أسفرت انتخابات نقابة الصحفيين المصرية عن فوز المرشح المستقل خالد البلشي (رئيس تحرير موقع درب الإخباري المحجوب، التابع لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي المحسوب على المعارضة)، بمنصب نقيب الصحفيين، بحصوله على 2450 صوتًا، مطيحًا بمرشح الحكومة، خالد ميري، رئيس تحرير صحيفة “الأخبار” القومية، الذي حصل على 2211 صوتًا، في مفاجأة من العيار الثقيل، وسط حالة ذهول من أنصار ميري وداعميه في الصحف والمواقع الحكومية.
جاءت الانتخابات التي جرت الجمعة 17 مارس/آذار الحاليّ وسط أجواء مشحونة بين أنصار الخالدين: خالد “اليسار” المحسوب على المعارضة بسبب مطالباته المستمرة بحرية الصحافة واستقلاليتها، وخالد “اليمين المحافظ” المنتمي إلى العباءة السلطوية وأحد أبنائها طيلة السنوات الماضية.
معركة حامية الوطيس دارت رحاها داخل أروقة قلعة الصحفيين المصرية، شهدت خلالها كل ألوان الطيف السياسي، وشتى أنواع الدعاية الانتخابية، المشروع والمحرم، فضلًا عن الرشى الانتخابية التي كانت حاضرة بقوة، لتسفر عن تلك المفاجأة التي ارتفع معها منسوب الأمل في مستقبل أكثر حرية للصحافة المصرية وبداية عهد جديد من الاستقلالية واحترام الرأي والتزحزح نسبيًا عن التبعية السلطوية، لتقدم الجماعة الصحفية رسالة سياسية من الطراز الأول وإن كانت في ثياب نقابي.
خبر حلو ومفاجأة غير متوقعة.. خالد البلشي نقيبا والجارحي عضوا في مجلس نقابة الصحفيين .. الف مبروك للمحترمين . شامم ريحة نضيفة .. pic.twitter.com/4FFZsnu5C3
— Dr. Hazim Abdelazim (@Hazem__Azim) March 18, 2023
الإطاحة بمرشحي الحكومة.. مفاجآت بالجملة
المفاجأة لم تقتصر على منصب النقيب، فالمقاعد الست التي جرت عليها الانتخابات شهدت هي الأخرى انقلابات جذرية في المسار العام للنقابة خلال السنوات الأربعة الماضية، حيث أطيح بالنائب الصحفي محمد شبانة، سكرتير عام النقابة السابق ورئيس تحرير مجلة “الأهرام الرياضي” وعضو مجلس الشيوخ (المعين من الرئيس عبد الفتاح السيسي) الذي كان من أكثر المرشحين للحفاظ على مقعده، كذلك أطيح بعضو المجلس السابق حماد الرمحي الذي يتهمه الصحفيون بالتقصير في حقوقهم والتغول عليها لصالح آخرين.
فيما حافظ هشام يونس ومحمود كامل، وكلاهما من أبناء الصحف القومية رغم أنهما من المحسوبين على التيار المعارض في مجلس النقيب المنتهية ولايته ضياء رشوان، على مقعديهما، حيث يحتلا مكانة كبيرة لدى الصحفيين بسبب مواقفهما المؤيدة في كثير منها إلى الجماعة الصحفية والدفاع عن المعتقلين من أبناء الصحفيين بجانب مطالبهم المستمرة بتوسعة هامش الحرية المخنوقة الممنوحة للصحافة وحريات الرأي والتعبير.
وعلى الجانب الآخر، عاد للأضواء النقابية مرة أخرى جمال عبد الرحيم، رئيس تحرير صحيفة “الجمهورية” الأسبق، وأحد الأعضاء المخضرمين داخل مجلس النقابة (أكثر من 12 عامًا داخل مجلس النقابة)، بعد غياب دام عامين، ويتمتع عبد الرحيم بشعبية كبيرة لدى جموع الصحفيين، فيما يصفه البعض بأنه “رمانة ميزان” النقابة الذي اعتاد الوقوف في وجه النقيب والموالين له داخل المجلس.
ومن الوجوه الجديدة التي فرضت نفسها على الساحة مؤخرًا ونجحت في كسب ثقة الصحفيين، محمد الجارحي، الذي نجح في حجز مقعده داخل النقابة لأول مرة في تاريخه الصحفي، ويُعرف عنه الاستقلالية وأنه من غير المنتمين لأي تيار سياسي، وأحد المطالبين بالإفراج عن المعتقلين، إذ يواجه شقيقه الاعتقال منذ أكثر من عامين رغم مناشداته المستمرة بالإفراج عنه، كذلك عبد الرؤوف خليفة، ابن مؤسسة الأهرام الذي بدأ الإعداد لتلك المعركة قبل عامين من خلال اعتياد تقديم خدمات خاصة للصحفيين بشكل فردي.
فوز خالد البلشي بمنصب النقيب ، هو فوز مستحق ، أثق أنه سيكون في صالح جموع الصحفيين .
وإخفاق منافسيه لا يعني هزيمة للسلطة ، بل ربما هو ربح مؤكد وخطوة في الطريق الصحيح .
تهنئة للجميع ، هذا إختبار يثبت أن المجتمع مثل نقابة الصحفيين يستطيع .
— Masom Marzok (@marazka) March 18, 2023
رسالة سياسية في ثوب نقابي
القراءة الأولى لنتائج تلك المعركة الانتخابية تشير إلى رغبة جموع الصحفيين إيصال رسالة سياسية مفادها رفضهم القاطع للتغول السلطوي على مهنة الصحافة ومحاولة تأميم النقابة من خلال أسماء معروف عنها ولائها التام للسلطة أكثر منها للأسرة الصحفية، تلك الأسماء التي يتهمها البعض بأنها تعمل لحسابها الشخصي على حساب الصحافة.
وخلال الدورتين الماضيتين كانت النقابة في قبضة الموالين للسلطة، ممن نجحوا في شق الصف الصحفي فيما عرف سابقًا باسم “جبهة تصحيح المسار” وهي جبهة أعضاء مجلس النقابة الذين انشقوا عن المجلس في مايو/آيار 2016 إبان ولاية يحيى قلاش، وهم: إبراهيم أبوكيلة وحاتم زكريا ومحمد شبانة وخالد ميرى وعلاء ثابت، وذهبوا لهذا الاجتماع الذي عقد في مقر صحيفة “الأهرام” وتم الاتفاق خلاله على إسقاط مجلس قلاش بسبب مناوءته لوزير الداخلية حينها ورفضه لاقتحام أفراد الأمن للنقابة.
اللافت أن الأعضاء الذين ذهبوا لحضور هذا الاجتماع تم تكريمهم فيما بعد بالمناصب الوفيرة، محمد شبانة الذي كان صحفيًا عاديًا أصبح رئيسًا لتحرير الأهرام الرياضي ثم عُين نائبًا في مجلس الشيوخ ومن بعدها مذيعًا في إحدى القنوات التليفزيونية والراديو، كذلك خالد ميري الذي أصبح رئيسًا لتحرير الأخبار ثم مقدمًا لأحد البرامج على قناة “صدى البلد” المملوكة لرجل الأعمال الداعم دومًا للسلطة محمد أبو العينين، هذا بخلاف إبراهيم أبو كيلة الذي أصبح رئيسًا لأحد الإصدارات القومية.
وخلال السنوات الستة الماضية كان هؤلاء هم رموز نقابة الصحفيين والمتحكمين في شؤون الجماعة الصحفية، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على الأداء الصحفي في مصر الذي تراجع بشكل كبير، سواء من حيث مؤشر الحريات أم الاستقلالية أم حتى المضمون المقدم الذي بات أشبه بنشرات العلاقات العامة الصادرة عن الوزارات والهيئات الحكومية لتفقد مصر ريادتها للصحافة رغم أسبقيتها الإقليمية وتاريخها العريق في تلك المهنة.
ورغم المغريات التي قدمها مرشحو الحكومة في تلك الانتخابات التي يسميها البعض بـ”الرشى الانتخابية”، فإنها لم تقنع الصحفيين الذين تعاملوا معها على أنها نوع من الإهانة للصحفي وتقليل لمكانته ودوره الحقيقي، ليبعثوا برسالة واضحة معلنين رفضهم لهذا الأسلوب المعتاد، مؤملين أنفسهم بمرحلة جديدة من الحريات والاستقلالية.
فوز خالد البلشي برئاسة نقابة الصحفيين هو مؤشر ذي دلالة علي طبيعة المزاج السياسي للطبقة الوسطي وعموم المصريين في هذه اللحظة .. وهو مؤشر عما يمكن أن تؤول إليه الانتخابات الرئاسية في مصر لو جري توفير لها حد أدني من النزاهة والحرية؟؟
لكن المصريين يعرفون أن حتي الحد الادني شبه مستحيل pic.twitter.com/fEoKO6eesN
— Bahey eldin Hassan (@BaheyHassan) March 18, 2023
تحديات وعقبات
الصدمة التي أحدثها فوز البلشي على حساب ميري لا شك أن صداها سيكون حاضرًا لدى السلطة، فهناك الكثير من الملفات التي من المحتمل أن يتشابك فيها المجلس الجديد مع الدولة، أبرزها ملف المواقع المحجوبة وحبس الصحفيين والحريات الصحفية والاستقلالية وتفضيل أبناء الصحف القومية على زملائهم في الصحف الخاصة والتصدي لمحاولات تأميم الصحافة في المجمل، وكلها ملفات شائكة من المتوقع أن تشهد معارك قوية.
ووفق النتائج الأخيرة فإن تشكيلة المجلس ربما تشهد بعض التوازن بين التيار الموالي للسلطة والمنتصر للمهنة (الاستقلال)، فالفريق الأول يشكل قرابة نصف المجلس (6 أعضاء)، والثاني كذلك إلا أن معه النقيب، وهو التوازن الذي لم يكن موجودًا خلال الدورتين الماضيتين حيث الأغلبية المطلقة لأبناء السلطة وهو ما كان يعرقل أي مشروعات قرارات بشأن الانتصار لحرية الصحافة واستقلاليتها.
وبحكم أن نقابة الصحفيين نقابة مهنية في الأساس، فإن رقعة الاحتكاك بالدولة كبيرة بلا شك، ومن هنا سيكون التحدي، فأمام المجلس الجديد بتلك القيادة الجديدة مهمة صعبة في المرونة والاشتباك ومحاولة التوصل إلى أرضية مشتركة للتفاوض على حقوق الصحفيين، فهل تستجيب الدولة كما هو الحال إذا ما كان الفائز من أبنائها؟ سؤال قد يكون من الصعب الإجابة عنه في الوقت الحاليّ، لكنه سيعكس الكثير من الدلالات عن العلاقة الحقيقية بين نقابة الصحفيين والحكومة.
“هاتوا اخواتنا من الزنازين.. عاشت وحدة الصحفيين”
هتافات الصحفيين للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين عقب فوز #خالد_البلشي بمنصب نقيب الصحفيين المصريين.#مصر #نقابة_الصحفيين pic.twitter.com/ggrhzftW2y
— تغطية (@coveragetheard) March 17, 2023
معظم الآراء تذهب إلى أن الصدام سيكون عنوان المرحلة المقبلة، رغم أن البلشي أكد أن التفاوض سيكون السمت الأبرز لولايته الأولى كنقيب للصحفيين، فيما يتوقع كثيرون أن تشهد الفترة القادمة تضييقات على العطايا الممنوحة للصحفيين كنوع من العقاب على اختياراتهم النقابية، فيما ذهب آخرون إلى أن الدولة ستبرهن على احترامها للإرادة الصحفية وتحاول التعاون مع المجلس الجديد رغم الخلافات الكبيرة بينهما، وبين هذا وذاك يبقى العامان المقبلان هما فترة الاختبار والتقييم.
وبعيدًا عما يمكن أن تشهده المرحلة المقبلة، وسواء تعاونت الدولة مع مجلس البلشي أم لم تتعاون، نجحت في استمالته أم لم تنجح، وسواء أكمل مدته أم لم يكملها، فإن الرسالة الأبرز لهذا المشهد هو الكفر بالسياسات الحاليّة والميل نحو التغيير والثورة على الثوابت التي أودت بالبلاد والعباد إلى هذا المنزلق، البداية كانت من نقابة الصحفيين وحتمًا لن تكون النهاية.