خصّص الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حيّزًا كبيرًا من خطاب رأس السنة للدفاع عن ملف “إصلاح نظام التقاعد”، إذ أكّد أن مشروعه يضمن العدالة والمساواة للجميع، وهو “مشروع تقدمي من الناحية الاجتماعية، لأنه نظام موحّد، الجميع سواسية أمام ما يقومون به، وهو أبعد ما يكون عليه النظام الحاليّ، مشروع يساوي أكثر بين الجميع”، وفق قوله.
بعدها بـ 10 أيام أعلن عن المشروع، لتدخل فرنسا معه في دوامة من الاحتجاجات والمظاهرات الدورية، التي شارك فيها مئات الآلاف بهدف إسقاط هذا المشروع، ما دفع ماكرون إلى التريُّث قليلًا وعدم عرضه على البرلمان، علّه يستطيع إقناع الفرنسيين بجدوى المشروع.
مرّت أكثر من 3 أشهر على عرض المشروع، لكن ماكرون وحكومته لم يتمكّنا من حشد أغلبية النواب، كما أن المظاهرات زادت حدّتها رغم القمع الأمني الذي وُوجه به المتظاهرون في معظم مدن البلاد الكبرى، ما دفع ماكرون إلى اللجوء لمادة دستورية جدالية لتمرير مشروعه، فهل سيكون ذلك سببًا كافيًا لإسقاط حكومة ماكرون؟
فشل في حشد الأغلبية
يشدّد الرئيس ماكرون على وجوب رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 أو 65 عامًا، معتبرًا أن النظام المعمول به حاليًّا غير قابل للاستمرار لأن الناس يعيشون لفترات أطول، ما أخلَّ بالتوازن في نظام التقاعد في فرنسا.
عند عرض المشروع في 10 يناير/ كانون الثاني الماضي، قدّمت رئيسة الوزراء، إليزابيث بورن، عديد المبررات والحجج لهذا المشروع الذي يحمل “تقدمًا اجتماعيًّا”، خصوصًا من خلال تعزيز معاشات التقاعد الصغيرة، وفق قولها، والسيطرة على العجز الهائل في صناديق التقاعد الذي قد يتجاوز 12 مليار يورو عام 2027، لكنها لم تقنع غالبية الفرنسيين.
أمام ذلك ارتأت الحكومة مواصلة المحادثات مع بعض النقابات والأحزاب، لكن إصرارها على عدم المساس بجوهر المشروع -والقاضي بإرجاء سن التقاعد من 62 إلى 64 عامًا- والانفتاح فقط على الهوامش، لم يكن كفيلًا لإقناع المعارضة والنقابات.
ذهاب فريق الرئيس إيمانويل ماكرون لإقرار مشروع الإصلاح بالقوة، وضع حكومة إليزابيث بورن في مرمى أسهم المعارضة.
تواصلت المحادثات لكنها لم تحقق أهدافها، فالنقابات العمّالية واصلت الاحتجاج ضد مشروع قانون ماكرون، وللمرة الأولى منذ 12 عامًا تمَّ توحيد تحركات النقابات، وهو أمر يحسَب لنظام الرئيس إيمانويل ماكرون.
وشهدت العاصمة باريس، منذ 19 يناير/ كانون الثاني، 8 مظاهرات كبرى شاركت فيها كلّ النقابات العمالية بمختلف توجهاتها، فضلًا عن أحزاب المعارضة، كما شهدت باقي المدن الكبرى عديد المظاهرات التي واجهتها الحكومة بالقمع.
أُوقف مئات المحتجين، كما جرى استعمال الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين، في مشاهد تذكّرنا بقمع الشرطة للمتظاهرين في الدول الاستبدادية، وهو ما زاد من نقمة الفرنسيين ورفضهم لهذا المشروع.
Des milliers de personnes manifestent à Rennes au lendemain de l’utilisation du 49.3 #Revolution #greve17mars #Macronestuneordure #ReformesDesRetraites pic.twitter.com/UmCDuTNMBm
— Anonyme Citoyen (@AnonymeCitoyen) March 17, 2023
الفشل لم يكن في الشارع فقط، إنما في البرلمان أيضًا، إذ لم يتمكن فريق ماكرون النيابي من إقناع غالبية النواب بمشروع “إصلاح نظام التقاعد”، وقد ظهر ذلك في أروقة البرلمان وتردُّد الحكومة في عرض المشروع أمام المجلس.
يذكَر أن ماكرون فقدَ الأغلبية المطلقة في انتخابات الجمعية الوطنية التي عُقدت منتصف السنة الماضية، فقد حصل تحالف “معًا” الذي يضمّ 3 قوى سياسية قريبة من الرئيس ماكرون، “الجمهورية إلى الأمام” و”آفاق” و”حزب الوسط”، على 246 مقعدًا، وهو عدد يقع دون الأغلبية المطلقة التي تسمح للتحالف الحاكم بإدارة شؤون البلاد استنادًا إلى مجلس نيابي داعم، وهي 289 مقعدًا على الأقل.
اللجوء إلى مادة جدالية لتمريره
خاض فريق ماكرون سلسلة من المفاوضات والاجتماعات المتعددة مع النقابات والأحزاب الممثلة في البرلمان، لكن في الأخير اقتنع أن الذهاب إلى التصويت على مشروع القانون الذي يرفع سن التقاعد من 62 عامًا إلى 64 عامًا يشكّل مخاطرة كبيرة.
كان يفترض عرض مشروع القانون أمس الخميس على تصويت نواب البرلمان، لكن ماكرون سبق ذلك خشية أن يتكبّد خسارة كبرى، وسارع للسماح للحكومة باللجوء إلى الفقرة الثالثة من المادة 49 من الدستور، التي تسمح بتمرير مشروع قانون من دون طرحه على التصويت، من خلال تولي الحكومة مسؤوليته.
ستواصل حكومة إليزابيث بورن العمل لفترة إضافية، لكن من الواضح أن فرنسا ستُدار في الفترة القادمة عبر المادة 49.3.
سبق أن أكّد ماكرون أنه لا يريد اللجوء إلى هذه المادة، وأنه يفضّل أن يصوّت النواب على مشروع القانون، لكن عدم ضمان الأغلبية المطلقة في الجمعية العامة وعدم اقتناع نواب من حزب الجمهوريين اليميني التقليدي بمشروع قانون إصلاح نظام التقاعد، جعله يلجأ إلى مادة دستورية جدالية.
بدروها سارعت حكومة إليزابيث بورن للجوء إلى الفقرة الثالثة من المادة 49 من الدستور لتمرير مشروع القانون دون عرضه على التصويت في مجلس النواب، وهو ما أثار حفيظة العديد من الفرنسيين الذين نزلوا إلى الشارع للتنديد بقرار الحكومة.
مصير حكومة ماكرون
صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها ماكرون إلى هذه المادة الدستورية الجدالية، إذ استخدمها نحو 10 مرات خلال ولايته الرئاسية الثانية التي لم يمرَّ عليها إلا بضعة أشهر فقط، لكن هذه المرة يبدو أن العواقب لن تكون كالسابق.
استخدم ماكرون هذه المادة رغم نتائج استطلاعات الرأي العديدة، والتي أشارت إلى أن غالبية الفرنسيين ترفض مشروع إصلاح نظام التقاعد، بحجّة أن الرئيس وعدَ بذلك خلال حملته الانتخابية الأولى، ولا يمكن أن يتراجع عنه في ولايته الانتخابية الثانية.
?? FLASH – Des mannequins à l’effigie d’Emmanuel #Macron, d’Élisabeth Borne, d’Olivier Véran et d’Olivier Dussopt ont été brûlés par des manifestants à #Dijon après l’utilisation du 49.3 par le gouvernement. (Le Bien Public) #greve16mars #revolution pic.twitter.com/SFNGJu2idb
— Mediavenir (@Mediavenir) March 16, 2023
ذهاب فريق الرئيس إيمانويل ماكرون إلى إقرار مشروع الإصلاح بالقوة، وضع حكومة إليزابيث بورن في مرمى أسهم المعارضة -اليمينية واليسارية-، التي كانت تنتظر الفرصة الملائمة لتقديم مذكرة حجب ثقة للحكومة التي لم تنل ثقتها منذ البداية.
سارعت زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، إلى اقتناص الفرصة، وأعلنت نيّتها تقديم اقتراح بسحب الثقة من الحكومة، واعتبرت أن استخدام الفقرة 3 من المادة 49 للدستور “فشل ذريع” لماكرون ورئيسة وزرائه إليزابيث بورن.
Le recours au 49.3 est un échec personnel pour Emmanuel Macron, un échec aussi pour le gouvernement.
Nous allons donc voter les motions de censure pour censurer ce gouvernement qui a décidé de passer en force pour imposer cette réforme. pic.twitter.com/LT29LWZAGN
— Marine Le Pen (@MLP_officiel) March 16, 2023
كما أعلن أيضًا جوليان بايو، وهو نائب عن حزب الخضر الذي ينتمي إلى ائتلاف الأحزاب اليسارية “نوبيس”، أنه سيقدّم اقتراحًا لحجب الثقة عن الحكومة “عابرًا للأحزاب”، ويضم هذا التحالف 151 نائبًا في البرلمان، كما تعتزم مجموعة وسطية صغيرة منشقّة تقديم لائحة سحب ثقة.
تعمل أحزاب المعارضة لحشد الأغلبية لمقترحات حجب الثقة عن الحكومة، لكن المسألة ليست سهلة في ظلّ تحذير زعيم الجمهوريين، إيريك سيوتي، من أن حزبه لن يصوّت على “أي من مقترحات حجب الثقة”، ما يمنح حكومة ماكرون فرصة إضافية للعمل.
ستواصل حكومة إليزابيث بورن العمل لفترة إضافية، لكن من الواضح أن فرنسا ستُدار في الفترة القادمة عبر المادة 49.3، في ظل الانقسام الكبير داخل أروقة البرلمان، ما سيزيد من حدّة الغضب الشعبي الكبير لسياسات ماكرون.