ذات ربيع.. تنفّس أبناء حمص الحرية وعاشوا يومًا جميلًا من أيامها، في مدينة اكتست أيامها اللاحقة بالسواد، دون أن تعرف الحرية فيها لونًا لا تشوبه الحمرة، كما يعبّر وليد الفارس في كتابه “حمص: الحصار العظيم”.
يذكر أبناء المدينة من الثوار ذاك اليوم جيدًا على أنه تصاعد لزخم المظاهرات حتى آخره، وبلوغ الشارع الحمصي من الغليان ذروته، متوجًا ذلك بانتفاضة هي الأولى من نوعها في الثورة، حيث خرج الناس سلميين معتصمين رافعين شعاراتهم ضد النظام، معلنيها عالية مدوية: “اعتصام اعتصام حتى يسقط النظام”.
من هنا أتت الرمزية الثورية لساحة الساعة الجديدة في حمص، والساعة القديمة بطبيعة الحال. في تلك الساحة لم تدُر عقارب الساعة بل دار الزمان دورته بالثوار معلنًا بداية عصر جديد، ولم يُسمع لبندولها دق لكن علت نبضات القلوب إيذانًا بحلول الموعد المنتظر، المضبوط على توقيت النصر.
اعتصام سلمي ظنّ أبناء المدينة أنه سيستمر عصيانًا وتمردًا، بما يشبه طباع أهل المدينة التي استحقت لما قدّمت لقب عاصمة الثورة السورية.. لينقلب كل شيء في ليلة دموية يتذكرها الناس اليوم على أنها “مجزرة ساحة الحرية”.
بعد 12 عامًا.. ما الذي تخبئه ذاكرة الثوار حول هذه الساحات، وما الذي يتوقون إليه؟ كيف يبدو المشهد اليوم في تلك الساحات؟ كيف تغيرت معالمها اليوم بعد أن فرض النظام سيطرته على المدينة؟ وما الرسالة التي يحاول النظام إيصالها من هذه التغييرات؟
في الذكرى الثانية عشرة للثورة السورية، يستعرض “نون بوست” إجابات هذه الأسئلة كمحاولة للإبقاء على ذاكرة الأماكن حية.
كيف بدا المشهد قبل 12 عامًا؟
عبد الرحمن الدالاتي شاب من أبناء مدينة حمص الثائرين ومقيم في تركيا حاليًّا، تحدث إلى “نون بوست” كأحد الشاهدين على الاعتصام، وبدأ شارحًا الظروف التي سبقته ومهّدت إليه: “في 17 أبريل/ نيسان 2011، اليوم السابق للاعتصام، كنت في حي الغوطة خارجًا من بيت أحد الأصدقاء عندما سمعت أصوات إطلاق نار تأتي من حي باب الدريب، وأتت الأخبار متضاربة عما يحصل، سقوط شهداء وحالة استنفار.. وشعرت أني أريد أن أرى ما يجري، لم يحدث أن جربت ما يعني أن يعيش السوري حالة استنفار، وكان الموضوع غير متصوّر”.
“ذهبت باستخدام دراجتي إلى المنطقة التي سمعت أنه ارتقى فيها شهداء، كان الناس هناك متجمّعين، رأيت الدماء على الأرض، وكمية كبيرة من فوارغ رصاص كلاشنكوف تجمعت على الأرض، وسط استغراب الناس من كمية إطلاق الرصاص هذه. أتذكر أنني نزلت إلى الأرض وجمعت حفنة من هذه الفوارغ في يدي”.
“استشهد في تلك الليلة أكثر من 7 أو 8 أشخاص، وكنا لأول مرة نشهد مثل هذا الموقف.. بالنسبة إلينا كجيل جديد لم يشهد إجرام نظام الأسد من قبل، كان ما حدث جريمة كبيرة”.
ويكمل ساردًا أحداث اليوم الكبير: “في اليوم التالي علمنا أنه سيُصلّى على الناس جميعًا في مسجد حمص الكبير (الجامع الكبير)، وقررنا أنا والوالد الشيخ محمود الدالاتي التوجه للمشاركة في الصلاة. قبل صلاة الظهر مررنا إلى سوق الدبلان ولاحظنا أن المدينة كانت مهزوزة مضطربة وكأن زلزالًا قد ضربها، وتوجّهنا إلى بعض محال التجّار الذين نعرفهم”.
“أهم حديث دار يومها، كان التساؤل ما إذا كان هؤلاء الأشخاص الذين يقتلهم النظام شهداء؟ وكان رد والدي والوجهاء أن هؤلاء الأشخاص قُتلوا ظلمًا وهم يدافعون عن حقوقهم، ولم يرفعوا النار أو السلاح بل رفعوا أصواتهم البريئة فاُستقبلوا بالنار”.
“أحد المستمعين -ولا يمكنني ذكر اسمه لدواعٍ أمنية- أذكر كيف كان جسده يرتعش أثناء استماعه، ثم اندفع خارجًا وبدأ ينادي على تجار سوق الدبلان، ويضرب أبواب المحال في حالة وجدانية مؤثرة جدًّا، ويقول: “سكروا سكروا بدنا نروح نصلي على الشهداء”، ليُعلن يومها صراحة أن من يقتل على يد النظام شهيد”.
“كنا في حالة استغراب من شجاعته البالغة، وكان الموقف تقشعر له الأبدان. وزاد من رهبة المشهد أن بدأت أصوات إغلاقات أبواب المحال تعلو باللحظة نفسها.. ساد ضجيج الإغلاق غاضبًا واستعجالًا، وتوجه الناس للصلاة على الشهداء. يفصل بين الدبلان والمسجد الكبير الساعة الجديدة ثم شارع القوتلي ثم الساعة القديمة.. مشى الناس بأغلبهم وبعضهم استقلَّ سيارات”.
وحول ما جرى في التشييع يروي عبد الرحمن: “حين دخلنا المسجد وجد الوالد نفسه مطالَبًا باعتلاء المنبر، فتكلم ارتجالًا دون تجهيز أو تنميق، وأعلنها صراحة أن من يطلقون النار على هؤلاء الناس هم الشبيحة وليسوا عصابات مسلحة ولا مندسين كما وصفهم النظام، وما زال المقطع المسجّل للوالد يومها موجودًا في يوتيوب كما أعتقد”.
ألقى الشيخ سهل جنيد أيضًا كلمة، ثم صلينا على الشهداء وتقرر أن يدفنوا في مقبرة الكتيب الأحمر، وهي ممتلئة مغلقة ممنوع الدفن فيها لأنها من مقابر الصحابة، لكن الناس أرادوا الشعور أنهم أكرموا هؤلاء الشباب الذين قُتلوا ظلمًا وعدوانًا، وهذا ما يدل على شعورهم الكبير بأن المصاب جلل”.
“من المسجد إلى الكتيب، مشت الجموع حوالي نصف ساعة مع هتافات مهيبة متضامنة مع كل الطوائف، إذ إنه خلال عبور حي الحميدية رأيت الكثير من المسيحيين يمدون يد المساعدة ويقدمون عبوات المياه والمناديل، وعندها أُطلق هتاف: “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد.. واحد واحد واحد مسلم مسيحي واحد”، الشعور حقًا لا يوصف وأنا أتحدث الآن وأشعر بالقشعريرة نفسها”.
“بعد ذلك وصلنا مكان الدفن، وكانت القبور قد جُهّزت وانتظرنا خارج المقبرة بسبب الازدحام الشديد، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها هذا التجمع الضخم في حياتي، أقارنه الآن بالتجمع في الحرم المكي الذي شهدته فيما بعد أثناء تأدية العمرة”.
“وبعد الانتظار حوالي نصف ساعة، أحسَّ الناس أن هذا الجمع لن يتم حشده مرة أخرى، فكان هناك شعور داخلي عفوي متبادل يقول إن هذا الحدث لا يجب أن ينتهي هكذا، يجب أن يحدث شيء ما أكبر، وفي تلك الفترة كانت لا تزال صورة ميدان التحرير في مصر مطبوعة في الذاكرة بشكل قوي جدًّا، شعرنا أن البقاء في الشوارع أو التجمع سيهز أركان النظام”.
ويضيف واصفًا تصاعد الأحداث: “بدأ الناس ينادون “ع الساعة ع الساعة”، بما معناه “توجهوا إلى ساحة الساعة الجديدة”، وعندما علت الأصوات وأجمع الناس قرروا فعلًا أن يعودوا أدراجهم إلى الساعة الجديدة القريبة نوعًا ما من المسجد الكبير كما ذكرت، فعدنا إلى المسجد ومنه إلى الساعة”.
“خلال مسيرنا مررنا بفرع حزب البعث الموجود في شارع الحميدية، وهو مبنى محصّن جدًّا ولاحظنا أن الموظفين في الداخل أغلقوا الأبواب والنوافذ وأخذوا يراقبوننا من الداخل، بينما في مبنى قيادة الشرطة الموجود قرب الساعة القديمة أطلَّ العناصر من الأسطح يحملون الأسلحة، وهدّدنا بعضهم لكنهم في المجمل كانوا في حالة صدمة وانشداه من هذا الخروج الذي انتفضت حمص به، غير مدركين بعد كيف يتعاملون معه”.
وعن بداية الاعتصام يروي عبد الرحمن: “تجمّع الناس في ساحة الساعة وبدؤوا بتعليق اللافتات والأعلام، وفي محاولة تنظيمية وزّع الشباب بعض المهام على بعضهم، مثل الانتظار على زوايا ومحيط الساحة، لأننا لم نكن نأمن غدر النظام الذي كان ولا بدَّ يراقبنا من فوق المباني التابعة له”.
“تناقل الناس خبر الاعتصام، حتى وصل إلى حماة وريف حمص بالخصوص، فبدأت الناس تتوافد إلى حمص بالسيارات من عدة مناطق (تلبيسة والرستن والدار الكبيرة…)، وبعد ذلك استقر المعتصمون وبعضهم جلس ليرتاح، وبين الفينة والأخرى يطلقون هتافًا جديدًا ومطالب جديدة”.
وعن المناخ العام الذي ساد الاعتصام يقول عبد الرحمن: “صلينا على الإسفلت، تحدث وجهاء ونشطاء شيوعيون وعلمانيون ومعتقلون سابقون ومشايخ، بالإضافة إلى ناشطات من النساء، وكانت هذه لفتة نوعية جدًّا تؤكد أن الثورة عمل مجتمعي مختلف يتّسع لجميع الأطياف، كما أن الناس جميعهم أكلوا وشربوا ممّا ساهم به أهل الخير من الأثرياء، فقد أتت ذلك اليوم سيارات ممتلئة محمّلة بالماء والعصائر والشاي والقهوة والطعام وما إلى ذلك”.
“كانت الأجواء تشعرنا بالوطنية أكثر من أي وقت مضى، شعرنا أننا امتلكنا سوريا وحمص في بقعة محررة صغيرة لفترة قصيرة من الزمن، بسطنا عليها سيطرتنا وكانت تابعة تمامًا للشعب وحكم الشعب”.
ويضيف: “كانت مشاهد رهيبة جدًّا تعبّر عن كافة أشكال التعاضد والوطنية والتكاتف والتآخي والتآلف، وتحمل معها دفء الوطن وشعور الشخص بأنه بات اليوم يملك وقته ونفسه وصوته، لقد تعرّف إلى بحة صوته أول مرة عندما صرخ مفرغًا ما بداخله غضبًا، بعد أن كان لا يكاد يعلو إلا في الأفراح والعراضات الشعبية، أما الآن فهو يصدح بما في نفسه حقيقة، ويشعر أنه سيتغلب على هذا النظام اليوم أو غدًا أو بعد غد”.
“لا يمكن لأي أحد وصف المشاعر يومها بسهولة، مهما حاولت اليوم أحتاج أكثر من اللغة، أحتاج أن أستنفد المعاني والمصطلحات، وأستنجد بكافة المشاعر والصور البلاغية لأقدمها بين يدَي أي قارئ حول ذلك اليوم العظيم جدًّا”.
كان بإمكان أي شخص أن يلتفت إلى من بجانبه ويطلب منه أي شيء متى شاء، لأن شعورًا عميقًا بالثقة غمر الموجودين، وأرسلنا يومها بأرقامنا المسجلة بأسمائنا رسائل نصية إلى من لم ينزل إلى الساحة، مفادها أن “يا شباب انزلوا.. النظام اليوم سيسقط”، كنا متأكدين أن النظام سيسقط يومها أو في الأيام المقبلة”.
“لم يفكر أحد ماذا سنفعل إذا لم ينجح ذلك، كنا نشعر أنه آخر يوم من أيام الاستبداد والظلم، وغدًا يوم جديد لن يكون للنظام فيه سلطة، ولن يتغلب علينا بعد هذا التجمع الكبير والضخم.. وهنا سأقول: بالغَ بعض الناس بأعداد المعتصمين لكن الساحة كانت ممتلئة نعم، عن بكرة أبيها، وكانت الشوارع الممتدة منها مليئة”.
وعن الطريقة المأساوية التي انتهى الأمر عليها، يتحدث عبد الرحمن ويقول: “بعد ذلك أصبحت الناس تجهّز نفسها للنوم وإمضاء الأيام المقبلة، إلى أن بدأ النظام التواصل مع كبار الشخصيات في حمص. فراس طلاس لم يكن يومها قد انشق بعد وتكلم مع أحد الوجهاء، قائلًا إن الفرقة الرابعة توجهت من دمشق إلى حمص، متمنيًا من المعتصمين فضّ الاعتصام قبل أن تقع مجزرة”.
“نُقل هذا الكلام عبر الميكروفون، فقامت قيامة المعتصمين ولم تقعد، غضبوا بشدة وهتفوا “ليش خايفين الله معنا”، وأصرّوا على عدم التحرك، تأكيدًا أننا لن نتراجع ولن نتخلى عن دم الشهداء ولا عن مطالبنا، فاليوم نريد أن يسقط النظام ولا شيء آخر حتى ولو على حساب دمنا، هتف المعتصمون أيضًا “على الجنة رايحين شهداء بالملايين” بغصة وبحة بكاء، يومها حقًّا كانت الناس تفضّل الموت على ترك الساحة”.
“في حدود الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، كانت قوات النظام قد أحاطت الساحة وسدّت أغلب المنافذ بسيارات الإطفاء والشاحنات التابعة للبلدية، وصفّت جنودها بعيدًا من جهة الساعة القديمة، ثم بدؤوا يقتربون، وفتحوا رشاشاتهم على الناس دراكًا، وارتقى شهداء ومن لم يستشهد اُعتقل”.
“ثمة أنباء متضاربة عن عدد الشهداء، لذا لا أريد التطرق إلى هذه النقطة أبدًا. اضطر الناس إخلاء الساحة تحت وطأة الرصاص والدم، وصدحت المآذن بأن هناك مجزرة، أكاد أجزم أن مدينة حمص ليلتها لم تنم”.
“اعتقدنا أن الأمن قد يقتحم المنزل ليعتقل والدي تحت جنح الليل، نظرًا إلى خطبته التي ألقاها على المنبر في المسجد الكبير، لذلك غادرنا المنزل لوجهة أخرى بتنا فيها ليلتنا، وكان ذلك من أكثر الأشياء التي زادت تلك الليلة رعبًا على رعب”.
“في اليوم التالي شممنا رائحة قوية جدًّا تأتي من جهة الساحة، حيث قال بعض الناس إن قوات النظام غسلت الشوارع بمياه عادمة، لذلك انتشرت هذه الرائحة”.
عدنان الحمصي أحد أبرز الشبان الذين قادوا المظاهرات في المدينة، ينقل لنا زاويته الخاصة من المشهد: “وصلتُ الاعتصام بعد مغيب الشمس وغادرته قبل هجوم قوات الأمن، لكن لا يمكن أن أنسى شعوري وشعورنا جميعًا وقتها بأننا قادرون على فعل أي شيء، لقد انتهى عهد الصمت بالنسبة إلينا، وحقق الاعتصام حلمنا بالوقوف وقول لا، كان ذلك قبل الاعتصام حلمًا بالفعل، لم يكسر ما جرى حاجزًا عند المعتصمين وحسب، بل أعطى الأمل لكل أهل المدينة”.
يضيف عدنان: “كنت شابًّا يحب العراضات التي تميز أفراح مدينة حمص، والتي أعطت طابعًا خاصًّا لمظاهراتها عمومًا ونكهة مختلفة لأسلوب الهتاف ذاك اليوم، لذا فإن الذكرى التي لا أنساها هي أن عبد الباسط الساروت (رحمه الله) كان حاضرًا في الاعتصام عندما وصلت، رأيته هاتفًا محمولًا على الأكتاف كنجم عراضات أصيل، لم تكن شهرته قد ذاعت بعد، لكني عرفته لاهتمامي بكرة القدم الحمصية”.
كيف يبدو المشهد اليوم بعد 12 عامًا؟
ضمن مساعيه لقمع الثورة، قطّع النظام أوصال المدينة بحواجزه الأمنية، ونشر قناصته على المباني، وسيّر دباباته في ساحة الساعة الجديدة، تركت الدبابات أثرها على الإسفلت شاهدًا إلى اليوم، فبات من الصعب أن يتكرر سيناريو الاعتصام.
في مايو/ أيار 2014 هجّر النظام ثوار حمص إلى ريفها الشمالي، عقب حصار شديد ومعارك وقصف عنيف استمرَّ على مدار أكثر من عامَين، وفرض سيطرته على المدينة.
منذ ذلك الحين لوحظ أن النظام يعمل على العبث بساحتَي الساعتَين القديمة والجديدة في حمص، لإدراكه رمزيتهما وارتباطهما بالحراك الثوري في المدينة.
بدا الأمر واضحًا في مايو/ أيار 2019، عندما دشّن النظام نصبًا تذكاريًّا لقتلى جيشه، مصنوعًا من حجر البازلت الأسود الذي تتميز به مدينة حمص، وسط مخاوف أبناء المدينة من رغبة النظام في تغيير معالم الساعة القديمة.
يرفع هذا النصب الذي يجسّد يدَي جندي، شعلة كُتب عليها عبارة “الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر” التي تُنسب إلى حافظ الأسد، والذي يقع على الضفة اليمنى للساعة القديمة باتجاه شارع الحميدية بمسافة نحو 15 مترًا، حيث عدّه حسام الدين الحزوري، الأكاديمي المتخصص بالتاريخ والمنحدر من مدينة حمص، تشويهًا لمكان الساعة القديمة بالفعل.
تعززت المخاوف في سبتمبر/ أيلول 2021، عندما أزالت بلدية حمص الساعة القديمة من مكانها الواقع في سوق المدينة، مبررة ذلك بعملية إعادة الترميم.
إزالة الساعة جاءت بعد الضجة التي حصلت حين وُضع التمثال، فيما رآه الأهالي استكمالًا لسياسة العبث بمعالم المدينة بشكل كامل تحت ذريعة الإصلاح وإعادة الإعمار، وسياسة التغيير الديموغرافي التي يتّبعها نظام الأسد فيها.
ووفقًا للحزوري، فإن عملية الإزالة تمّت بطريقة بدائية وهمجية تعبّر عن اللامبالاة، وفيها من عدم الشعور بالمسؤولية وعدم تقدير قيمة ما يقتلعونه الشيء الكثير، كما تفتقد لأي أسلوب فني، حيث رُميت على الأرض بينما كان من المفترض أن تبقى مكانها ويرمّم ما حولها، لأنها منصوبة هناك منذ وضعت أول مرة، ولأن الآثار تفقد قيمتها عندما تقتلع من مكانها وتتغير ملامحها، ويبدو أن هذا ما يرمي إليه النظام بالفعل.
أُعيدت الساعة فيما بعد وسط تصميم اُستخدم فيه الإسمنت والرخام يراه النظام تجميلًا للساحة، ويعتبره الحزوري اعتداءً على التراث لأنه يغير البنية الأثرية للساعة، التي ارتبطت بأذهان أبناء حمص منذ نحو قرن.
أما فيما يخصّ ساحة الساعة الجديدة، فإن بلدية حمص لم تجرؤ بعد على تغيير أي من معالمها، لكنها تعبث برمزيتها بطريقة أخرى، إذ حاول النظام استفزاز أهالي حمص خلال انتخابات الرئاسة الأخيرة التي أجراها عام 2021، عبر تعليق كمّ كبير مبالغ فيه من صور بشار الأسد على الساعة نفسها بشكل يغطيها من كافة جوانبها.
كما لا يخلو الأمر من تسييره المسيرات المؤيدة التي يجبر فيها الموظفين وطلاب المدارس على رفع أعلامه والهتاف له، ريثما تلتقط كاميرات إعلامه ما تبثه على أنه مسيرات “عفوية” ذات مطالب تصبّ في مصلحته، وأحدث تلك المسيرات كان قبل قرابة أسبوعَين تحت شعار رفع العقوبات عنه.
عن هذه التغييرات يعلّق عبد الرحمن الدالاتي: “النظام يريد التمثيل أنه يتحكم بهذه المدينة ويسيطر عليها، بإرساله مثل هذه رسائل من المنطقة أو الساحة التي سيطرنا عليها وأطلقنا منها شعاراتنا، لكن هذا لا يفيده أبدًا، فاليوم بعد 12 عامًا نعيش في منطقة محررة أكبر ممّا كانت عليه في بداية الثورة”.
“هل أحلم بأن نحتفل يومًا ما في ساحة الساعة؟ لا.. لا أحلم.. بل إن هذا الأمر سيحدث عيانًا إن شاء اللّٰه.. هو أمر قد نحسبه بعيدًا لكنه بإذن اللّٰه أقرب ممّا نعتقد. نحن علينا السعي، فالأمور تسير بإعداد العتاد ورأب الصدع ولمّ الجهود”.
“ثمة قضايا عانت من التشرذم والتشظي أكثر من قضيتنا، لكنها بعد ذلك انتصرت بعون الله ثم بجهد الأحرار المناصرين لها المصرّين عليها. إن كنت أنا سأتخلى وغيري سيتخلى، فإن من فقد أبًا وأخًا لن يتخلوا، وفي أي لحظة يشعر الشعب السوري أنه قادر على إعادة رفد جهوده، سيكون التحرير قاب قوسين أو أدنى”.
وحول الأمر ذاته، يعلق عدنان الحمصي: “يحاول النظام بهذه الطريقة هدم رمزية ساحة الساعة في نفوس الناس، ليس فقط هدم الذكرى، إنما هدم مكانة الأمر كليًّا بما ورائه وما أمامه حتى، بجميع تبعاته والتطلعات والآمال التي ولدها، يحاولون تشتيت الذاكرة عن الحدث، المسيرات وتعليق الصور وما إلى ذلك”.
“كل هذه المواقف توضّح أنه يريد تبديل الصورة المطبوعة في الأذهان بصورة أخرى. لكننا متمسّكون بحلم العودة لشوارعنا وأهلنا وناسنا الذين نحب، حلم العودة للاحتفال بالنصر هناك، وذلك لا يراودني وحدي، هو حلم الآلاف وربما الملايين”.
لا يكاد يخلو يوم لأبناء حمص من المرور في ساحتَي الساعتَين على اعتبارهما قلب المدينة ومركزها النشط الذي يصل الأسواق القديمة بالجديدة، وكلما مرّوا يسمع بعضهم صوت المعتصمين كأنهم كانوا هناك بالأمس، كأن القلوب والعقول ما زالت معتصمة.. فهل يعودنّ يومًا ما مضى؟