تعتبَر حركة النور التي أسّسها سعيد النورسي، إحدى أهم الحركات والجماعات أثناء دراسة تأثير الجماعات الإسلامية على الحياة التركية المعاصرة، وذلك كون مؤسّسها عايش فترة كبيرة من الدولة العثمانية، كما عايش فترة الانتقال الكبير التي أعقبت سقوطها وتأسيس الجمهورية الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك.
والأهم أنها لا تزال موجودة بقوة حتى يومنا بهذا، وتملك العديد من المؤسسات الثقافية والاقتصادية والتعليمية، ولها أتباع كثر لهم تأثير واضح في رأي الناخب التركي، ومن المتوقع أن تكون الجماعة أحد العوامل المؤثرة في الانتخابات التركية المقبلة.
أولًا: سعيد النورسي.. النشأة والشخصية
وُلد في قرية نور التابعة لولاية بتلس عام 1878، بدأ تعليمه الابتدائي في قريته مع شقيقه الأكبر عبد الله، وتابع تعليمه في المدارس الدينية المحيطة، وتظهر حياته الأكاديمية أنه طالب ذكي وقادر، ولأنه استطاع استيعاب المواد بسرعة كبيرة، لم يعجب أساتذته بتخطيه الدروس، ما جعله يغيّر المدرّسين بشكل متكرر.
أخيرًا، دخلَ دائرة محاضرات الشيخ محمد شلال في دوغو بيازيد، وحصل على شهادته الثانوية عام 1892 عندما كان يبلغ من العمر 14 عامًا فقط، بعدها عاد إلى قريته ثم ذهب للقاء الملا فتح الله أفندي في سيرت، حيث اختبره الملا وأجاب عن جميع أسئلته بشكل صحيح، حيث اشتهر النورسي في صغره بقوة حفظه وسُمّي على إثر ذلك بديع الزمان.
عاش سعيد نورسي، الذي دعاه حاكم بدليس عمر باشا إلى قصره، لمدة عامَين تقريبًا في مسقط رأسه، وفي عام 1896 أقام مع حاكم ولاية فان حسن باشا، ومع ذلك أمضى أكثر فتراته إنتاجية في عهد حاكم فان، طاهر باشا، وأتيحت له الفرصة لفحص أعمال علمية جديدة في مكتبته الثرية، وأصبح لاحقًا مهتمًّا بالعلوم الحديثة، والتي أطلق عليها اسم “الفنون المدنية”.
كانت فكرته أنه لا يكفي تدريس العلوم الدينية فقط في المدارس، بل يجب أن يتم تدريس العلوم الأخرى معها، واقترح أن يتم ذلك في البداية بإنشاء مدرسة تدعى مدرسة الزهراء، ثم تعميم هذه الفكرة على باقي أنحاء الدولة، وقرر الذهاب إلى إسطنبول لعرض هذه الآراء على السلطان عبد الحميد، وأعطاه طاهر باشا رسالة من شأنها تسهيل لقائه مع السلطان.
سعيد نورسي الذي أذهل العلماء الشرقيين، جعل نفسه مقبولًا لدى العلماء هناك بالوعظ في مسجد الفاتح بعد قدومه إلى إسطنبول، ولاحقًا تمَّ اعتقاله لفترة عندما ألقى خطابًا ضد الاستبداد في 26 يوليو/ تموز 1908 في ساحة الحرية في سالونيك قبل أن يتمَّ إطلاق سراحه.
تشير التقديرات إلى أنه خلال هذه الفترة كان لديه علاقات مع أعضاء الاتحاد والترقي، وقال سعيد النورسي، الذي أشار لجنة الاتحاد والترقي من وقت لآخر، في كتاباته في ذلك الوقت، إن بعضهم دافع عن مبادئ مفيدة جدًّا لإدارة البلاد وإحياء الحياة الدينية، لكنه رأى لاحقًا أن الوحدويين ابتعدوا عن هذا الهدف وانحصرت علاقته بهم على أنور باشا.
حتى حادثة 31 مارس/ آذار، انخرط سعيد النورسي في أنشطة مكثّفة لتأسيس فكرة الحرية والدستورية، معتقدًا أن الشرقيين على وجه الخصوص لم يكونوا مستعدين لهذه الأفكار، وبدأ بالحديث عن فوائد الحرية ونظام الإدارة التشاركية في إسطنبول، وكتابة مقالات في جريدة “فولكان” وجريدة “الاتحاد”.
جادل في هذه المقالات بأن حياة المجتمع بحاجة إلى الوحدة والتضامن، وأن فكرة اللامركزية من شأنها أن تعطّل الوحدة، وهكذا تمَّ اعتقاله عام 1909 بسبب ارتباطه بحادثة مارس/ آذار قبل إطلاق سراحه مرة أخرى، ليتجه بعد ذلك إلى ريزة، ومن هناك إلى باتومي وتبليسي، ومن هناك إلى فان في الأشهر الأولى من عام 1910.
ثم سافر حول القبائل الكردية في وان، وحاول تنويرها خاصة حول القضايا الإسلامية في ذلك الوقت، وكذلك مفاهيم مثل الدستورية والحرية والاستبداد والاستشارة والمجلس، وبقيَ ينشر أفكاره حتى حلول الحرب العالمية الأولى.
مع الحرب العالمية الأولى توقّفت محاولة سعيد النورسي مرة أخرى، حيث هو نفسه انضمَّ إلى الحرب مع بعض طلابه على جبهة باسنلر، وفي عام 1915 شكّل ميليشيا والتحق بالجيش برتبة حاكم منطقة، وفي غضون ذلك تمَّ تكليفه بمهمة الدفاع عن بيتليس وموش اللتين كانتا على وشك السقوط.
فقدَ العديد من طلابه أثناء محاولته حماية فان وبيتليس وموش ضد الأرمن والروس، من خلال فوج الميليشيا التطوعي المكوّن من ما بين 3 و4 آلاف شخص الذي هو أسّسه، وأُصيب في بيتليس وأُسر من قبل الروس، وأُرسل إلى كوستروما على ضفاف نهر الفولغا.
بعد عامَين من الأسر، هرب عبر ألمانيا والنمسا وعاد إلى إسطنبول عام 1918، في غضون ذلك تمَّ تعيينه كعضو في دار الحكم التي تأسّست حديثًا، ومع ذلك عندما هُزمت الإمبراطورية العثمانية في الحرب واُحتلت البلاد تعرّضت لصدمة روحية كبيرة، ومن الآن فصاعدًا بدأت العمل النشط من أجل إنقاذ العالم الإسلامي.
مرحلة جديدة
عندما احتل البريطانيون إسطنبول عام 1920، شجّعت الصحف الناس على محاربة الاحتلال، في هذه الأثناء بدأت “قوة الشعب” النضال من أجل الاستقلال في الأناضول، والتي أيّدها النورسي في كتاباته كثيرًا، وردَّ على من اعتبرها تمردًا.
بعد سقوط الخلافة وتقاسم الدول الغربية معظم أراضي الإمبراطورية العثمانية، حكم عليه القضاء العسكري البريطاني بالإعدام، إلا أن الحكم لم ينفّذ، ثم استدعته الحكومة الوطنية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك للانضمام إليها في مقرّها بأنقرة.
سرعان ما ضاق أتاتورك بانتقادات النورسي لسلوك وتوجهات أعضاء حكومته المخالفة لتعاليم الدين، وخاف من قدرته على تأليب الرأي العام عليه، فعيّنه مرشدًا دينيًّا في الأقاليم الشرقية وبراتب مغرٍ أملًا في إبعاده عن مركز اتخاذ القرار، لكن النورسي رفض المنصب والراتب وفضّل الإقامة في مدينة وان شرقي البلاد، التي سبق أن عاش فيها مدة.
وفي تلك الأثناء اندلعت ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925 شرقي البلاد، لكن النورسي رفض دعمها معتبرًا أنها حرب بين المسلمين، ورغم ذلك اعتقلته السلطات واتهمته بالضلوع في الثورة، فحُكم عليه بالسجن ونُقل إلى بلدة بارلا.
كانت هذه بداية حياة المنفى والسجن والمحاكم المستمرة، في الواقع تمَّ إرساله من بوردور إلى قرية بارلا في إسبرطة في ربيع عام 1926، وكتب معظم أعماله خلال السنوات الثماني التي قضاها في بارلا.
نُقل إلى إسبرطة في صيف عام 1934، واُعتقل في 27 أبريل/ نيسان 1935، وأُرسل إلى سجن إسكيشهر مع أكثر من 100 من طلابه.
كانت التهم الموجّهة إليه بشكل عام هي تأسيس جمعية سرّية تعمل ضد النظام، كانت هناك مزاعم مثل محاولة تدمير النظم الأساسية للجمهورية والعمل ضد العلمانية.
ودافع سعيد النورسي عن نفسه ضد هذه المزاعم في محكمة إسكيشهر، ليُطلق سراحه ويتمّ القبض عليه ونفيه إلى كاستامونو، بتهمة أن الكتب التي صادرتها الشرطة أثناء تفتيش بيته في سبتمبر/ أيلول 1943 كانت غير قانونية.
تمَّ نقل جثمان النورسي إلى مكان مجهول من قبل الإدارة العسكرية في تلك الفترة، التي كانت قلقة من اهتمام الجمهور الشديد بقبره في أورفة.
بعد مكوثه في هذه المدينة لمدة 8 سنوات وإرساله إلى دنيزلي، قُدّم للمحاكمة مرة مع 126 طالبًا تمَّ جمعهم من إسبرطة وكاستامونو والعديد من المقاطعات الأخرى في دنيزلي، ومع ذلك تمّت تبرئته مع طلابه عندما ورد في تقرير لجنة الخبراء التي عيّنتها المحكمة حول رسائل النور أنه ليس لديه أي نشاط سياسي، وأنه لم ينخرط في طائفة أو مجتمع، وأن الكتابات تتكوّن من مواضيع تتعلق بالإيمان والقرآن.
في صيف عام 1944 تمَّ نفي سعيد نورسي مرة أخرى إلى منطقة إميرداغ في أفيون، بعد 4 سنوات تمَّ اعتقاله ووضعه في سجن أفيون وحُكم عليه بالسجن لمدة 20 شهرًا، لكن تمّت تبرئته في الاستئناف، إلا أن حدثًا ما سيغيّر المعادلة بالنسبة إليه ويعيده إلى الواجهة.
فبعد نقله إلى أمير داغ مرة أخرى، عاد نورسي جزئيًّا إلى المجتمع عام 1950، عندما وصل الحزب الديمقراطي إلى السلطة برئاسة عدنان مندريس، خلال هذه الفترة كان يتجوّل باستمرار ويحاول نقل آرائه إلى الناس.
نُشر الكتاب الذي تمَّ تجميعه تحت اسم “دليل الشباب” من أعماله عام 1952 لأول مرة في إسطنبول بأحرف لاتينية، وتمَّ تقديم سعيد النورسي للمحكمة مرة أخرى على أساس أن العمل كان ضد العلمانية، لكن تمّت تبرئته نتيجة دفاعه، وفي هذه الأثناء ظهرت مقالاته ومقابلاته في مجلّات كثيرة، وكان يلتقي الطلاب خاصة طلاب الجامعات ويشرح لهم الإسلام، لكن هذه الأنشطة أثّرت على صحته نتيجة تقدُّمه في السن.
رغم أنه كان مريضًا بشكل خطير، فقد نُقل من أمير داغ إلى أورفة بناءً على طلبه وتوفي في 23 مارس/ آذار 1960، وتمَّ نقل جثته إلى مكان مجهول من قبل الإدارة العسكرية في تلك الفترة، التي كانت قلقة من اهتمام الجمهور الشديد بقبره في أورفة.
فكر النورسي والمنهجية
يمكن اعتبار نضال سعيد النورسي ضمن ما يُعرَف بالتجديد أو إحياء الفكر الإسلامي، حيث يرى النورسي أن الأسئلة الفلسفية العميقة مثل وجود الإنسان ودوره في هذا العالم وحقيقة الحياة لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء القرآن وتوجيهات الله.
يناقش النورسي وفق ذلك مفاهيم مثل من أين جاء الإنسان، وواجبه في الحياة، وأين يمضي بعد الموت، وهو ما يؤثر بالنتيجة على دور المجتمع الواحد وما يجب أن يكون دور الإنسانية جمعاء.
وبما أن الإيمان بالله هو غاية الخلق، فيجب أن يكون هذا الاعتقاد أساس نظرة الإنسان إلى العالم وإلى نفسه، لأن الإيمان نور وقوة، ثم يأتي العلم ليخدم هذه النظرة وليس على العكس ممّا حصل في العلم، من إنكار لله والتوجه للإلحاد وإعمال العقل فقط.
وتأكيدًا على حتمية خدم العلم للإيمان بالله وإثبات وجوده، يركّز سعيد النورسي أيضًا على أن كل كائن في الكون يشير إلى وجود خالقه، وجميع الكائنات المرئية هي بمثابة نوافذ تنفتح على العالم الإلهي.
يقود هذا الاعتقاد الناس إلى السلام الداخلي، خاصة أن إنكار وجود الله يجعل الحياة بلا هدف ولا معنى، وهو أمر لا يمكنه الإجابة عن أي سؤال من الأسئلة الإنسانية العمقية الممتدة على مدى قرون.
يلفت سعيد النورسي الانتباه إلى خطورة المادية التي تنكر وجود الله وتنسب كل شيء إلى الصدفة، ويشتكي من أن بعض المثقفين يحاولون إغراء حتى المحافظين ومحاولة تدمير معتقداتهم، بحجّة أن النظريات المادية تشكّل أساس كل العلوم، ويؤكد سعيد النورسي أن الأسباب في عالم الوجود لا تملك القدرة على تحقيق النتائج التي تتوسّط فيها، وأنه لا يمكنها التصرف إلا بقوة الخالق.
وفقًا للنورسي، فإن القرآن هو تفسير موجز لكتاب الكون
يرى النورسي أيضًا أن النبوة ضرورية لمعرفة الرسالة الإلهية، وفهم الواجبات تجاه الخالق وتنضيج الحياة الاجتماعية لتتماشى مع مبدأ العدل الذي فرضه الله على الناس، ويمضي في الحديث عن معجزة القرآن وقدرته على تغيير واقع العرب من الجاهلية إلى صناعة الحضارة في وقت قصير جدًّا، رغم أن كثيرًا من الناس يعجزون حتى عن تغيير بعض العادات البسيطة، رغم مكوثهم في ذلك وقتًا طويلًا، وهو ما يعطي قيمة إضافية للإسلام ليس من الجانب الروحي وحسب، إنما من الجانب المادي أيضًا.
فالإسلام ليس قيمة روحية تنظّم العلاقة بين الخلق والخالق، إنما هو منهج اجتماعي وسياسي لتنظيم علاقة الناس بين بعضهم، ويدخل في جوانب أخرى مثل الدولة والاقتصاد لأنها أيضًا داخلة ضمن العلاقة بين الخلق والخالق.
وفي هذا الجانب، يرى النورسي أن الإيمان بالآخرة أساسي في معرفة الحياة الدنيا ودور الإنسان فيها، والدافع الذي يجب أن يحدوه لفعل الخير، لأنه بذلك سيحصل على رادع داخلي يحفّزه نحو الخير، ويبعده عن الشر.
وفقًا للنورسي، فإن القرآن هو تفسير موجز لكتاب الكون، ولهذا السبب يجب طرح التفسيرات التي يمكن أن تنقل مبادئ القرآن إلى الناس في إطار علمي وعقلاني، في مواجهة تهديد الحركات القادمة من الغرب والدفاع عن أفكار الإنكار تحت اسم العلم.
آراء النورسي في المجتمع والسياسة
وفقًا لسعيد النورسي، تعيش البشرية الآن عصر العقد الاجتماعي، بعدما تخطت مراحل أخرى مثل عصر السلطة المطلقة وعصر المجتمع البدوي وعصر السبي وعصر الممالك والإمبراطوريات.
يجادل نورسي بأن الإنسانية ستصل إلى نظام اقتصادي واجتماعي أكثر حرية في المستقبل، وستكون البشرية قادرة على تحقيق ذلك بفضل الإسلام، لأن الأديان الأخرى قد تمَّ تشويهها بمرور الوقت، وابتعدت عن المسار الصحيح الذي يجعل البشرية سعيدة حقًّا.
الحضارة الحقيقية التي هي في جوهر الدين تقوم على مبدأ التعاون القرآني وتقرّب الناس من بعضهم، على غرار الانسجام في الكون، من ناحية أخرى إن الحضارة القائمة على الفلسفة، والتي لا تقوم على الدين، ترى الحياة فقط على أنها صراع، ومع ذلك إذا حاولت الكائنات أن تعيش حياتها في صراع، فلن تكون الحياة ممكنة لا في المجتمع ولا في العالم المادي.
يقول النورسي إن الحضارات التي تستند إلى رسائل الدين تقبل أن الله هو صاحب كل شيء، حيث لا يمكن لمجتمع قائم على القوة أن يحقق النضج على أساس الفضيلة، لأنه يتصرّف باستمرار في انتهاك لحقوق الآخرين.
يرى الكثير ممّن تمَّ اللقاء بهم من النورسيين أثناء إعداد التقرير، أن وجود حزب العدالة يخدم الأهداف التي من أجلها تأسّست حركة النور، كما يضمن لها حرية الحركة والتوسع دون مضنّة الخوف من تضييق قد يعيد تركيا إلى مربعات قديمة تخلّصت منها
وفي حين أن الحضارة التي تستثني الوحي تشجّع الترفيه والفجور لإرضاء نفسها، فإن الحضارة القائمة على الوحي تعطي الأولوية لمجالات خدمة المجتمع، وبالتالي الرفاه والسلام.
في هذا الصدد تراعي تلك الحضارة الاختلافات بين الطبقات والأعراق في المجتمع، وتحافظ عليها جنبًا إلى جنب مع مفاهيم مثل العقيدة والدين والوطن، وتمنع الصراعات القومية/ العنصرية، لهذا السبب يؤكد النورسي بشكل خاص أن العنصرية، التي يسميها القومية السلبية، محظورة في الإسلام.
يؤكد النورسي أيضًا أن يكون شكل الدولة للمجتمع الذي تمَّ تشكيله على أساس فهم الحضارة على أساس الوحي، نظامًا جمهوريًّا، فهو يرى أن الجمهورية تتكون من “العدالة والشورى والسلطة في القانون”، ويجب أن يُفهم التأكيد على العدالة على أن الدولة هي سيادة القانون، والتشاور على أنه مشاركة ديمقراطية للشعب، من خلال تركيز السلطة في الدولة يعني سعيد النورسي أن السلطة قائمة فقط على الدولة، وليس على مجموعات أو دوائر أو أيديولوجيات معيّنة.
طوال حياته وضع النورسي هذه الأفكار في مؤلفات عديدة شهيرة، أهمها “رسائل النور” و”الكلمات” وغيرها، ورغم أن محتوى مؤلفاته كان إيمانيًّا روحانيًّا حول الإسلام، لكن هذه التوجهات والمنطلقات كان يجب أن تتعارض مع مبادئ الجمهورية العلمانية نفسها، والتي تنطلق من مبدأ إبعاد الدين عن الدولة وحصره في ضمائر الشعوب، وهذا كان سبب الصدام المستمر بين الحكومة والنورسيين طوال الفترة التي كانت فيها الأحزاب العلمانية في الحكم.
حركة النورسيين
النورسيون.. الحركة التي تبنّاها أتباع سعيد النورسي، هي حركة إحياء دينية ولدت وتطورت في العصر الجمهوري من قبل أتباع سعيد النورسي، من حيث بدايتها وعملية تطورها فهي تشبه حركات النهضة الإسلامية الأخرى، ومع ذلك يمكن اعتبار هذه الحركة أيضًا حركة اجتماعية.
تمَّ وضع أساس حركة النورسيين عام 1926 في قرية برلا بإسبرطة، حيث كان سعيد نورسي في المنفى في بارلا، ومكث لأكثر من 8 سنوات، فكّر في تثقيف الطلاب في إطار النظرة العالمية التي طرحها أثناء حقوق الطبع والنشر لأعماله، ومع زيادة عدد طلابه شكّلت فكرة التجمع كمجتمع حركة الإصلاح في ذهنه.
وفي الوقت نفسه، كان طلابه يحاولون إعادة إنتاج مؤلفاته عن طريق كتابتها باليد ونشرها في جميع أنحاء تركيا، وبصورة عامة يمكن القول إن حركة النورسيين مرّت بـ 3 مراحل:
المرحلة الأولى هي فترة التأسيس في بارلا، والتي استمرت من عام 1926 إلى عام 1934، والمرحلة الثانية هي فترة التكوين التي تشمل التطورات من عام 1935 حتى وفاته، ثم مرحلة الانطلاق والتوسع بعدها.
منذ بداية الخمسينيات ومع تحسُّن الأجواء الديمقراطية، أخذت حركة النور في الانتشار والاتساع، خاصة بعد صدور قرار المحكمة الدستورية بتبرئة “رسائل النور” وخلوها ممّا يسيء إلى الدولة ومبادئها.
وبدأت تتسع دوائر فئات القارئين لرسائل النور، وكانت في تلك الفترة في مرحلة انتظام هيكلي حاول النورسي تشكيله، من أجل سير دور الحركة بعد وفاته، إلا أن هذا التنظيم لم يكن يأخذ شكل التنظيمات السرّية أو المعقّدة، أو حتى التنظيمات الهرمية أو العنقودية المعروفة لدى الجماعات الإسلامية للأخرى، بل كان يستند على همّة ونشاط طلابه ومدى إخلاصهم للعمل، ويعتمد على العمل التطوعي.
إلا أنه بعد وفاة النورسي في 23 مارس/ آذار 1960، لم تدخل حركة النور تحت قيادة واحدة، إنما أدارت الحركة شؤونها بشكل تطوعي تعاوني، وقد تضافرت مجموعة من العوامل أدّت إلى انقسام حركة النور الرئيسية تلك إلى عدة مجموعات، ويمكن أن نعزو ذلك إلى أن سعيد النورسي لم ينتخب رئيسًا بعده، إنما أوكل إدارة الجماعة من بعده إلى أقرب الطلاب إليه وأكثرهم إخلاصًا ونشاطًا، وكان يقول عندما أكون مريضًا استشيروا هؤلاء، وهم 6 طلاب:
1- حسني بايرام أوغلو
2- مصطفى صونغور
3- بايرام يوكسل
4- زبير جوندوز ألب
5- طاهرى موتلو
6- جيلان تشاليشقان
ظلت الجماعة تحت إدارة شورى الطلاب الستة السابقين على المنهج نفسه وبالأهداف ذاتها التي كانت عليها أثناء حياة النورسي، دون أن تظهر بينهم خلافات، وقد ركّزت أهدافها آنذاك في نشر “رسائل النور” وتوزيعها وممارستها.
وكذلك أولت أهمية كبرى لفتح “مدارس نورية”، وهي مكان يتم فيه مدارسة “رسائل النور”، وفتحت هذه المدارس أبوابها للجميع مرة في الأسبوع لحضور اجتماع تُقرأ فيه “رسائل النور” وتُشرح فحسب، بل كانت في الوقت نفسه مكانًا لتعاطي الآراء وتبادل النقاش بغية تقوية الهوية الإسلامية وتدارس القضايا السياسية.
غير أنه مع حصول “رسائل النور” على البراءة وحدوث التقدم العلمي في مجال الطباعة والنشر، رأت الجماعة أن تطبع “رسائل النور” في المطابع بالحروف التركية الجديدة حتى يتسنّى للجميع قراءتها وفهمها، بدلًا من عملية الاستنساخ باليد التي كانت تتم في عهد النورسي.
وآنذاك كان أول انقسام عن حركة النور الرئيسية، وهي مجموعة الخطاط خسر آلطن بإشاق الأسبارطي التي عارضت طباعة “رسائل النور” في المطبعة، وأخذت على نفسها ألا تستنسخ الرسائل إلا باللغة العثمانية أي بالحروف العربية، وأُطلق عليهم بعد ذلك مجموعة النسّاخ.
العمل السياسي للنورسيين
يعرَف عن النورسيين مقولاتهم الدائمة حول الابتعاد عن السياسة، حيث لم تشارك الجماعة بشكل سياسي ولم يؤلَّف أي حزب سياسي على الإطلاق، وخلال الفترة التي سبقت الخمسينيات -مرحلة الحزب الواحد- لم تكن للجماعة توجهات سياسية، لكن أفكارها المعادية للعلمانية كانت تعني ضمنًا رفضها للتيار السياسي الذي كان يقوده حزب الشعب الجمهوري وقتها.
يمكننا القول عمومًا إن توجهات النورسيين كانت تبعًا لأفكار سعيد النورسي وتطورها، والتي كانت تواكب التغييرات السياسية في البلاد.
ففي المرحلة التي كان يسود الحزب الجمهوري فيها، كان النورسي رافضًا تمامًا للدخول في السياسة، لانعدام أي إمكانية للتحرك السياسي، لكن الأمور اختلفت بعد الخمسينيات، حيث بدا واضحًا تأييد بديع الزمان النورسي وطلابه النورسيين للتغييرات الجديدة التي طرأت في الحياة السياسية التركية، والتي انتهت بتعددية حزبية أنتجت الحزب الديمقراطي الذي أعطى مساحة أكبر للحرية الدينية، وتحدى الكثير من الإجراءات العلمانية منها إعادة الأذان بالعربية وغيرها.
صحيح أن النورسيين لم يعلنوا صراحة تأييدهم لجهة سياسية، امتثالًا للنهج النورسي القديم في عدم الدخول في السياسة والاكتفاء بالتربية الروحية والدينية، إلا أن الكثير ممّن أجرينا لقاءات معهم من أعضاء الجماعة على مستويات مختلفة من القيادات، أكّدوا أنهم سيشاركون في عملية التصويت بالتأكيد، وسيصوّتون لحزب العدالة والتنمية
وبعد وفاته، شهدت جماعة النور انقسامات كثيرة، منها من شارك بطريقة أو بأخرى في السياسة مثل جماعة عبد الله غولن، ومنها من ارتأى الاستمرار على النهج القديم لسعيد النورسي.
ربما يكون المثال الأوضح والأكثر استدلالًا على توجه جزء كبير من جماعة النور في الانتخابات التركية، التقارب الكبير الذي أظهره فرع من الجماعة نحو حزب العدالة والتنمية، خاصة في الفترة الأخيرة من حياة أحد طلاب النورسي، وهو مسؤول الجماعة الأول حسنو بايرام أوغلو، والذي توفي في أبريل/ نيسان 2021.
بايرام أوغلو هو أحد الطلاب الستة الذين عهد إليهم النورسي قيادة الجماعة خلال حياته، كما أوضحنا آنفًا، ولم ينفك الرجل الظهور في المناسبات الخاصة بحزب العدالة والتنمية، أو تلك المناسبات الحكومية التي يقودها حزب العدالة والتنمية.
مثلًا كان ظهور حسنو بايرام أوغلو في مؤتمر افتتاح جامع آيا صوفيا، رفقة المسؤولين الأتراك من حزب العدالة والتنمية، حدثًا له دلالات كثيرة، فالرجل دُعي إلى أحد المؤتمرات الرئاسية وقابل الرئيس التركي أردوغان بنفسه، وظهر وزير الداخلية -الرجل الثاني في الحزب- يحمل له المظلة بينما كانا يسيران معًا، كما جمعته صور وزيارات أخرى مع وزير الداخلية هاكان فيدان، ورئيس الأركان يسار جولر، كما نعى الكثير من هؤلاء المسؤولين بايرام أوغلو وقت وفاته بسبب كورونا.
من يعرف السياسة التركية جيدًا، يدرك أن مثل هذه المظاهر لها دلالات تأييد كبيرة، حيث شهدت جمعيات النور تسهيلات وانتعاشًا وتوسعًا كبيرًا خلال فترة حزب العدالة والتنمية، وأصبح لها الكثير من المقرّات والجمعيات والمساكن الطلابية.
صحيح أن النورسيين لم يعلنوا صراحة تأييدهم لجهة سياسية، امتثالًا للنهج النورسي القديم في عدم الدخول في السياسة والاكتفاء بالتربية الروحية والدينية، إلا أن الكثير ممّن أجرينا لقاءات معهم من أعضاء الجماعة على مستويات مختلفة من القيادات، أكّدوا أنهم سيشاركون في عملية التصويت بالتأكيد، وسيصوّتون لحزب العدالة والتنمية لأنهم لا يرون في البديل خيرًا لتركيا ولا للمجتمع الذي عانى طويلًا من الاضطهاد والقمع العلماني، ويرون في زوال حزب العدالة والتنمية عودة إلى الوراء، بعد كل ما تحقق من انفتاح وتغيير منذ 20 عامًا خلت.
الخلاصة
رغم ابتعاد جماعة النورسيين عن السياسة وإعلانهم الدائم براءتهم منها، إلا أن توجُّه أعضاء الحركة العام نحو حزب العدالة والتنمية سيلعب دورًا كبيرًا في حسم أصوات شريحة لا بأس بها ضمن اليمين المحافظ.
صحيح أن حزب العدالة يحاول كسب أصوات الوسط، إلا أن هذه الشريحة تعدّ من القواعد الأساسية للأحزاب الإسلامية بمختلف أطيافها، وجزء منها أيضًا يمثّل قواعد الأحزاب القومية.
يرى الكثير ممّن تمَّ اللقاء بهم من النورسيين أثناء إعداد التقرير، أن وجود حزب العدالة يخدم الأهداف التي من أجلها تأسّست حركة النور، كما يضمن لها حرية الحركة والتوسع دون مضنّة الخوف من تضييق قد يعيد تركيا إلى مربعات قديمة تخلّصت منها بعد عقود من النضال والجهود، هذا طبعًا فضلًا عن الخلفية الإسلامية المشتركة ما بين حركة النور وحزب العدالة والتنمية الذي تأثر قادته بدورهم بفكر سعيد النورسي ورسائله.