ما إن أعلنت السعودية وإيران الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد شهرَين من الآن برعاية صينية، حتى بدأت التوقعات تدور حول المآلات الاستراتيجية لهذا الاتفاق على المسارح الإقليمية التي تنشط فيها كل من السعودية وإيران.
ومن هذه المسارح العراق، إذ حظيَ العراق بهامش كبير من اهتمام البلدَين بعد عام 2003، إذ نظرت كل من الرياض وطهران إلى بغداد على أنها يمكن أن تشكّل جبهة متقدمة لاحتواء الآخر، وهو ما انعكس بدوره على المشهد العام بالعراق.
يمكن القول إن كل من السعودية وإيران تمكّنتا من خلال دوائر نفوذ خاصة بهم في الداخل العراقي، ليس على المستوى السياسي فحسب بل المستوى الأمني أيضًا، من تحقيق أهداف استراتيجية متعددة.
وفيما يتعلق بالمستوى الأمني، بدا واضحًا من خلال البنود المسرّبة لاتفاق بكين الموقّع بين السعودية وإيران، أن هناك توافقًا سعوديًّا إيرانيًّا على ضبط أدوات تأثير كل منها ضد الآخر في العراق.
المشكلة ليست بالاتفاق مع إيران، إنما بمدى القدرة على إلزام إيران بما اتفقت عليه، إذ يشير التاريخ السياسي بعد عام 1979 إلى أن إيران لم تتمكن من المضيّ قدمًا بالاتفاقات الدولية.
ففي الوقت الذي تعهّدت فيه السعودية على إيقاف دعمها لقوى المعارضة الكردية الإيرانية في إقليم كردستان العراق، تعهّدت إيران بالمقابل بضبط سلوك وتحركات الفصائل المسلحة في جنوب العراق، ولعل هذا التعهُّد المتقابل يشير بوضوح إلى مدى انخراط كل من السعودية وإيران بالمشهد الأمني في العراق.
إذ يشير الترحيب الرسمي العراقي بالاتفاق السعودي الإيراني، إلى أن هناك رغبة عراقية بالتحرر من ضغط كلا البلدَين في الداخل العراقي، إذ لم تتمكن كل الحكومات العراقية المتعاقبة بعد عام 2003 من خلق سلوك مستقل عن تأثير كل من الرياض وطهران، بل كانت بغداد هي الحلقة الأضعف في سياق التفاعلات الإقليمية، إلى الدرجة التي اضطرت بغداد إلى اعتماد سياسة التوازن الحذر في علاقتها مع طهران والرياض.
وحتى على مستوى السلوك التصويتي العراقي في المنظمات الإقليمية والدولية، كانت الحكومات العراقية عادةً ما تلجأ إلى استخدام سياسة الامتناع عن التصويت، خشية إثارة أي من الطرفَين، دون مراعاة للمصالح الوطنية، كي لا ينعكس ذلك بصورة سياسة إثارة الفوضى في الداخل العراقي.
العراق ما بعد الاتفاق
ممّا لا شك فيه أن العراق أحد أكثر الأطراف الإقليمية الرابحة من هذا الاتفاق، إذ سيوفر حالة سياسية واقتصادية مستقرة بالداخل العراقي، كما أنه سيدفع بحكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى الاهتمام بمعالجة المشاكل الداخلية، دون الحاجة إلى الانشغال في ترتيب جولات الحوار السعودي الإيراني.
كما أن هذا الاتفاق سيسمح لحكومة السوداني المضيّ قدمًا في تنفيذ بعض المشاريع الإقليمية، دون الحاجة إلى مراعاة الحساسيات الإيرانية فيها كثيرًا، وتحديدًا مشروع أنبوب البصرة-العقبة مع الأردن، إذ تطمح إيران عبر تنفيذ العراق لهذا المشروع إلى خلق قناة حوار إقليمي جديد مع عمّان، وبالشكل الذي يسمح لها بتحييد أكثر من طرف إقليمي عربي عن الولايات المتحدة و”إسرائيل” اللتين تعتزمان شنّ عملية عسكرية ضد المفاعلات النووية الإيرانية، كما أشارت إلى ذلك العديد من التقارير الاستخباراتية مؤخرًا.
شهدت مرحلة ما بعد انهيار الاتفاق النووي تصعيدًا خطيرًا بالمشهد الأمني في العراق
وفي هذا السياق أيضًا، أشار ترحيب العديد من قيادات الإطار التنسيقي المقربة من إيران بالاتفاق السعودي الإيراني، إلى رؤية جديدة غير محكومة بعُقد الماضي مع السعودية، فقوى الإطار اليوم مهتمة بإنجاح مهمة حكومة السوداني، سياسيًّا واقتصاديًّا، من أجل تهيئة بيئة مناسبة لخوض الانتخابات المحلية والبرلمانية المقبلة من دون ضغوط.
وهذا الاهتمام وُجد نفسه أيضًا في انفتاح قوى الإطار على العديد من الوفود العربية التي شاركت مؤخرًا في اجتماعات اتحاد البرلمان العربي، الذي عُقد مؤخرًا في بغداد نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي، ومن ثم هذا ما يفسّر حالة الهدوء النسبي التي يشهدها العراق اليوم.
تحديات يواجهها العراق
إن التحدي الأكبر الذي يواجهه العراق في هذا السياق، يتمثل بمدى التزام إيران باتفاق بكين، فالمشكلة ليست بالاتفاق مع إيران، إنما بمدى القدرة على إلزام إيران بما اتفقت عليه، إذ يشير التاريخ السياسي بعد عام 1979 إلى أن إيران لم تتمكن من المضيّ قدمًا بالاتفاقات الدولية.
ولعل فشل الاتفاق النووي أبرز مثال على ذلك، ويمكن القول بهذا الشأن إن العقيدة الأيديولوجية الحاكمة في السياسة الخارجية الإيرانية عادةً ما تفرض نفسها على السلوك الخارجي، وإيران بطبيعتها الثورية العابرة للحدود لن تكون قادرة على الالتزام بالاتفاقات طويلة المدى، إذ سرعان ما تصطدم ضرورات إيران الدولة مع شرعية إيران الثورة، وفي مثل هكذا صدامات عادة ما تنتصر إيران الثورة بالنهاية.
إن استمرار مراهنة القوى السياسية العراقية على الحلول الإقليمية كمقدمة للاستقرار الداخلي، أوقع الداخل العراقي بالعديد من الإشكالات الأمنية، إذ شهدت مرحلة ما بعد انهيار الاتفاق النووي تصعيدًا خطيرًا بالمشهد الأمني في العراق، ليس فقط على صعيد العلاقات الأمريكية الإيرانية فحسب، إنما على صعيد العلاقات السعودية الإيرانية أيضًا.
الاستمرار بعملية ربط المنافع المتحقّقة من التوافقات الإقليمية، وجعلها جزءًا من توافقات داخلية، سيجعل العراق يدور بدائرة مفرغة
ففي سبتمبر/ أيلول 2019 شنّت إيران وعبر وكلائها هجمات مؤثرة عبر طائرات مسيّرة على الحقول النفطية التابعة لشركة أرامكو السعودية، وجاءت هذه الهجمات لتعكس بدورها عجز العراق النأي بنفسه عن تداعيات الصراعات الإقليمية والدولية التي أطّرت العلاقة بين إيران والمجتمع الدولي في تلك الفترة.
تحتاج الحكومة العراقية اليوم إلى بناء نهج سياسي خاص بها، يعيد تشكيل السياسة الخارجية العراقية على نحو أكثر استقلالية من الخيارات السعودية والإيرانية، وغيرها من الخيارات، حيث إن سعي قوى الإقليم إلى ربط العراق بملفاتها الإقليمية، سيجعل من الساحة العراقية مرشحة دائمًا للتصعيد، في حال ما إذا عادت العلاقات السعودية الإيرانية مرة أخرى إلى التدهور.
والأكثر أهمية من ذلك، الحكومة العراقية مطالبة اليوم بإعادة إنتاج نفسها بالشكل الذي يجعل المصلحة الوطنية هي الحاكمة للسياسة الخارجية، دون النظر إلى مصالح القوى الأخرى، لأن الاستمرار بعملية ربط المنافع المتحقّقة من التوافقات الإقليمية، وجعلها جزءًا من توافقات داخلية، سيجعل العراق يدور بدائرة مفرغة، وسيجعل الوضع الأمني في العراق لا يستند إلى قاعدة صلبة، في ظل فجوة كبيرة موجودة بين ضرورة الأمن والمصلحة الوطنية.