اضطرت غرفة الصناعة والتجارة في مدينة الراعي شمال حلب حذف منشور لها على صفحتها الرسمية في موقع فيسبوك، يتحدث عن تفاصيل الزيارة التي أجراها الجنرال عارف جتين، قائد الجندرما التركية، إلى المنطقة الصناعية الواقعة على أطراف المدينة على مقربة من معبر الراعي الحدودي، تزامنًا مع قتل وتعذيب مهاجرين غير نظاميين حاولوا عبور الحدود.
ويأتي حذف المنشور بعد تعرض الغرفة لهجوم وانتقادات لاذعة وجّهتها الأوساط الشعبية المعارضة المستاءة من تصاعد الانتهاكات وجرائم القتل، التي يرتكبها حرس الحدود التركي بحقّ السوريين الذين يحاولون عبور الشريط عبر ممرّات التهريب، وأولئك العاملين في أراضيهم وبساتينهم القريبة من الجدار العازل.
ففي 12 مارس/ آذار، تسلّمت إدارة معبر باب الهوى جثة مواطن سوري يُدعى عبد الرزاق أحمد القسطل، من أبناء قرية السمرا بريف محافظة حماة، وهو نازح يقيم في بلدة زردنا بريف محافظة إدلب، كما تسلمت إدارة المعبر 7 سوريين آخرين مصابين كانوا مع القسطل عندما ألقى عناصر حرس الحدود التركي القبض عليهم داخل الحدود التركية، قبالة منطقة حارم بريف إدلب الغربي.
وقال مدير مكتب العلاقات العامة والإعلام في معبر باب الهوى، مازن علوش، لـ”نون بوست”، إنه “في تمام الساعة الواحدة من فجر يوم 12 مارس/ آذار، وصلنا إلى معبر باب الهوى مجموعة جديدة من المرحّلين القادمين من تركيا، مؤلفة من 8 أشخاص، وكانوا قد تعرّضوا لضرب شديد من قبل الجندرما التركية، ما أدى إلى وفاة أحدهم، وإصابة البقية بجروح وكسور بليغة، تمَّ تحويلهم مباشرة للعلاج في المستشفيات وإجراء العمليات اللازمة”.
وأضاف علوش: “نطالب الحكومة التركية بفتح تحقيق فوري في القضية، للوقوف على ملابسات الحادث، خاصة أن هذا الأمر قد تكرر كثيرًا في الفترة الأخيرة”.
ودعا علوش إلى وقف الانتهاكات التي يمارسها حرس الحدود مع الأشخاص الذين يحاولون دخول تركيا بطريقة غير نظامية، مؤكدًا أن الكثير من الحالات المشابهة وصلت إلى معبر باب الهوى مؤخرًا، وأكّد على ضرورة العمل وفق القانون الدولي المعتمد لدى الأمم المتحدة في مثل هذه الحالات، بعيدًا عن الممارسات التي تؤدي إلى انتهاكات لحقوق الإنسان.
وفي 13 مارس/ آذار، قُتل مصطفى فيزو (65 عامًا) برصاص قناصة الجندرما التركية أثناء عمله في أرضه الزراعية القريبة من الحدود على أطراف قرية خربة الجوز بريف إدلب، وقالت مصادر محلية متطابقة لـ”نون بوست” إن فيزو كان على جرّاره الزراعي أثناء حراثة بستانه القريب من الحدود، عندما ترجّل عنصر من حرس الحدود من سيارة عسكرية وأطلق عليه النار.
تعد الحدود التركية قبالة منطقة عفرين الأكثر نشاطًا، ففي 12 فبراير/ شباط الماضي تمَّ تداول تسجيل مصور يظهر اعتداء الجندرما على 3 شبان سوريين حاولوا العبور نحو تركيا انطلاقًا من ممر تهريب يقع بالقرب من بلدة دير صوان بريف منطقة عفرين.
وفي حادثة مشابهة، قال الناشط عبد الكريم الثلجي لـ”نون بوست” إن “أحد أقاربه، ويدعى الشيخ عبد المطلب الخسارة، قُتل في فبراير/ شباط 2022 داخل الأراضي السورية، بعدما أطلق حرس الحدود التركي عليه النار أثناء جمعه الحطب في قرية المشرفية في ريف منطقة سلقين شمال غرب إدلب، والشيخ عبد المطلب مهجّر من بلدة العيس جنوب حلب، ترك خلفه زوجة وأطفال أيتامًا يعيشون في مخيمات النزوح بريف إدلب بعدما فقدوا معيلهم”.
ورغم تكرار حوادث القتل والاعتداء بحق مئات السوريين، بينهم أطفال ونساء، من جانب حرس الحدود التركي منذ عام 2012، إلا أن الحادثتَين الأخيرتَين أثارتا الجدل بين الأوساط الشعبية شمال غرب سوريا، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، أهمها تصاعد الخطاب العنصري ضد السوريين، خصوصًا اللاجئين السوريين في الفترة ما بعد الزلزال المدمر، وتداول تسجيلات مصورة توضّح آثار الضرب الذي تعرض له الناجون.
بالإضافة إلى تسجيلات أخرى تضمّنت شهادات بعضهم على عمليات الاعتداء، وتعاطف الأهالي مع والدة الشاب عبد الرزاق القسطل الذي قُتل مؤخرًا، والتي ظهرت في تسجيل مصوّر أثناء انتظارها وصول جثة ولدها قرب معبر باب الهوى، بالإضافة إلى الإدانات المعلنة وغير المسبوقة من جانب الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة الذي أصدر بيانًا في هذا الخصوص.
وقال الائتلاف الوطني السوري في بيان له إنه تواصل مع الحكومة التركية منذ وقوع “الحادثة المؤسفة”، على الحدود السورية التركية التي تعرض فيها عدد من السوريين للاعتداء وصلت لمقتل أحد الشبان، وطالب بفتح تحقيق بالحادثة ومحاسبة المسؤولين عنها، مشيرًا إلى أن وزارة الداخلية التركية “تجاوبت” معهم وأبدت “استياءها الكبير” مما حصل.
وعبّر الائتلاف الوطني في بيانٍ له عن إدانته لأي انتهاك يمس السوريين، وأشار إلى ضرورة محاسبة العناصر المتورطة بقتل وتعذيب عدد من الشبان السوريين، والحفاظ على الترابط الأخوي المميز الذي يجمع الشعبين السوري والتركي، مشددًا على ضرورة “معرفة دوافع العناصر المتورطة في هذه الحوادث ومحاسبتهم، وتفادي حصول مثل هذه الحالات مستقبلاً”.
الائتلاف الوطني السوري: تواصلنا مع الحكومة التركية منذ وقوع الحادثة المؤسفة على الحدود السورية التركية التي تعرض فيها عدد من السوريين للاعتداء وصلت لمقتل أحد الشبان، وطالبنا بفتح تحقيق بالحادثة ومحاسبة المسؤولين عنها. #سوريا #الائتلاف_الوطني_السوري #تركيا #حرس_الحدود pic.twitter.com/s7Hie4b8uZ
— الائتلاف الوطني السوري (@SyrianCoalition) March 14, 2023
وأصدرت إدارة الشؤون السياسية التابعة لهيئة تحرير الشام في إدلب بيانًا شبيهًا، وعملت الأخيرة عبر إعلامها الرديف على الدفع لتنظيم وقفة احتجاجية قرب معبر باب الهوى، للمطالبة بالمحاسبة ووقف انتهاكات الجندرما.
كما أصدر المجلس الإسلامي السوري بيانًا أدان فيه مقتل سوريين على يد الجندرما، ودعا إلى رفع الصوت من الشعبَين السوري والتركي في وجه الخطاب العنصري، ونظّم نشطاء الثورة في عفرين وقفة احتجاجية، ودعوا إلى محاسبة المتورّطين من الجندرما في عمليات الاعتداء والقتل المنظَّم.
وتنشط حركة التهريب على طول الحدود مع تركيا، وغالبًا يكون المسؤولون عن تسهيل عمليات العبور مهرّبين مقرّبين من بعض القادة في الفصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام، وتتصدّر إدلب القائمة، وذلك من ناحية انتشار وكثرة ممرات التهريب في المناطق الجبلية الوعرة، وتقصد تلك الممرات المئات شهريًّا، وفيها يقع العدد الأكبر من حوادث القتل وإطلاق الرصاص من جانب الجندرما، ويحلّ الشريط الحدودي في ريف حلب الشمالي ثانيًا من حيث نشاط التهريب والانتهاكات.
رغم الرقابة الأمنية المشددة التي تفرضها الجندرما التركية على الحدود شمالي سوريا، وسياسة العنف المتبعة، إلا أن القسم الأكبر من عمليات التهريب تنجح، وهي غالبًا مكلفة.
وتعد الحدود التركية قبالة منطقة عفرين الأكثر نشاطًا، ففي 12 فبراير/ شباط الماضي تمَّ تداول تسجيل مصور يظهر اعتداء الجندرما على 3 شبان سوريين حاولوا العبور نحو تركيا انطلاقًا من ممر تهريب يقع بالقرب من بلدة دير صوان بريف منطقة عفرين، وهم إسماعيل حمدي العجيلي الذي توفي بسبب التعذيب، وعلاء حسين العمر ومحمد رامي رستم، وتمَّ نقل الاثنين إلى مشفى عفرين.
وقصة الشبان الثلاثة قرب دير صوان تضاف إلى عشرات ومئات القصص والحوادث المشابهة التي فارق فيها شبان سوريون في مقتبل العمر الحياة على أعتاب تركيا في مناطق شرق الفرات أيضًا، على الحدود قبالة منطقتَي تل أبيض شمال محافظة الرقة، ورأس العين شمال غرب محافظة الحسكة، إما تحت التعذيب وإما بطلقة قنّاص.
وتتقاطع كل حالات الاعتداء على طول الحدود ببرودة دم القاتل وتجرده من إنسانيته، بحسب ما أظهرت الكثير من التسجيلات المصورة التي تمَّ تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي.
فريق من السلفيين المناهضين لهيئة تحرير الشام يحمّل الأخيرة، إلى جانب فصائل المعارضة، جزءًا من مسؤولية استمرار اعتداءات الجندرما التركية.
حيث قال أبو العلاء الشامي، وهو قيادي سابق في تحرير الشام، على تيليغرام: “نسأل الله أن يفضح تجار الأزمات المستغلين عذابات أهلنا ومعاناتهم لتحقيق مكاسبهم الحزبية الضيقة؛ فتارة يخفون هذه الجرائم الفظيعة فلا ينبسون ببنت شفة، وتارة يصدرونها على العلن ببيانات صورية ويجعلونها ورقة مساومات في سوق الوكالات الحصرية والاعتمادات المفضلة، فإن حصلوا على فتات منها عادوا لإخفائها بأدراج النسيان”.
ورغم الرقابة الأمنية المشددة التي تفرضها الجندرما التركية على الحدود شمالي سوريا، وسياسة العنف المتبعة، إلا أن القسم الأكبر من عمليات التهريب تنجح، وهي غالبًا مكلفة، أما الأقل تكلفة فهي خطرة وعبر ممرات غير آمنة، ويقع أصحابها ضحايا على يد الجندرما في معظم الأحيان.
وقال مصدر محلي في ريف حلب لـ”نون بوست” إنه “يمكن تصنيف عمليات التهريب إلى عدة أنواع، وذلك بالنسبة إلى التكلفة ودرجة الخطورة، فعملية التهريب لشخص واحد على يد مهرّب لديه علاقات مع عسكريين في المعارضة ومسؤولين داخل المعابر الرسمية تكلف قرابة 4 آلاف دولار، وهو دخول آمن بشكل شبه كامل، وغالبًا ما يتم نقل الناس بسيارات خاصة إلى الجانب التركي”.
مكملًا: “في حين أن الإذن العسكري تزيد تكلفته عن 2000 دولار، وعمليات التهريب هذه غالبًا ما تتم في ريف حلب، يلجأ الفقراء إلى طرق تهريب أقل تكلفة في إدلب، تتراوح بين 200 و500 دولار أمريكي، وتتم عبر ممرات خطرة جدًّا، وعلى يد مهرّبين مخادعين”.
أخيرًا، وثق مركز توثيق الانتهاكات في الشمال السوري، مقتل 557 سوريًا برصاص الجندرما التركية حتى 15 آذار/مارس 2023، بينهم (103 طفلاً دون سن 18 عامًا، و67 امرأة)، فيما أصيب 3003 شخصًا، سواء أثناء محاولتهم اجتياز الحدود بطريقة غير نظامية أو حتى خلال تواجدهم في أراضيهم الزراعية وممتلكاتهم المتاخمة للحدود.
وتتحرج عادة، أو تتخوف، مؤسسات المعارضة ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام السورية التي تقع مقراتها في الداخل التركي من توجيه انتقادات علنية أو مطالبة أنقرة بالتحقيق في تلك الانتهاكات، لكن الحادثة التي وقعت هذا الشهر شكّلت استثناءً بسيطًا؛ بعدما تحوّل الموقف إلى قضية رأي عام، فاتخذت بعض مؤسسات المعارضة موقفًا لم يسفر -على أية حال- حتى كتابة هذا السطر عن إعلان السلطات التركية فتح أي تحقيقات بالجريمة.