من داخل سحابة دكناء من البؤس الشامل نقرأها في العيون وفي الكلام، يلح علينا سؤال مضن عن مقدار إيمان التونسيين بالحرية، هو سؤال في المراجعات والاستئناف لا نجد له جوابًا سهلًا، إذ لم يعد حديث التبشير بثورة الحرية والكرامة مقنعًا.
هل مارسنا الخداع الذاتي فتوهمنا واختلقنا شعبًا حرًا من خيالاتنا الأدبية، ففضح الانقلاب أوهامنا؟ نقف على حد سكين فإذا قلنا بوقفة تأمل صرنا في الناكصين عن الثورة وإذا واصلنا على نفس الخط التبشيري وقعنا في الاستيهام.
إن تسليط اللعنات على الشعب الجاهل رياضة ممتعة للمثقفين، لكن ألم تكن عشر سنوات من الحرية كافية ليستشعر المثقفون الكبار والمتوسطون وعوام الناس (الشعب) مزايا الحرية في حياتهم اليومية؟ نكتب من داخل الدوامة وبصرنا اليوم حديد.
الخبز أم الحرية؟
تراث كثيف متراكم منذ القرن التاسع عشر عن أدوار المثقفين القادة مر به الجميع، حتى إن استعادته تصير نوعًا من البلادة الفكرية، فالمثقف القائد العارف بكل شيء خاصة بمزايا الحرية السياسية لم ينجز الثورة، لقد قدمها له العوام على طبق فاعترض طريقها وكشف وجه المعتاش من الحرية دون صيانتها، لذلك نعاين ردته السريعة عنها وانغماسه العاري في مطلبيته الخاصة.
لم نعد نرى تميزه عن الناس المتهمين من قبله بالغريزية، فهو يبرر للانقلاب ويهرب أمامه حفاظًا على موقع ومصلحة آنية دون أفق، فيلتقي في نفس الجبهة مع مفقر أمي مهموم فقط بأسباب البقاء المادي مثل سائمة ترعى، مثقف وأكاديمي يلحس كل النظريات عن دور المثقف الطليعي ولا يجد غضاضة في القول إن النظام مقدم على الحرية، ثم يشارك في الجأر من الفقر الزاحف على مقدراته المادية.
لا نصل إلى أرقام دقيقة، لكن شواهد عشرية الحريات قدمت لهذا المثقف مكاسب مادية يفترض أن تجعله أكثر تمسكًا بالحرية، لكن شواهد اللحظة تقدم لنا ما يثير استغرابنا وخيبتنا، والأدهى أن الذي استفاد من الحريات ينوح باللائمة على العوام الذين فرطوا فيها.
إننا إزاء حالة من المثقف الغريزي، وهل يكون المثقف غريزيًا؟ نعم المثقف التونسي الذي يرحب بانقلاب إلا قلة قليلة منعوتة بالجنون، هل هذه ثمرة الجامعة التونسية؟ نعم بلا فلسفة قرامشية، لم تتجاوز دفاتر السجن.
إعلاميون ينكرون الحرية
صورة الإعلاميين مقعين على الإسفلت أمام برلمان جديد ينتظرون لفتة كرم من صاحب البرلمان ليقوموا بعملهم توجع كل مؤمن بدور الإعلام وبأهمية الحرية للإعلامي قبل غيره من المهن، وحتى اللحظة لم نقرأ لإعلامي تونسي عبارة ندم على ما فرط فيه من الحرية.
لقد فتحت لهم الثورة مجالات عمل بلا حدود وحولت بعضهم إلى أثرياء، لقد تمتعوا بسلطتهم الرابعة كما رغبوا لكننا نراهم يبررون للانقلاب الذي يهين أقلامهم ويقطع رزقهم، ألم تكن حرياتهم مكسبًا لهم فيحمونها؟ تلك الصورة كشفت هوانهم، لكن الهوان لم يبدأ من لحظة الصورة بل من لحظة ترحيبهم بالانقلاب ساعة استهانتهم بمكسب الحرية الإعلامية.
نتذكر أن قطاعًا واسعًا منهم تربى في مؤسسات النظام السابق (وكالة الاتصال الخارجي) وأنهم لم يكونوا سوى أقلام مأجورة بأجر مخز، لكن فرصة حرية أتيحت لهم فلم تغيرهم ولم تعلمهم، لقد كسب بعضهم مالًا كثيرًا لكنه لم يقدر إطار العمل في الحرية حق قدره، ونراه يرتد إلى مرتزق بأجر زهيد دون كرامة إعلامية، فيقعي على الإسفلت، فهل يمكن أن نسمي المشتغل بالإعلام دون حرية إعلاميًا حقًا؟ عجبي.
مئتان وثلاثون حزبًا؟
هو تقريبًا عدد الأحزاب التي تمتعت بالوجود القانوني بعد عقود طويلة من منع الانتظام الحزبي، فقد قفز الجميع على فرصة الحريات فأسس لنفسه وجودًا سياسيًا وقال بحقه في المشاركة، أين كل هذه المسميات ثمرة الحريات غير المحدودة؟ هي الآن حوانيت مغلقة لا يعرف أحد عناوين مقراتها، فأغلبها لم يتخذ مقرًا وتلاشى، لكنها كانت شاهدة على لحظة حرية بلا حدود، الآن كل الذين تحرروا اختفوا كأن لم يكونوا، هل كان تحزبهم إيمانًا بالحرية أم مجرد مطامع صغيرة لفوز بشيء ما؟ نرجح هذا بقوة لقد كان تحزبًا أقرب إلى تناطح المعز على العلف القليل، تحزب المطامع الصغيرة ليس إيمانًا بالحرية ولا ينبني على خيال سياسي حر.
والأحزاب الباقية بعد في الصورة هل لا تزال تؤمن بالحرية؟ لقد ساند كثير منها الانقلاب وانخرط فيه ويشارك الآن في برلمانه ويزعم أن ذلك من الحرية مغضيًا على سبيل المثال عن المنشور 54 المدمر للحريات بما فيها حرية منخرطيه.
هل نحتاج إعادة تعريف الحرية؟
الأمر لا يحتاج إلى فلسفة، ولسنا في لحظة تنظير فكري، بل في لحظة فرز سياسي على قاعدة الإيمان بالحرية، وهذا هو الفرز الذي أحدثه الانقلاب، فاللحظة التونسية الراهنة منقسمة إلى صفين: المؤمنون بالحرية والناكصون عنها إلى مغانم قليلة وذليلة.
حركة الشارع تكشف أن المؤمنين بالحرية قلة أمام الناكصين عنها، وهم الآن مسلحون بكل أسلحة الدولة القانونية والعسكرية والأمنية، ولديهم الوقت والجهد والحماس الكافي لمطاردة خصومهم.
الخصومة بشأن الحرية هي عنوان اللحظة، غني عن القول إنها تخفي الخصومات الاقتصادية والاجتماعية وراءها وتؤجلها لكن حيرة تكشف أخرى، فلو تم تغيير العنوان وقدمت معركة الخبز على الحرية (كأن نقول بإثارة العوام من أجل تحسين معيشتهم) هل ستعود أوضاع الحريات إلى الصواب؟
هل ننتظر أن يصل الجوع إلى أقصاه ليستعيد الناس وعيهم بأهمية الحرية؟ ما من إجابة شافية، فنحن نعاين الفقراء يتحايلون على البقاء وقد سلموا أمرهم للقدر، ولا يختلف المثقفون والأكاديميون والإعلاميون أو من يمكن تصنيفهم في الطبقات الوسطى المتعلمة عن عوام الناس، فكلهم يدرك الثمن المطلوب للحرية وكلهم يرتد خوفًا ويهز كتفيه أمام مستقبل بلا حرية قائلًا: “أنا ما دام جسمي سالمًا مالي ومال الآخرين؟”، آه يا ماسورة البترول يا بنت الحرام لقد مات معين بسيسو، ولم يكن سرحان إلا حلمًا عابرًا في القصيدة.