص طبيعة الصراع بين الطرفَين، بالطبع لم تكن كل الأفكار قابلة للفرض بالقوة، يمكن اضطهاد المظاهر أو تقليص الحريات، لكن تبقى الأفكار على أرض الواقع ملكًا لحامليها، ويبقى الباب مفتوحًا لاحتضان أجيال جديدة هذا التوجه أو ذلك.
ونتيجة لهذه الحقيقة، ولطبيعة صراع الهوية بين الطرفَين، ظهرت الكثير من الجماعات الإسلامية المنظَّمة التي حاولت نشر أفكارها الإسلامية بين الأجيال الجديدة، والإبقاء على الهوية المحافظة، ورغم عدم دخول الكثير منها معترك السياسة بشكل مباشر، إلا أن توجُّهاتها كان لها الأثر الكبير في الانتخابات التي أُجريت على مدار تاريخ تركيا الحديث.
ثالثًا: لمحة عن أبرز الحركات الإسلامية التركية
مثّلت التوجهات الصوفية الطابع الأبرز للحركات الإسلامية، الطرق الصوفية التركية لها جذور تاريخية ترجع إلى مئات السنين، وظلت محافظة على وجودها بين أفراد المجتمع وطبقاته، رغم كل محاولات القضاء عليها.
وكانت رسالة هذه الطرق حفظ الثقافة الإسلامية كشريعة ودين، بما يتضمنها من عقائد وأخلاق وأحكام عبادية في نفوس الشعب التركي، من خلال نشاطات وطقوس دينية: أذكار، وأوراد، وأناشيد، وابتهالات.
وعكفت طرق صوفية أخرى على تحفيظ القرآن للناس في بيوت شيوخها أو منازل خاصة أنشأتها لهذا الغرض، وبعضها الآخر اكتفى بالتعبير عن روحانيته بالدروشة التي تصوِّرها وسائل الإعلام في كل مناسبة دينية معيّنة، واختصت أحيانًا كل فئة أو طريقة بلباس خاص يميزها عن الأخرى.
النقشبندية وأخواتها
من أبرز تلك الجماعات الصوفية، نجد الطريقة النقشبندية التي تعدّ أكبر الطرق الصوفية في تركيا من حيث عدد المنتسبين إليها، وهي من أعرقها وأكبرها وأوسعها انتشارًا في البلاد ولها امتدادات في مجموعة من دول العالم الإسلامي.
مؤسّسها هو محمد بهاء الدين النقشبندي الذي عاش في بخارى (توفي: 791هـ/ 1389م)، انتشرت النقشبندية في مختلف أنحاء تركيا وينتسب معظم أهلها إلى الفرع المعروف بـ”النقشبندية الخالدية”، التي أخذت اسمها من خالد البغدادي (النقشبندي) الذي توفي عام 1827، وهو راجع من الحج.
شارك النقشبنديون في كل الأحداث التي ثارت في وجه الإجراءات التي اتخذت لعلمنة تركيا، ومع إقرار نظام التعددية الحزبية عاودت النقشبندية نشاطها، وعملت على تعزيز حضورها في أوساط أساتذة الجامعة وموظفي الدولة وأصحاب المهن الحرة.
إلى جانب النقشبندية، كانت هناك طرق صوفية أخرى، مثل المولوية نسبة إلى “مولانا” جلال الدين الرومي، والتيجانية والقادرية والرفاعية والخلوتية
وهكذا صارت داخل النقشبندية 3 تيارات فرعية، يتزعّم كل واحدة منها شيخ نقشبندي، وهي التيار الأول ضمَّ فئة الحرفيين والتجار الصغار من الطبقة الوسطى؛ التيار الثاني ضمَّ مجموعة من المثقفين وأساتذة الجامعات ورجال الأعمال وزعماء بعض الأحزاب السياسية؛ التيار الثالث ضمَّ الشرائح الاجتماعية البسيطة من الناس من أهل المدن والقرى والأرياف.
وقد كان لهذه الطريقة علاقات مع القوى الحزبية التي تعتبر أداة المشاركة السياسية في تركيا العلمانية المدنية، وفي البداية كانت النقشبندية تدعم حزب النظام الوطني ثم حزب السلامة الوطني، عند تأسيسهما من طرف السياسي الإسلامي نجم الدين أربكان.
وبعد الانقلاب العسكري عام 1980 تشرذم النقشبنديون، فانتمت الغالبية إلى نقشبندية حزب الوطن الأمّ عند تأسيسه عام 1983 بقيادة تورغوت أوزال من تيار اليمين المحافظ، بينما دعم آخرون حزب الرفاه.
إلى جانب النقشبندية، كانت هناك طرق صوفية أخرى، مثل المولوية نسبة إلى “مولانا” جلال الدين الرومي، والتيجانية والقادرية والرفاعية والخلوتية، وهذه الطرق صغيرة الحجم بالمقارنة مع الطريقة النقشبندية، لكنها هي الأخرى منتشرة في كثير من مناطق ومدن تركيا، ولها نشاطاتها الخاصة بها، كما لها حضورها في دعم بعض الأحزاب دون أخرى.
أما الطريقة المهمة من بين بقية الطرق، فهي الطريقة القادرية التي تأسّست على يد الشيخ عبد القادر الجيلاني، وللطريقة القادرية عدة جماعات متفرّعة منها في تركيا، فهناك الجماعة التي كان يرأسها مصطفى خيري أوغوت أفندي وآلت إلى مريده حيدر باش بعد وفاته عام 1979، ثم أخذت الجماعة تصدر مجلتَين شهريتَين ولها قناة تلفزيونية باسم “ملتم”، كما أن لها حزبًا سياسيًّا يترأّسه حيدر باش نفسه.
الجماعات ذات البُعد التربوي والحركي
وهي جماعات تأسّست باعتبارها ردّ فعل متأخرًا نسبيًّا في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن العشرين، ومنها على وجه الخصوص جماعة النور وتنسَب إلى مؤسسها بديع الزمان سعيد النورسي، والجماعة السليمانية التي أسّسها سليمان حلمي أفندي، وجماعة محمود أفندي.
ما يميز هذه الجماعات حرصها على أن يستقل كل منها بخطٍّ فكري يميزها عن غيرها من باقي الطرق الصوفية، وبرزت عدة جماعات وحركات إسلامية مختلفة التوجه، لكن أبرزها:
1 – جماعة النور: تأسّست عام 1896 على يد الشيخ سعيد النورسي (1873-1960) الملقب ببديع الزمان (قام بتأليف رسائل دعوية أطلق عليها اسم “رسائل النور”، بلغت أكثر من 130 رسالة)، دعوا إلى إدخال التعاليم الإسلامية إلى مناهج التدريس.
تعتبَر الجماعة إحدى أقدم الجماعات الإسلامية التركية، فهي تقريبًا الجماعة الوحيدة التي عاصرت العهدَين العثماني والعلماني، وكانت الجماعة تركّز على التوحيد والتربية الإيمانية، وتواجه الإلحاد أو غيرها من الأفكار المعادية للدين، ورغم انتشارها الكبير إلا أنها آثرت الابتعاد عن السياسة، ولم تؤسّس حتى الآن أي حزب سياسي.
2. السليمانية: هي جماعة أسّسها أحد شيوخ النقشبندية، وهو سليمان حلمي تونهان، اتصفت هذه الجماعة بالراديكالية في معارضة نمط الحياة الغربية التي أُريد للمجتمع التركي الدخول في أتونه، وتنتشر داخل تركيا وخارجها في أوروبا الغربية وفي ألمانيا.
يولي زعماء الجماعة السليمانية أهمية للعمل العام في المجال الثقافي، وهم تبعًا يملكون مراكز ثقافية في أكثر مدن تركيا، كما عملوا على تأسيس مؤسسات موازية للمؤسسات الدينية التي تشرف عليها الدولة.
وتتصف الجماعة السليمانية بالانضباط الصارم لأعضائها، فهم خلافًا للنقشبنديين ولجماعة النور، يتحركون ككتلة واحدة أو جسم واحد في عدة مجالات، والجماعة لها مصادرها وتمويلها من مشاريع تجارية تديرها.
3. جماعة محمود أفندي: تعتبَر الجماعة إحدى أكبر الجماعات وأكثرها انتشارًا وتأثيرًا في المجتمع التركي، كان للجماعة حضور كبير على مدار تاريخها منذ تأسيسها على يد الشيخ محمود أسطى عثمان أوغلو الذي وُلد عام 1929.
تتميّز جماعة محمود أفندي عن غيرها بابتعادها التام عن العنف، فرغم كثرة المريدين وعدد المضايقات حافظت هذه الجماعة على عدم انزلاقها في أي أعمال عنف، أو تشكيل تنظيم مسلح طوال فترة مواجهتها مع الدولة منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي وإلى اليوم.
كما تتميّز الجماعة بزيّها الخاص الذي يرتديه الجميع (رجال ونساء وأطفال صغار وشيوخ كبار)، فالملابس النسائية السوداء -كما يسمّونها بالتركية “شرشف”- علامة مسجّلة لهم، تلبَس بطريقة خاصة فلا تُظهر غير العينَين والأنف من الملابس السوداء الواسعة.
أما الرجال فيشتهرون بلباس إسلامي وبطراز عثماني، حيث يرتدون القميص الطويل والسروال العريض وفوقهما جبّة تضفي الكثير من الوقار للملابس، ويتميزون أيضًا بتغطية الرؤوس وارتداء عمامة بأشكال مختلفة.
ويتميزون أيضًا بحرصهم على اتّباع المذهب الحنفي وتطبيق كل ما فيه، فلا يأكلون الطعام البحري باستثناء السمك، ولا يقبلون بالمسح على الجوارب حتى في البرد القارس، وغيرها من الأمور التي يطبّقونها.
وكانت للجماعة مواقف كثيرة خلال فترة الانقلابات العسكرية، آخرها مواقفها المميزة في محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/ تموز 2016.
4. حركة نجم الدين أربكان: تختلف حركة نجم الدين أربكان جذريًّا عن باقي الجماعات الأخرى، أربكان هو أبو الإسلام السياسي في تركيا وحركته سياسية بالدرجة الأولى، وتهتم أغلب أدبياتها بأدب الإسلام السياسي، وربما يمكن القول إن تيار أربكان يوازي تيار الإخوان المسلمين في البلدان العربية، باختلاف أنه حقق نقلة نوعية في المسار السياسي التركي.
منذ التحاقه بحزب العدالة في الخمسينيات وإلى حين آخر معركة ضد العلمانية مع العسكر في انقلاب عام 1997، شكّل أربكان وفكره نقطة التحول ما بين الصراع المرير ضد العلمانية، إلى لحظة انفراجة مؤقّتة للإسلاميين في تركيا، وصولًا بعده إلى التمكين الذي حقّقه تلامذته لاحقًا في حزب العدالة والتنمية.
خاتمة
يمكن اعتبار تجربة الإسلاميين في تركيا فريدة ونوعية من عدة نواحٍ، أهمها إيمانها بأهمية المدخل السياسي في عملية التغيير والإصلاح، فهي مارست السياسة في البرلمان والحكومة وفق نظام ديمقراطي، وآمنت بشروطه كلها، وعملت في الهامش الضيّق المسموح لها به.
تكمن أهمية دراسة الجماعات الإسلامية التركية في اختلاف الأفكار التي تحملها والظروف المتقلبة التي واجهتها كل جماعة منها، وتأثير كل منها على الميول السياسية لأتباعها الذين يتمسّكون عادة بقوة بمسار الجماعة أو الحركة.
في هذه السلسلة من المقالات، سنبحث في أبرز الجماعات والتيارات الإسلامية التركية وتأثيرها على الانتخابات التركية المنتظرة، والتي تعدّ أحد أهم الانتخابات في تاريخ تركيا الحديث.