12 عامًا على إطلاق أطفال درعا لشرارة الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، قمعها بأعنف حرب معاصرة تستهدف المدنيين، تخللتها انتهاكات بالغة لحقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية، طالت جلّ السوريين، بقتل ما لا يقلّ عن 306 آلاف مدني بمعدل 83 شخصًا، بينهم 18 طفلًا، يوميًّا، وتشريد أكثر من 10 ملايين منهم خارج البلاد، وإصابة ما يزيد عن مليوني شخص، مخلفة لدى الكثيرين إعاقات دائمة.
يعكس مشهد الطفولة في سوريا اليوم فداحة الحرب، وفيما تستحضر الأرقام حجم مآسيهم، تقف عاجزة عن نقل تفاصيل موت الأطفال وحياتهم على حد سواء.
حرب مدمّرة وكوارث طبيعية.. ماذا تركَت من الطفولة ولها؟
لا تخفى آثار الحرب على الاقتصاد والبنية التحتية والخدمات، وكذلك على التماسك المجتمعي والصحة النفسية والتعليم، إذ يعيش 90% من سكان سوريا في فقر، كما اعتلت سوريا صدارة الدول الهشة بعد اليمن والصومال وفق مؤشر منظمة صندوق السلام لعام 2021.
ومع دخول عام 2023، تبقى كارثة النزوح الداخلي السورية هي الأكبر في العالم، مع قرابة مليوني شخص يقطنون حوالي 1430 مخيمًا في شمال غرب البلاد، غالبهم من النساء والأطفال، فضلًا عن تسبُّب زلزال السادس من فبراير/ شباط بحركة نزوح داخلية جديدة، شملت ما لا يقلّ عن 86 ألف شخص، أكثر من نصفهم من الأطفال.
تفاقم حياة المخيمات الكارثة، وتعرّض المزيد من الأطفال لأخطار محدقة يوميًّا، ففي حين تلسع ضربات الشمس أجسادهم الغضة، ويباغتهم الجفاف ولدغات الحشرات والعقارب المميتة صيفًا، يهدد الشتاء الأطفال بالموت غرقًا بالسيول أو بردًا حدّ التجمُّد أو حرقًا طلبًا لحفنة من دفء.
في المخيم يغدو تأمين الطعام والماء معاناة يومية، ويصبح الاستحمام من الرفاهيات، ويصعب الوصول إلى الخدمات الأساسية إذا لم يكن مستحيلًا، إذ يمسي مجرد البقاء على قيد الحياة عبئًا ثقيلًا.
يواجه الأطفال المهجرون أوضاعًا هشّة ولا يشعرون بالترحيب بالضرورة، فيضطرون التأقلم وتطوير آليات تكيُّف سلبية، بما فيها السلوكيات العدائية أو العنف.
ولأن الأسرة والمجتمع هي أعمدة الصمود الأولى بالنسبة إليهم، يطرح الانتقال إلى مجتمع جديد تحديات مرتبطة بالهوية والثقافة، ويؤدي إلى نتائج شائعة كصعوبة الاندماج الاجتماعي (بما فيه التعرض اليومي للذلّ والرفض)، والعنف الأسري، وتزايُد الزواج المبكر، وتراجع مهارات التربية عند الوالدَين.
وتتزايد مخاطر الحماية في البيئات الجديدة على الأطفال، فلا يعرفون أماكن القذائف غير المنفجرة، ولا الأشخاص الذين من المحتمل أن يعرضوهم للأذى، ويحتاجون إلى بناء شبكة اجتماعية آمنة لحمايتهم وإعطائهم الثقة، فعلى سبيل المثال شكّلت الألغام والذخائر غير المنفجرة السبب الرئيسي بنسبة الثلث لوفيات الأطفال عام 2021، تاركة العديد منهم بإعاقات مدى الحياة.
ناهيك عن الانشغالات المالية كأحد أبرز هموم الأطفال النازحين، إذ يرافق عدم اليقين حياتهم اليومية، بسبب عدم قدرة الأهل على العمل، ويشكّل إيجاد المسكن ودفع الإيجار تحديًا مستمرًّا يؤثر على الأطفال بشكل عميق.
نتيجة للفقر، الأطفال المهجّرون معرضون لأشكال قاسية من الاستغلال، وهم عرضة سهلة للتجنيد والاعتداء اللفظي والجسدي بما فيه الجنسي، ففي هذه البيئات تزيد عرضة الفتيات والنساء للاستغلال والتحرش، وتتقيد حركتهن بسبب هذه المخاوف، ما يحرم كثيرات من فرص التعليم والمشاركة المجتمعية.
تقول فرح، ذات الـ 14 عامًا، بحزن: “أحب إكمال تعليمي، لكن وجود شخص كهذا (إشارة إلى الشخص المتحرش) يشعرني بخوف كبير، أبي وأمي خائفان، وكان عليّ ترك المدرسة”، وللدراسة والتعليم حكاية أخرى.
التعليم مُنقذ للحياة
دفع قطاع التعليم فاتورة باهظة نتيجة القصف الممنهَج على المدارس، إذ طال 97 مدرسة في عام واحد فقط من بداية عام 2019 إلى مارس/ آذار 2020 بحسب ما وثقته شبكة “حرّاس الطفولة”، وشهدت وتيرة الهجمات تصاعدًا مع انشغال العالم بالاستجابة لجائحة كورونا، ليصل عدد الهجمات على التعليم إلى ما لا يقلّ عن 700 منذ بدء عمليات توثيق الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال، فكان على الأهل أن يختاروا بين حق أطفالهم في التعليم وحقهم في الحياة، وهنا تكمن المفارقة، فحصول الأطفال على التعليم هو في الوقت عينه منقذ للحياة.
فالأطفال المحرومون من التعليم، خاصة الفتيان، هم أكثر عرضة للتجنيد ما يعرّضهم للقتل والتشويه، وفي المقابل تتأثّر الإناث بصورة غير متناسبة من العنف الجنسي والتهديد بالاغتصاب، كما ورد في تقرير لجنة تقصّي الحقائق الخاصة بسوريا لعام 2019، ما يقيّد حركتهن، ويفاقم ظاهرة التزويج المبكر.
كما يحرَم الأطفال المنقطعون عن التعليم من فرص التوعية عن القذائف غير المنفجرة، والأخطار المختلفة في بيئتهم، وتزيد نسب انخراطهم في العمالة الاستغلالية ما يعرّضهم لشتى أنواع الإيذاء.
وفي حين كان واحد من كل 3 أطفال خارج المدرسة بالفعل بحلول نهاية عام 2019 في جميع أنحاء سوريا، فإن عدد الأطفال المتسرّبين من التعليم في شمال سوريا تضاعف خلال أزمة جائحة كورونا وفق تقرير لمنظمة “أنقذوا الطفولة”، حيث بات طفلان من كل 3 خارج التعليم.
ويأتي زلزال السادس من فبراير/ شباط من هذا العام ليثقل كاهل القطاع المنهَك أصلًا، مضيفًا ما لا يقل عن 270 مدرسة إلى قائمة المدارس المتضررة جزئيًّا أو كليًّا، تاركًا المزيد من الأطفال بعيدًا عن مقاعد الدراسة لأجل غير معلوم.
سيحتاج الأطفال المنقطعون لشهر واحد على الأقل إلى برامج ردم الفجوة، في حين ينذر استمرار الانقطاع بجيل من الأطفال الأمّيين والمعزولين، المحرومين من فرص التعلم والاندماج في المجتمع، ولا يؤثر ذلك على عافيتهم العامة يوميًّا فحسب، بل يولّد مخاوف بشأن مصيرهم كبالغين.
فمن المعلوم أن المدرسة والتعليم لا يوفّران المعرفة والمهارات الضرورية للطلاب فحسب، بل يشكّلان مصدرًا أساسيًّا للأمان والاستقرار والروتين، ما يساهم في تعزيز صمودهم وتمكينهم من تطوير مهاراتهم الاجتماعية وقدراتهم على حلّ المشاكل، ويعزز تقديرهم لأنفسهم.
الصحة النفسية.. كارثة غير مرئية
دمّرت الأحداث الصادمة خلال 12 عامًا من عدم الاستقرار والنزوحات المتكررة إحساس الأطفال بالأمان، وحملت تهديدات كبيرة لصحّتهم النفسية وتطورهم بحسب تقارير دولية، لا سيما أن معظم الأطفال السوريين اليوم كانوا شهودًا أو سمعوا أو عاشوا على الأقل حدثًا صادمًا واحدًا، ما يترك آثارًا عميقة على تطور الطفل، ويؤثر على بناء العلاقات مع الآخرين وعلى الأداء مدى الحياة.
بيّن تقرير للأمم المتحدة أن ثلث الأطفال السوريين يُظهرون علامات الضيق النفسي كالقلق والحزن والتعب واضطرابات النوم، ولنا أن نتخيّل العبء النفسي الإضافي الذي تركه زلزال فبراير/ شباط المدمر عليهم.
يعاني الأطفال الأكثر هشاشة بالذات من تبعات نفسية كبيرة، خاصة الأطفال النازحين والمنفصلين عن والدَيهم أو من يرعونهم، وغير المصحوبين (من افترقوا بالإضافة إلى ذلك عن أي أقارب آخرين)، والأطفال ذوي الإعاقة الذين يتحملون عبئًا مزدوجًا بسبب صعوبة قدرتهم على الحركة والهروب من الأذى.
يعد الروتين لهؤلاء الأطفال مهمًّا أضعاف أقرانهم، تخيّلوا كيف اعتاد طفل من ذوي الإعاقة على الحركة بشكل مستقل من البيت إلى المدرسة، واستطاع كسر الحاجز مع الأطفال الآخرين والمعلمين، وكم سيكون صعبًا البدء من الصفر في مكان جديد، لنا أن نضرب النسبة بألف مقارنة بطفل عادي ليندمج في مجتمع جديد.
ماذا يمكن أن نقدّم لأطفال سوريا اليوم؟
أفضل طريقة للاستجابة تكون بتسهيل وصول الأطفال إلى المدارس ورياض الأطفال، إذ يقدّم التعليم أكبر شبكة يمكن الوصول إلى الأطفال من خلالها لتقديم كافة الخدمات التي يحتاجونها، ولأن الأطفال متنوعون وتطورهم معقّد، فإنهم يحتاجون إلى العناق كما يحتاجون إلى الطعام.
وهناك حاجة ملحّة لرفد جهود الإغاثة بجهود لدعم التطور الإيجابي للهوية، نحن بحاجة للتأكد من وصول الأطفال إلى أماكن آمنة، أماكن يمكنهم فيها التعلم والتفاعل والشعور بأنهم أطفال طبيعيون، نحن بحاجة إلى مكافحة التمييز والاستغلال، وتعزيز التماسك الاجتماعي الذي يركّز على الطفل، نحتاج للتأكُّد من مشاركة الأطفال وأن أصواتهم مسموعة.
أظهرت دراسة بحثية أجرتها منظمة “أنقذوا الطفولة” في شمال غرب سوريا، أن السلامة النفسية للأطفال تعزَّز بـ 3 عوامل، منها توفر الفرص لمستقبل ذي معنى، وإحساسهم بالانتماء والترابط الاجتماعي، ومشاركتهم في صناعة القرارات في الشؤون التي تؤثر على حياتهم.
وعليه يمكن الوصول إلى واقع أفضل للطفولة بخطوتَين، تكون الأولى بزيادة مشاركة المجتمع في إدارة شؤونه، وتعزيز المساءلة تجاهه من خلال دعم بنى تمثيله المختلفة، كالنقابات والاتحادات والروابط ومجالس أولياء الأمور والجمعيات، والتي تُعنى باهتمامات كافة فئات المجتمع باختلاف التخصصات، وتُبنى على أسُس التخصص والشفافية والحكومة الرشيدة، وتعمل بالتنسيق فيما بينها لتحقيق مصالحها المشتركة.
والخطوة الثانية تكون بأن تتضمّن كل الكيانات على الإطلاق لجانًا مختصة برعاية حقوق الأطفال، تُعلي الصوت لوضع حقوق ومصالح الأطفال بالاعتبار في كل محفل، عند التفكير في تصميم وتخطيط البرامج، وفي آليات تقديم الخدمات وسنّ القرارات، وأي عمل يمكن أن يؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على الأطفال.
يمكننا إحداث تغيير ملموس في واقع الأطفال بخلق نموذج مختلف بسواعد سورية من المخلصين والأكفاء من ذوي الخبرات، فالنوايا الحسنة وحدها لا تكفي.