يجتمع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، غدًا الاثنين، في العاصمة البلجيكية بروكسل لمناقشة الوضع في تونس، في ظلّ التراجع الكبير لحقوق الإنسان في هذا البلد العربي الذي يعتبَر مهد الثورات العربية، وإصرار الرئيس قيس سعيّد على مواصلة نهجه وعدم الإنصات لدعاة الحوار.
اجتماع مهم، وهو بمثابة امتحان للأوروبيين وللمبادئ التي يدّعون تبنيها، فهل يتم تجاوز بيانات الإدانة ويتجه الأوروبيون لفرض عقوبات على نظام قيس سعيّد، أم أنهم سيختارون مهادنة النظام والتربيت على كتفه، وتغليب المصالح على الحقوق؟
توصيات البرلمان الأوروبي
عند مناقشة الوضع في تونس، سيجد وزراء الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي عديد التوصيات الصادرة عن البرلمان الأوروبي بشأن تونس، وهي توصيات غير مسبوقة لم تعرفها البلاد في السنوات العشرة الماضية، وتعيد للأذهان حقبة ظنَّ التونسيون أنها انتهت.
تشمل توصيات البرلمان الأوروبي المنعقد بمدينة ستراسبورغ الفرنسية مستويات عديدة، من بينها إدانة “الإجراءات التعسفية للتضييق على الحريات السياسية والنقابية والاعتقالات التي طالت سياسيين معارضين وإعلاميين ونشطاء من المجتمع المدني”.
كما تضمّنت الدعوة للإفراج الفوري عن الصحفي نور الدين بوطار، مدير عام إذاعة “موزاييك إف إم” الخاصة، وجميع المعتقلين تعسفيًّا، بمن فيهم صحفيون وقضاة ومحامون وناشطون سياسيون ونقابيون، ووضع حدّ لمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.
يدّعي الأوروبيون الدفاع عن حقوق الإنسان، لكن يبدو أن مصالحهم أهم من المبادئ.
طالبوا المفوضية الأوروبية بتجميد برامج دعم لوزارتَي العدل والداخلية، وأقرّوا إدانة البرلمان الأوروبي لخطاب الرئيس سعيّد ضد المهاجرين الأفارقة، ووصفوه بأنه “عنصري”، داعين سلطات البلاد إلى الامتثال للقوانين الدولية.
فضلًا عن ذلك، تضمن قرار البرلمان الأوروبي، المنعقد يوم الخميس الماضي، التعبير عن الأسف لرفض السلطات الامتثال لأمر المحكمة الإدارية القاضي بإعادة 49 قاضيًا إلى مناصبهم، داعين لعودتهم إلى وظائفهم فورًا.
تؤكد هذه التوصيات قلق البرلمانيين الأوروبيين من الإجراءات التي اتخذها نظام قيس سعيّد في الأشهر القليلة الماضية، ومنها شنّ حملة اعتقالات في صفوف سياسيين وحقوقيين وصحفيين، وعزل عشرات القضاة والتنكيل بالقضاء وجمعه لكلّ السلطات تحت يدَيه.
بالتزامن مع هذا الاجتماع المرتقب، قالت 4 منظمات حقوقية أول أمس الجمعة، إن على وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الضغط علنًا على السلطات التونسية للتراجع عن قمعها للمنتقدين.
على الاتحاد الأوروبي منح الأولوية لحقوق الإنسان على حساب السياسة في محادثاته مع تونس https://t.co/s8dQbIUw88
— هيومن رايتس ووتش (@hrw_ar) March 17, 2023
ينبغي وفق هذه الجمعيات، وهي الشبكة الأوروبية-المتوسطية لحقوق الإنسان ولجنة الحقوقيين الدولية ومنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش؛ لوزراء الخارجية “مراجعة تعاونهم مع تونس بشكل حاسم، لتجنُّب المساهمة في التقويض المستمر لحقوق الإنسان واستقلال القضاء الذي جاهد التونسيون لنيله منذ ثورة 2011”.
المباحثات التي سيناقش فيها وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الوضع في تونس تأتي في أعقاب تصريحات الاتحاد الأوروبي الأخيرة، التي لم تُقِرّ بالتدهور السريع لوضع حقوق الإنسان في البلاد أو حتى تُدينه.
هل تتم الإدانة؟
تقويض استقلالية القضاء وقمع السياسيين والحقوقيين والصحفيين وسحق حرية التعبير أمور ليست جديدة، فهي مستمرة في تونس منذ انقلاب قيس سعيّد على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية في 25 يوليو/ تموز 2021، مع ذلك لم تتم إدانتها.
صمتُ الأوروبيين عن انتهاكات حقوق الإنسان في تونس منذ اليوم الأول للانقلاب، منحَ سعيّد الضوء الأخضر لمواصلة حملته على القانون ومؤسسات الدولة، إذ علّق عمل البرلمان قبل أن يحلّه، وصاغ دستورًا جديدًا بنفسه يؤسّس لديكتاتورية الفرد، وكتب قانونًا انتخابيًّا يمهّد لنظام جماهيري، وحلَّ الهيئات الدستورية وفرضَ سيطرته على كلّ السلطات في البلاد.
كما تجاهل مبادرات ودعوات من هيئات المجتمع المدني والأحزاب التونسية ومن المجتمع الدولي، لإجراء حوار مع القوى السياسية والاجتماعية لإيجاد مخرج من الأزمة السياسية الحادة التي تشهدها البلاد منذ قرارات يوليو/ تموز.
هناك فرضية تقليص الدعم الأوروبي لتونس، كما فعلت واشنطن من قبل للضغط على قيس سعيّد.
تراجُع ترتيب تونس في “مؤشر الديمقراطية” الذي يقيس حالة الديمقراطية بناء على 5 معايير: الانتخابات والتعددية، أداء الحكومة، المشاركة السياسية، الثقافة السياسية الديمقراطية والحريات المدنية، إذ منح التقرير تونس الدرجة 5.51 والمرتبة 85 متراجعة بـ 10 مراكز.
وفي مؤشر التصنيف العالمي لحرية الصحافة، سجّلت تونس في أحدث تقرير لمنظمة “مراسلون بلا حدود” أسوأ تراجع بـ 21 نقطة، وأصبحت تحتل المرتبة 94 عام 2022 بعدما كانت في المرتبة 73 بعد عام شهد أوسع انتهاكات منذ ثورة 2011.
لم يتحرك الأوروبيون ولم يدينوا كلّ هذه التجاوزات، واكتفوا ببعض البلاغات الهزيلة لإثبات وجودهم، ما دامت مصالحهم لم يتم مسّها، فحتى عند طرد أفراد من لجنة البندقية ونقابيين أوروبيين من تونس لم نسمع لدول الاتحاد الأوروبي صوتًا.
يدّعي الأوروبيون الدفاع عن حقوق الإنسان، لكن يبدو أن مصالحهم أهم من المبادئ، وهو ما يفسّر صمتهم طيلة الأشهر الماضي، ما جعل الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي تفقد توازنها وتضيّع بوصلتها، لكن هل لهم تدارك ذلك؟
فرضيات كثيرة
ينعقد اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي بالتزامن مع ارتفاع سقف الأصوات لاتخاذ تدابير “قوية” للضغط على الرئيس سعيّد، وإرجاع تونس إلى سكّة الديمقراطية، وإنقاذها من المأزق الذي وضعها فيه سعيّد.
يمكن للأوروبيين من خلال نفوذهم التاريخي والتقليدي في تونس أن يقوموا بدور حاسم لفائدة قضايا حقوق الإنسان إن أرادو ذلك، فلهم تأثير على النظام ولهم عديد الأوراق التي يمكن استعمالها، وسبق أن تمَّ استعمالها لمواجهة الأنظمة الاستبدادية.
يذكر أن اتفاقيات الشراكة الأوروبية التونسية الموقعة، إضافة إلى قواعد الشراكة الأوروبية المتوسطية التي قامت عليها مبادرة برشلونة عام 1995، تنصّ على تلازم الشراكة الاقتصادية مع تطور حقوق الإنسان والديمقراطية في دول جنوب البحر الأبيض المتوسط.
يعني هذا أن النظام في تونس ملزم باحترام الحريات والمكتسبات الديمقراطية، كي تواصل بروكسل تقديم الدعم المالي والاقتصادي له، والذي بلغ خلال السنوات العشرة الماضية حوالي 3 مليارات يورو، ما يعني إمكانية تقليصه إن بقيَ الوضع على حاله.
المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي: سنصدر قرارات مهمة تخص تونس بعد 4 أيام#يسقط_الانقلاب_في_تونس pic.twitter.com/Y75qj0leFV
— Nizar (@TTitou21) March 16, 2023
هناك فرضية تقليص الدعم الأوروبي لتونس، كما فعلت واشنطن من قبل للضغط على قيس سعيّد، وهو قرار اعتاد الأوروبيون فرضه على الأنظمة الاستبدادية للضغط عليها للعودة إلى المسار الديمقراطي والدستوري.
صحيح أنه يمكن للأوروبيين تقليص الدعم عن نظام سعيّد للضغط عليه، لكن هذا الأمر مستبعد في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس، فأي تقليص في الدعم سيزيد من حدّة الأزمة ويفاقمها، خاصة أن المفاوضات التونسية مع صندوق النقد للحصول على تمويلات إضافية لموازنة الدولة معطّلة.
وتعيش تونس، منذ سنوات، على وقع أزمة مالية واقتصادية حادة، نتيجة توقف الإنتاج في العديد من المؤسسات وأزمة كورونا وتراجع السياحة، فضلًا عن تأثيرات الأزمة السياسية، ما زاد من حدة الاحتقان الاجتماعي في البلاد.
يخشى الأوروبيون تفاقم الوضع الاقتصادي في تونس، فذلك سيؤدّي إلى موجة هجرة كبيرة من تونس لدول الاتحاد الأوروبي، لذلك لا يضغطون كثيرًا على نظام قيس سعيّد، وهو يمنح هذا الأخير جرعات أكسجين لمواصلة فرض نظام حكمه الأحادي.