شكّلت الحرب في سوريا أحد أكثر النزاعات تعقيدًا وتدميرًا خلال السنوات الأخيرة، فقد أودى الصراع بحياة مئات الآلاف من الأشخاص، وشرّد الملايين وترك البلاد في حالة خراب، ورغم المحاولات العديدة التي قام بها المجتمع الدولي لإنهاء الصراع، لا يزال السلام الدائم بعيد المنال.
في هذا المقال، سنحاول استكشاف أبرز التحديات والتعقيدات التي تقف أمام إيجاد طريق للسلام في سوريا.
تعود جذور الصراع في سوريا إلى مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من هذه العوامل الحكم الاستبدادي لحافظ الأسد ووريثه غير الشرعي بشار، تسلُّط الجيش والأجهزة الأمنية، عدم المساواة الاقتصادية والفساد وانتشار الفقر والبطالة، وغياب الأحزاب والحياة السياسية في البلاد منذ انقلاب حزب البعث واستئثاره بالسلطة في ستينيات القرن الماضي.
ساهمت احتجاجات الربيع العربي عام 2011، والتي أدّت إلى موجة من الانتفاضات والاضطرابات السياسية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في إيقاد جذوة الثورة ضد النظام الديكتاتوري في سوريا، لكن سرعان ما تحوّلت الثورة والاحتجاجات السلمية إلى نزاع مسلح، بسبب العنف المفرط والحلول العسكرية التي حاول النظام السوري فرضها لإنهاء هذه الاحتجاجات.
دفعت التطورات المتسارعة التي شهدتها سوريا خلال السنوات الأولى للثورة إلى تحول الصراع إلى حرب بالوكالة، إذ دعمت القوى الإقليمية والدولية أطرافًا مختلفة، ما أدّى إلى تفاقم العنف.
أحد التحديات الرئيسية في إيجاد طريق للسلام في سوريا هو تعقّد الصراع بسبب تعدد الجهات الفاعلة التي لديها مصالح متنافسة، مثل روسيا وإيران والولايات المتحدة وجهات دولية وإقليمية أخرى، كل من هذه الجهات الفاعلة لديها أجندتها الخاصة، وهي غير مستعدة لتقديم تنازلات، ما يجعل من الصعب الوصول إلى تسوية تفاوضية.
لعبت الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل “داعش” والميليشيات والجماعات المتطرفة الأخرى دورًا مهمًّا في الصراع في سوريا، ما أضاف طبقة إضافية من التعقيد إلى جهود بناء السلام.
التحدي الآخر هو الأزمة الإنسانية الناجمة عن الصراع الذي كان له تأثير مدمّر على السكان المدنيين في البلاد، إذ نزح ملايين السوريين من ديارهم، ولجأ الكثير منهم إلى الدول المجاورة وأوروبا، بسبب استخدام الأسلحة الكيميائية والغازات السامة والقصف العشوائي وجرائم الحرب الأخرى.
أدى تدمير البنية التحتية وانهيار الاقتصاد إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، وحرمان العديد من السوريين من الوصول إلى الضروريات الأساسية، مثل الغذاء والماء والرعاية الصحية وتدهور الأمن الغذائي.
وقدّر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، أعداد السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر بأكثر من 90% من إجمالي السكان، وتلبية هذه الاحتياجات الإنسانية أمر بالغ الأهمية لأي اتفاق سلام دائم، لكنها تتطلب موارد وتعاونًا كبيرًا من المجتمع الدولي.
الإصلاح الدستوري
قد يكون الإصلاح الدستوري ضروريًا لمعالجة المظالم السياسية التي أججت الصراع في سوريا. إصلاح الدستور السوري أو وضع دستور جديد لمعالجة قضايا مهمة تتعلق بالاستبداد مثل تركيز السلطة في الرئاسة، يمكن أن يساعد في بناء نظام سياسي أكثر شمولًا واستقرارًا.
إلا أن الواقع يشير إلى عدم إمكانية ذلك في ضوء تعنت النظام السوري وروسيا، ومصادرة اللجنة الدستورية التي فشلت حتى الآن في تحقيق أي تقدم في هذا المسار رغم مرور نحو أربع سنوات على تشكيلها.
إصلاح المنظومة القانونية والقضائية
يعدّ إصلاح النظام القانوني والقضائي في سوريا أمرًا ضروريًّا لتعزيز سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان وبناء سلام دائم، ويتعرض النظام القانوني والقضائي الحالي في سوريا لانتقادات واسعة النطاق، لافتقاره إلى الاستقلالية والشفافية والمساءلة، فضلًا عن تفشّي الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، وإنشاء محاكم خاصة غالبًا ما تكون قراراتها مسيَّسة مثل محكمة مكافحة الإرهاب.
لإصلاح النظام القانوني والقضائي، يمكن اتخاذ عدة خطوات، منها تعزيز استقلال القضاء، وإصلاح القوانين والأنظمة وتحديثها لتتوافق مع المعايير الدولية، وتحسين البنية التحتية لنظام العدالة، وتعزيز الوصول إلى العدالة ومحاربة الفساد.
بشكل عام، يعدّ إصلاح النظام القانوني والقضائي في سوريا خطوة حاسمة نحو بناء سلام مستدام وتعزيز حقوق الإنسان، إنه يتطلب التزامًا واستثمارًا طويلَين الأجل، لكن الفوائد ستكون كبيرة للشعب السوري ومستقبل البلاد.
الملاحقة الجنائية الدولية
يمكن للملاحقة الجنائية الدولية لمرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة أثناء النزاع في سوريا، أن تلعب دورًا مهمًّا في تعزيز المساءلة وردع الفظائع المستقبلية، ومكافحة سياسة الإفلات من العقاب.
ومع ذلك، إن تحديات تقديم الجناة إلى العدالة يمكن أن تكون كبيرة، لا سيما في غياب تعاون النظام السوري، إضافة إلى التعقيدات الخاصة بالقانون والقضاء الجنائي الدولي.
العدالة الانتقالية
يمكن لآليات العدالة الانتقالية، مثل لجان الحقيقة وتدابير المساءلة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان، أن تلعب دورًا مهمًّا في معالجة مخلفات الصراع وتعزيز المصالحة، ومع ذلك يمكن أن يكون تنفيذ هذه الآليات صعبًا في سياق الصراع المستمر.
الإصلاح العسكري والأمني وتحديات نزع السلاح والتسريح
يعد إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية ونزع سلاح الميليشيات والجماعات المسلحة وتسريحها مكونًا رئيسيًا في أي اتفاق سلام، ولكن قد يكون من الصعب تنفيذه في سياق نزاع مستمر.
سيكون ضمان إصلاح الجيش والأجهزة الأمنية ونزع السلاح الآمن والمضمون وتسريح الميليشيات والجماعات المسلحة أمرًا حاسمًا لإحلال سلام دائم في سوريا.
معالجة التغيير الديموغرافي
لعبت التغيُّرات الديموغرافية في سوريا دورًا مهمًّا في الصراع المستمر في البلاد، إذ شهد السكان السوريون تحولات هائلة منذ بداية الحرب، بما في ذلك النزوح والهجرة والتغيُّرات الديموغرافية الناتجة عن عنف النزاع.
كان أحد أهم التغيرات الديموغرافية هو تهجير ملايين السوريين من ديارهم، إذ أدى هذا النزوح إلى تعطيل الهياكل الاجتماعية والاقتصادية، ما تسبّب في إجهاد الموارد وزيادة التوترات بين المجتمعات المضيفة واللاجئين.
تغيير ديموغرافي مهم آخر هو التحول في التركيبة العرقية والدينية لبعض المناطق، على سبيل المثال في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، كانت هناك زيادة في عدد الشيعة من إيران والعراق، الذين جاؤوا للقتال إلى جانب القوات الحكومية.
وقد أدّى ذلك إلى زيادة التوترات الطائفية، حيث يشعر العديد من المسلمين السنّة بالتهميش والتمييز ضدهم، ولمعالجة هذه التغيرات الديموغرافية وتأثيرها على بناء السلام في سوريا هناك حاجة إلى نهج شامل، ويشمل ذلك تعزيز الحوار والمصالحة بين مختلف الجماعات العرقية والدينية، ومعالجة الأسباب الجذرية للنزوح، وتقديم الدعم للاجئين والمجتمعات المضيفة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب بذل الجهود لضمان التوزيع العادل للموارد والخدمات، ولتعزيز الحكم الشامل والمشاركة السياسية، من المهم أيضًا إدراك أن معالجة التغييرات الديموغرافية ليست حلًّا قصير المدى، لكنها عملية طويلة الأجل تتطلب التزامًا واستثمارًا مستدامَين.
تأثير الديناميكيات الإقليمية
تأثّر الصراع في سوريا بديناميكيات إقليمية أوسع، بما في ذلك التوترات بين إيران والمملكة العربية السعودية، فضلًا عن مشاركة “إسرائيل” و”حزب الله”، وقد تكون معالجة هذه الديناميكيات الإقليمية الأوسع ضرورية لتحقيق السلام الدائم في سوريا.
التنمية الاقتصادية
يمكن أن تلعب التنمية الاقتصادية وخلق فرص العمل دورًا مهمًّا في تعزيز الاستقرار وتقليل مخاطر الصراع في المستقبل، حيث سيتطلب دعم التنمية الاقتصادية في سوريا معالجة قضايا مثل الفساد والبطالة وعدم المساواة والوصول إلى التمويل.
إشراك النساء والمجتمع المدني في بناء السلام
غالبًا ما استبعدت النساء من مفاوضات السلام الرسمية في سوريا، رغم دورهن المهم في تعزيز السلام على المستوى المحلي.
يمكن أن يساعد إشراك النساء في جهود بناء السلام في ضمان تمثيل وجهات نظر واحتياجات جميع أفراد المجتمع، إضافة إلى ذلك سيكون دعم منظمات المجتمع المدني وتعزيز مشاركتها في جهود بناء السلام أمرًا بالغ الأهمية لإرساء سلام مستدام في سوريا.
إعادة الإعمار
حتى لو تمَّ التوصل إلى اتفاق سلام، فإن تحديات إعادة الإعمار والبناء ستكون كبيرة، تركَ الصراع الكثير من البنية التحتية للبلاد في حالة خراب، وتشرّد ملايين السوريين من ديارهم، وسيحتاج المجتمع الدولي إلى تقديم الدعم لجهود إعادة الإعمار، وكذلك للجهود المبذولة لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع.
الدعم الدولي
سيتطلّب إيجاد طريق للسلام في سوريا دعمًا دوليًّا مستدامًا، بما في ذلك المساعدات الدبلوماسية والمالية والإنسانية، ويجب أن يظلَّ المجتمع الدولي منخرطًا في الجهود المبذولة لمعالجة الصراع ودعم الشعب السوري.
بالإضافة إلى هذه التحديات، هناك أيضًا عقبات سياسية ودبلوماسية لإيجاد طريق للسلام في سوريا، فقد تعثّرت محادثات السلام في جنيف التي تقودها الأمم المتحدة بسبب تعنُّت النظام السوري وروسيا، بينما استخدم آخرون المحادثات كمنصّة لتسجيل نقاط سياسية.
كانت القوى الإقليمية والدولية على خلاف أيضًا، وتسعى إلى تحقيق مصالح متضاربة، ما أدّى إلى تفاقم الصراع في سوريا بسبب تورُّط هذه الجهات بشكل مباشر أو غير مباشر في النزاع، إذ سعت هذه الجهات الفاعلة إلى تحقيق مصالحها الخاصة، وفي كثير من الأحيان على حساب إيجاد حل سلمي.
أهمية الشمولية ومعالجة الأسباب الجذرية
يجب أن يكون أي اتفاق سلام في سوريا شاملًا، الشمولية ضرورية لضمان سلام مستدام ومعالجة مخاوف وتظلمات جميع الأطراف.
في النهاية، يجب أن يعالج أي مسار للسلام الأسباب الجذرية للصراع، بما في ذلك الإصلاح السياسي والعسكري والأمني والتنمية الاقتصادية، ودعم سيادة القانون وتوفير البيئة الآمنة لعودة اللاجئين بشكل طوعي، وضمان أمنهم وكرامتهم، وإعادة ممتلكاتهم التي صادرها النظام.
من دون معالجة هذه القضايا الأساسية، من المرجّح أن يكون أي اتفاق سلام هشًّا وقصير الأجل، لا يزال هناك الكثير الذي يتعيّن القيام به لإيجاد طريق للسلام في سوريا، ويجب على المجتمع الدولي أن يظل ملتزمًا بإيجاد تسوية سياسية تعالج الأسباب الجذرية للنزاع، وتلبّي احتياجات جميع السوريين.
سيتطلب ذلك جهودًا دبلوماسية متواصلة، ودعمًا للمساعدات الإنسانية، واستعدادًا لتقديم تنازلات واتخاذ قرارات صعبة، عندها فقط يمكن لسوريا أن تبدأ في إعادة البناء والتحرك نحو مستقبل أكثر سلامًا.